فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قلت إنما يستعاذ من الفاجر فكيف قالت إن كنت تقيًا.
قلت هذا كقول القائل إن كنت مؤمنًا فلا تظلمني أي ينبغي أن يكون إيمانك مانعًا من الظلم، كذلك هاهنا معناه ينبغي أن تكون تقواك مانعة لك من الفجور {قال} لها جبريل عليه السلام {إنما أنا رسول ربك لأهب} أسند الفعل إليه وإن كانت الهبة من الله تعالى لأنه أرسل به {لك غلامًا زكيًا} قال ابن عباس ولدًا صالحًا طاهرًا من الذنوب {قالت} مريم {أنى يكون لي} أي من أين يكون لي {غلام ولم يمسسني بشر} أي ولم يقربني زوج {ولم أك بغيًا} أي فاجرة تريد أن الولد إنما يكون من نكاح أو سفاح ولم يكن هاهنا واحد منهما {قال} جبريل {كذلك قال ربك} أي هكذا قال ربك {هو علي هين} أي خلق ولدك بلا أب {ولنجعله آية للناس} أي علامة لهم ودلالة على قدرتنا {ورحمة منا} أي ونعمة لمن تبعه على دينه إلى بعثه محمد صلى الله عليه وسلم {وكان أمرًا مقضيًا} أي محكومًا مفروغًا من لا يرد ولا يبدل.
قوله: {فحملته} قيل إن جبريل رفع درعها فنفخ في جيبه فحملت حين لبست الدرع، وقيل مد جيب درعها بأصبعه ثم نفخ في الجيب، وقيل نفخ في كمها وقيل في ذيلها، وقيل في فيها، وقيل نفخ من بعيد فوصل النفخ إليها فحملت بعيسى عليه السلام في الحال {فانتبذت به} أي فلما حملته تنحت بالحمل وانفردت {مكانًا قصيًا} أي بعيدًا من أهلها.
قال ابن عباس: أقصى الوادي، وهو بيت لحم فرارًا من أهلها وقومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج.
قال ابن عباس: كان الحمل الولادة في ساعة واحدة وقيل حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها، وقيل كانت مدته تسعة أشهر كحمل سائر الحوامل من النساء، وقيل كانت مدة حملها ثمانية أشهر، وذلك آية أخرى له لأنه لا يعيش من ولد لثمانية أشهر وولد عيسى لهذه المدة وعاش، وقيل ولد لستة أشهر وهي بنت عشر سنين وقيل ثلاث عشرة سنة وقيل ستة عشر سنة وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى، وقال وهب: إن مريم لما حملت بعيسى كان معها ابن عم لها يقال له يوسف النجار، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي يمنة جبل صهيون، وكانا يخدمان ذلك المسجد ولا يعلم من أهل زمانها أحد أشد عبادة واجتهادًا منها وأول من علم بحمل مريم يوسف، فبقي متحيرًا في أمرها كلما أراد أن يتهمها ذكر عباتها وصلاحها وأنها لم تغب عنه، وإذا أراد أن يبرئها رأى ما ظهر منها من الحمل فأول ما تكلم به أن قال إنه وقع في نفسي من أمرك شيء وقد حرصت على كتمانه فغلبني ذلك فرأيت أن أتكلم به أشفي صدري، فقالت: قل قولًا جميلًا، قال أخبريني يا مريم هل ينبت زرع بغير بذر وهل ينبت شجر بغير غيث وهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت نعم ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر ألم تر أن الله أنبت الشجر بالقدرة من غير غيث أو تقول إن الله تعالى لا يقدر على أن ينبت الشجر حتى استعان بالماء ولولا ذلك لم يقدر على إنباتها قال يوسف: لا أقول هذا ولكن أقول إن الله تعالى يقدر على كل شيء يقول له كن فيكون، قالت له مريم: ألم تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى.
فعند ذلك زال ما عنده من التهمة وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل.
فلما دنت ولادتها أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك فذلك قوله تعالى: {فانتبذت به مكانًا قصيًا}.
قوله: {فأجاءها المخاض} أي ألجأها وجاء بها والمخاض وجع الولادة {إلى جذع النخلة} وكانت نخلة يبست في الصحراء في شدة البرد ولم يكن لها سعف، وقيل التجأت إليها تستند إليها وتستمسك بها من شدة الطلق، ووجع الولادة {قالت يا ليتني مت قبل هذا} تمنت الموت استحياء من الناس وخوفًا من الفضيحة {وكنت نسيًا منسياَ} يعني شيئًا حقيرًا متروكًا لم يذكر، ولم يعرف لحقارته وقيل جيفة ملقاة، وقيل معناه أنها تمنت أنها لم تخلق {فناداها من تحتها} قيل إن مريم كانت على أكمة وجبريل وراء الأكمة تحتها، وقيل ناداها من سفح الجبل وقيل هو عيسى وذلك أنه لما خرج من بطن أمه ناداها {أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريًا} أي نهرًا.
قال ابن عباس: ضرب جبريل عليه السلام، وقيل عيسى عليه السلام برجله في الأرض فظهرت عين ماء عذبة، وجرت وقيل كان هناك نهر يابس فجرى فيه الماء بقدرة الله سبحانه وتعالى وجنت النخلة اليابسة، فأورقت وأثمرت وأرطبت وقيل معنى تحتك تحت أمرك إن أمرته أن يجري جرى، وإن أمرته بالإمساك أمسك وقيل معنى سريًا أي عيسى وكان عبدًا سريًا رفيعًا {وهزي إليك} أي حركي إليك {بجذع النخلة تساقط عليك رطبًا جنيًا} قيل الجنى الذي بلغ الغاية جاء أوان اجتنائه.
قال الربيع بن خيثم: ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل {فكلي واشربي} أي مريم كلي من الرطب واشربي من النهر {وقري عينًا} أي طيبي نفسًا، وقيل قري عينًا بولدك عيسى، يقال أقر الله عينك أي صادف فؤادك ما يرضيك فتقر عينيك عن النظر إلى غيره {فإما ترين من البشر أحدًا} معناه يسألك عن ولدك {فقولي إني نذرت للرحمن صومًا} أي صمتًا، قيل كان في بني إسرائيل من أراد أن يجتهد صام عن الكلام كما يصوم عن الطعام فلا يتكلم حتى يمسي، وقيل إن الله أمرها أن تقول هذا إشارة وقيل أمرها أن تقول هذا القول نطقًا ثم تمسك عن الكلام بعده وإنما منعت من الكلام لأمرين أحدهما: أن يكون عيسى عليه السلام هو المتكلم عنها ليكون أقوى لحجتها في أزالة التهمة عنها وفيه دلالة على أن تفويض الكلام إلى الأفضل أولى.
والثاني: كراهة مجادلة السفهاء وفيه السكوت عن السفيه واجب {فلن أكلم اليوم إنسيًا} يقال إنها كانت تكلم الملائكة ولا تكلم الإنس.
قوله تعالى: {فأتت به قومها تحمله} قيل إنها لما ولدت عيسى عليه السلام حملته في الحال إلى قومها وقيل إن يوسف النجار احتمل مريم وابنها عيسى إلى غار فمكث فيه أربعين يومًا حتى طهرت من نفاسها، ثم حملته إلى قومها فكلمها عيسى في الطريق فقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه، فلما دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا وكانوا أهل بيت صالحين {قالوا يا مريم لقد جئت شيئًا فريًا} أي عظيمًا منكرًا وقيل معناه جئت بأمر عجيب وبديع {يا أخت هارون} أي شبيهة هارون قيل كان رجلًا صالحًا في بني إسرائيل شبهت به في عفتها وصلاحها وليس المراد الأخوة في النسب، قيل إنه تبع جنازته يوم مات أربعون ألف من بني إسرائيل كلهم يسمى هارون سوى سائر الناس (م) عن المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت خراسان سألوني فقالوا: إنكم تقرؤون يا أخت هارون وموسى قبل عيسى بكذا وكذا فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال: «إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم».
وقيل كان هارون أخا مريم لأبيها، وقيل كان من أمثل رجل في بني إسرائيل وقيل إنما عنوا هارون أخا موسى لأنها كانت من نسله كما يقال للتميمي يا أخا تميم، وقيل كان هارون في بني إسرائيل فاسقًا أعظم الفسق فشبهوها به {ما كان أبوك} يعني عمران {امرأ سوء} قال ابن عباس: زانيًا {وما كانت أمك} يعني حنة {بغيًا} أي زانية فمن أين لك هذا الولد.
{فأشارت إليه} أي أشارت مريم إلى عيسى أن كلمهم، قال ابن مسعود: لما لم يكن لها حجة أشارت إليه ليكون كلامه حجة لها، وقيل لما أشارت إليه غضب القوم وقالوا مع ما فعلت أتسخرين بنا {قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيًا} قيل أراد بالمهد الحجر وهو حجرها، وقيل هو المهد بعينه قيل لما سمع عيسى كلامهم ترك الرضاع وأقبل عليهم، وقيل لما أشارت إليه ترك الرضاع واتكأ على يساره وأقبل عليهم وجعل يشير بيمينه {قال إني عبد الله} قال وهب: أتاها زكرياء عند مناظرتها اليهود، فقال لعيسى: انطق بحجتك إن كنت أمرت بها، فقال عند ذلك عيسى وهو ابن أربعين يومًا، وقيل: بل يوم ولد إني عبد الله أقر على نفسه بالعبودية لله تعالى أول ما تكلم لئلا يتخذ إلهًا.
فإن قلت إن الذي اشتدت إليه الحاجة في ذلك الوقت نفي التهمة عن أمه وأن عيسى لم ينص على ذلك، وإنما نص على إثبات عبوديته لله تعالى.
قلت كأنه جعل إزالة التهمة عن الله تعالى أولى من إزالة التهمة عن أمه، فلهذا أول ما تكلم باعترافه على نفسه بالعبودية لتحصل إزالة التهمة عن الأم، لأن الله تعالى لم يختص بهذه المرتبة العظيمة من ولد في زنا، والتكلم بإزالة التهمة عن أمه لا يفيد إزالة التهمة عن الله سبحانه وتعالى فكان الاشتغال بذلك أو {آتاني الكتاب وجعلني نبيًا} قيل معناه سيجعلني نبيًا ويؤتيني الكتاب وهو الإنجيل وهذا إخبار عما كتب له في اللوح المحفوظ وهو كما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم متى كنت نبيًا قال: «كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد» وقال الأكثرون إنه أوتي الإنجيل، وهو صغير وكان يعقل عقل الرجال الكمل وعن الحسن أنه ألهم التوراة وهو في بطن أمه {وجعلني مباركًا أينما كنت} معناه أني نفاع أينما توجهت، وقيل معلمًا للخير أدعوا إلى الله وإلى توحيده وعبادته وقيل مباركًا على من يتبعني {وأوصاني بالصلاة والزكاة} أي أمرني بهما وكلفني فعلهما.
فإن قلت كيف يؤمر بالصلاة والزكاة، في حال طفوليته وقد قال صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث الصبي حتى يبلغ...» الحديث... قلت إن قوله وأوصاني بالصلاة والزكاة لا يدل على أنه تعالى أوصاه بأدائهما في الحال بل المراد أوصاه بأدائهما في الوقت المعين لهما وهو البلوغ، وقيل إن الله تعالى صيره حين انفصل عن أمه بالغًا عاقلًا وهذا القول أظهر في سياق قوله: {ما دمت حيًا} فإنه يفيد أن هذا التكليف متوجه إليه في زمان جميع حياته حين كان في الأرض وحين رفع إلى السماء وحين ينزل الأرض بعد رفعه {وبرًا بوالدتي} أي جعلني برًا بوالدتي {ولم يجعلني جبارًا شقيًا} أي عاصيًا لربي متكبرًا على الحق بل، وأنا خاضع متواضع وروي أنه قال: قلبي لين وأنا صغير في نفسي، وقال بعض العلماء لا تجد العاق إلا جبارًا شقيًا وتلا هذه الآية، وقيل الشقي الذي يذنب ولا يتوب.
{والسلام علي يوم ولدت} أي السلامة عند الولادة من طعن الشيطان {ويوم أموت} أي عند الموت من الشرك {ويوم أبعث حيًا} أي من أهوال يوم القيامة فلما كلمهم عيسى بذلك علموا براءة مريم ثم سكت عيسى فلم يتكلم حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الأطفال. اهـ.

.قال ابن جزي:

{كهيعص}.
قد تكلمنا في أول البقرة على حروف الهجاء، وكان علي بن أبي طالب يقول في دعائه: يا كهيعص فيحتمل أن تكون الجملة عنده اسمًا من أسماء الله تعالى، أو ينادي بالأسماء التي اقتطعت منها هذه الحروف {ذِكْرُ} تقديره هذا ذكر {عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ} وصفه بالعبودية تشريفًا له، وإعلامًا له بتخصيصه وتقريبه، ونصب عبده على أنه مفعول لرحمة، فإنها مصدر أضيف إلى الفاعل، ونصب المفعول، وقيل: هو مفعول بفعل مضمر، تقديره: رحمة عبده وعلى هذا يوقف على ما قبله وهذا ضعيف، وفيه تكلف الإضمار من غير حاجة إليه، وقطع العامل عن العمل بعد تهيئته له {إِذْ نادى رَبَّهُ} يعني دعاه {نِدَاءً خَفِيًّا} أخفاه لأنه يسمع الخفي كما يسمع الجهر، ولأن الإخفاء أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء، ولئلا يلومه الناس على طلب الولد {إِنَّي وَهَنَ} أي ضعف {واشتعل} استعارة للشيب من اشتعال النار {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيًّا} أي قد سعدت بدعائي لك فيما تقدم، فاستجب لي في هذا، فتوسل إلى الله بإحسانه القديم إليه.
{وَإِنِّي خِفْتُ الموالى} يعني: الأقارب قيل: خاف أن يرثوه دون نسله، وقيل: خاف أن يضيعوا الدين من بعده {مِن وَرَاءِى} أي من بعدي {عَاقِرًا} أي عقيمًا {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا} يعني وارثًا يرثني، قيل: يعني وراثة المال، وقيل: وراثة العلم والنبوة وهو أرجح لقوله صلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» وكذلك {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} العلم والنبوة، وقيل: الملك، ويعقوب هنا هو يعقوب بن إسحاق على الأصح {رَضِيًّا} أي مرضيًا فهو فعيل: بمعنى مفعول {سَمِيًّا} يعني من سُمي باسمه، وقيل: مثيلًا ونظيرًا، والأول أحسن هنا {أنى يَكُونُ لِي غلام} تعجب واستبعاد أن يكون له ولد مع شيخوخته وعقم امرأته، فسأل ذلك أولًا لعلمه بقدرة الله عليه، وتعجب منه لأنه نادر في العادة، وقيل: سأله وهو في سنّ من يرجوه، وأجيب بعد ذلك بسنين وهو قد شاخ {عِتِيًّا} قيل: يبسًا في الأعضاء والمفاصل، وقيل: مبالغة في الكبر {كذلك} الكاف في موضع رفع، أي الأمر كذلك، تصديقًا له فيما ذكر من كبره وعقم امرأته، وعلى هذا يوقف على قوله. كذلك. ثم يبتدأ: قال ربك، وقيل: إن الكاف في موضع نصب بقال، وذلك إشارة إلى مبهم يفسره: هو عليّ هين {اجعل لي آيَةً} أي علامة على حمل امرأته {سَوِيًّا} أي سليمًا غير أخرس، وانتصابه على الحال من الضمير في تكلم، والمعنى أنه لا يكلم الناس مع أنه سليم من الخرس، وقيل: إن سويًا يرجع إلى الليالي أي مستويات {فأوحى إِلَيْهِمْ} أي أشار، وقيل: كتب في التراب إذ كان لا يقدر على الكلام {أَن سَبِّحُواْ} قيل: معناه صلوا، والسبحة في اللغة الصلاة، وقيل: قولوا سبحان الله {يايحيى} التقدير قال الله ليحيى بعد ولادته: {خُذِ الكتاب} يعني التوراة {بِقُوَّةٍ} أي في العلم به والعمل به {وآتيناه الحكم صَبِيًّا} قيل:
الحكم، معرفة الأحكام، وقيل: الحكمة، وقيل: النبوة {وَحَنَانًا} قيل: معناه رحمة وقال ابن عباس: لا أدري ما الحنان {وزكاوة} أي طهارة، وقيل، ثناء كما يزكى الشاهد.
{واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ} خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم والكتاب القرآن {إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا} أي اعتزلت منهم وانفردت عنهم {مَكَانًا شَرْقِيًا} أي إلى جهة الشرق {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} يعني جبريل، وقيل: عيسى، والأول هو الصحيح؛ لأن جبريل هو الذي تمثل لها باتفاق {قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا} لما رأت الملك الذي تمثل لها في صورة البشر، قد دخل عليها خافت أن يكون من بني آدم، فقالت له هذا الكلام، ومعناه: إن كنت ممن يتقي الله فابعد عني، فإني أعوذ بالله منك، وقيل: إن تقيا اسم رجل معروف بالشرّ عندهم وهذا ضعيف وبعيد {لأَهَبَ لَكِ غلاما زَكِيًّا} الغلام الزكيّ هو عيسى عليه السلام، وقرئ ليهب بالياء، والفاعل فيه هو ضمير الرب سبحانه وتعالى، وقرئ بهمزة التكلم، وهو جبريل، وإنما نسب الهبة إلى نفسه، لأنه هو الذي أرسله الله بها، أو يكون قال ذلك حكاية عن الله تعالى: {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} البغيّ هي المرأة المجاهرة بالزنا، ووزن بغيّ فعول {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً} الضمر للولد واللام تتعلق بمحذوف تقديره: لنجعله آية فعلنا ذلك.
{فَحَمَلَتْهُ} يعني: في بطنها وكانت مدة حملها ثمانية أشهر، وقال ابن عباس: حملته وولدته في ساعة {مَكَانًا قَصِيًّا} أي بعيدًا، وإنما بعدت حياء من قومها أن يظنوا بها الشر {فَأَجَاءَهَا} معناه: ألجأها وهو منقول من جاء بهمزة التعدية {المخاض} أي النفاس {إلى جِذْعِ النخلة} رُوي أنها احتضنت الجذع لشدة وجع النفاس {قَالَتْ ياليتني مِتُّ} إنما تمنت الموت خوفًا من إنكار قومها، وظنهم بها الشر، ووقوعهم في دمها وتمني الموت جائز في مثل هذا، وليس هذا من تمني الموت لضر نزل بالبدن فإنه منهي عنه.
{وَكُنتُ نَسْيًا} النِسْي الشيء الحقير الذي لا يؤبه له، وقال بفتح النون وكسرها {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ} قرئ من بفتح الميم وكسرها، وقد اختلف على كلتا القراءتين، هل هو جبريل أو عيسى، وعلى أنه جبريل قيل: إنه كان تحتها كالقابلة، وقيل: كان في مكان أسفل من مكانها {أَلاَّ تَحْزَنِي} تفسير للنداء، فأن مفسرة {سَرِيًّا} جدولًا وهي ساقية من ماء كان قريبًا من جذع النخلة، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فسره بذلك وقيل: يعني عيسى فإن السري الرجل الكريم {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} كان جذعًا يابسًا، فخلق الله فيه الرطب كرامة لها وتأنيسًا، وقد استدل بعض الناس بهذه الآية على أن الإنسان ينبغي له أن يتسبب في طلب الرزق، لأن الله أمر مريم بهز النخلة، والباء في بجذع زائدة كقوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195] {تساقط عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} الفاعل بتساقط النخلة، وقرئ بالياء والفاعل على ذلك الجذع، ورطبًا تمييز، والجني معناه: الذي طاب وصلح لأن يجتنى {فَكُلِي واشربي} أي كلي من الرطب، واشربي من ماء الجدول، وهو السري {وَقَرِّي عَيْنًا} أي طيبي نفسًا بما جعل الله لك من ولادة نبي كريم، أو من تيسير المأكول والمشروب {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة للتأكيد، وترين فعل خوطبت به المرأة، ودخلت عليه النون الثقيلة للتأكيد {إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْمًا} أي صمتًا عن الكلام، وقيل: يعني الصيام لأن من شرطه في شريعتهم الصمت، وإنما أمرت بالصمت صيانة لها عن الكلام، مع المتهمين لها، ولأن عيسى تكلم عنها، فإخبارها بأنها نذرت الصمت بهذا الكلام، وقيل: بالإشارة، ولا يجوز في شريعتنا نذر الصمت {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا} لما رأت الآيات: علمت أن الله سيبين عذرها، فجاءت به من المكان القصي إلى قومها {شَيْئًا فَرِيًّا} أي شنيعًا وهو من الفرية.
{ياأخت هارون} كان هارون عابدًا من بني إسرائيل، شبهت به مريم في كثرة العبادة فقيل لها أخته بمعنى أنها شبهه، وقيل: كان أخاها من أبيها، وكان رجلًا صالحًا، ويل: هو هارون النبي أخو موسى وكانت من ذريته، فأخت على هذا كقولك: أخو بني فلان أي واحد منهم، ولا يتصور على هذا القول أن تكون أخته من النسب حقيقة، فإن بين زمانهما دهرًا طويلًا {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} إي إلى ولدها ليتكلم وصمتت هي كما أمرت {كَانَ فِي المهد صَبِيًّا} كان بمعنى يكون، والمهد هو المعروف، وقيل المهد هنا حجرها {آتَانِيَ الكتاب} يعني الإنجيل، أو التوراة والإنجيل {مُبَارَكًا} من البركة وقيل: نفاعًا، وقيل: معلمًا للخير. واللفظ أعم من ذلك {وأوصاني بالصلاة والزكاة} هما المشروعتان، وقيل: الصلاة هنا الدعاء، والزكاة: التطهير من العيوب {وَبَرًّا} معطوف على مباركًا، روي أن عيسى تكلم بهذا الكلام وهو في المهد، ثم عاد إلى حالة الأطفال على عادة البشر، وفي كلامه هذا ردّ على النصارى، لأنه اعترف أنه عبد الله، وردّ على اليهود لقوله: وجعلني نبيًا {والسلام عَلَيَّ} أدخل لام التعريف هنا لتقدّم السلام المنكر في قصة يحيى، فهو كقولك: رأيت رجلًا فأكرمت الرجل، وقال الزمخشري: الصحيح أن هذا التعريف تعريض بلغة من اتهم مريم كأنه قال: السلام كله عليّ لا عليكم، بل عليكم ضدّه. اهـ.