فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: نصب على الحال من عيسى، والمراد بالحق والقول ما سمعت.
وقيل: نصب على المصدر أي أقول قول الحق.
وقيل: هو مصدر مؤكد لمضمون الجملة منصوب بأحق محذوفًا وجوبًا.
وقال شيخ الإسلام: هو مصدر مؤكد لقال إني عبد الله.. إلخ. وقوله سبحانه: {ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ} اعتراض مقرر لمضمون ما قبله وفيه بعد.
و{الحق} في الأقوال الثلاثة بمعنى الصدق.
والإضافة عند جمع بيانية وعند أبي حيان من إضافة الموصوف إلى الصفة.
وقرأ الجمهور: {قَوْلَ} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو قول الحق الذي لا ريب فيه، والضمير المقدر للكلام السابق أو لتمام القصة.
وقيل: صفة لعيسى أو بدل من أو خبر بعد خبر لذلك أهو الخبر وعيسى بدل أو عطف بيان والمراد في جميع ذلك كلمة الله تعالى.
وقرأ ابن مسعود {قَالَ الحق}.
وقال الله برفع {قَالَ} فيهما.
وعن الحسن {قَوْلَ الحق} بضم القاف واللام.
والقول والقال والقول بمعنى واحد كالرهب والرهب والرهب.
ونص أبو حيان على أنها مصادر.
وعن ابن السكيت القال وكذا القيل اسم لا مصدر.
وقرأ طلحة والأعمش في رواية {قَالَ الحق} برفع لام {قَالَ} على أنه فعل ماض ورفع {الحق} على الفاعلية، وجعل {ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ} على هذا مقول القول أي قال الله تعالى ذلك الموصوف بما ذكر عيسى ابن مريم {الذى فِيهِ يَمْتُرُونَ} أي يشكون أو يتنازعون فيقول اليهود: هو ساحر وحاشاه ويقول النصارى: ابن الله سبحان الله عما يقولون.
والموصول صفة القول أو الحق أو خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي.. إلخ. وذلك بحسب اختلاف التفسير والقراءة.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والسلمي وداود بن أبي هند ونافع في رواية والكسائي كذلك {تَمْتَرُونَ} بتاء الخطاب.
{مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سبحانه}.
أي ما صح وما تستقام له جل شأنه اتخاذ ذلك وهو تكذيب للنصارى وتنزيه له عز وجل عما افتروه عليه تبارك وتعالى وقوله جل وعلا: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} تبكيت له ببيان أن شأنه تعالى شأنه إذا قضى أمرًا من الأمور أن يوجد بأسرع وقت فمن يكون هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد وهو من أمارات الاحتياج والنقص.
وقرأ ابن عامر {فَيَكُونُ} بالنصب على الجواب.
{وَإِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه}.
عطف على ما قال الواحدي على قوله: {إِنّى عَبْدُ الله} [مريم: 30] فهو من تمام قول عيسى عليه السلام تقريرًا لمعنى العبودية والآيتان معترضتان، ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقرأ أبي بغير واو.
والظاهر أنه على هذا بتقدير القول خطابًا لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم أي قل يا محمد إن الله إلخ. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو {وَأَنْ} بالواو وفتح الهمزة، وخرجه الزمخشري على حذف حرف الجر وتعلقه باعبدوه أي ولأنه تعالى ربي وربكم فاعبدوه وهو كقوله تعالى: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَدًا} [الجن: 18] وهو قول الخليل وسيبويه.
وأجاز الفراء أن يكون أن وما بعدها في تأويل مصدر عطفًا على {الزكواة} [مريم 31] أي وأوصاني بالصلاة والزكاة وبأن الله ربي وربكم إلخ.
وأجاز الكسائي أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف أي والأمر أن الله ربي وربكم.
وحكى أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء أنه عطف على {أمْرًا} من قوله تعالى: {إِذَا قَضَى أَمْرًا} [مريم: 35] أي إذ قضى أمرًا وقضى أن الله ربي وربكم وهو تخبيط في الإعراب فلعله لا يصح عن أبي عمرو فإنه من الجلالة في علم النحو بمكان، وقيل: إنه عطف على {إِنّى عَبْدُ الله} [مريم: 30] وأكثر الأقوال كما ترى.
وفي حرف أبي رضي الله تعالى عنه أيضًا {وبأن} بالواو وباء الجر وخرجه بعضهم بالعطف على الصلاة أو الزكاة وبعضهم بأنه متعلق باعبدوه أي بسبب ذلك فاعبدوه، والخطاب إما لمعاصري عيسى عليه السلام وإما لمعاصري نبينا صلى الله عليه وسلم {قَبْلَ هذا} أي ما ذكر من التوحيد {صراط مُّسْتَقِيمٍ} لا يضل سالكه وقوله تعالى: {فاختلف الاحزاب مِن بَيْنِهِمْ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها تنبيها على سوء صنيعهم بجعلهم ما يوجب الاتفاق منشأ للاختلاف فإن ما حكى من مقالات عيسى عليه السلام مع كونها نصوصًا قاطعة في كونه عبد الله تعالى ورسوله قد اختلف اليهود والنصارى بالتفريط والإفراط فالمراد بالأحزاب اليهود والنصارى وهو المروى عن الكلبي، ومعنى {مِن بَيْنِهِمْ} أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين، و{بَيْنَ} ظرف استعمل اسمًا بدخول من عليه.
ونقل في (البحر) القول بزيادة من.
وحكى أيضًا القول بأن البين هنا بمعنى البعد أي اختلفوا فيه لبعدهم عن الحق فتكون سببية ولا يخفى بعده، وقيل: المراد بالأحزاب فرق النصارى فإنهم اختلفوا بعد رفعه عليه السلام فيه فقال: نسطور هو ابن الله تعالى عن ذلك أظهره ثم رفعه، وقال يعقوب: هو الله تعالى هبط ثم صعد وقال ملكًا: هو عبد الله تعالى ونبيه، وفي الملل والنحل أن الملكانية قالوا: إن الكلمة يعني أقنوم العلم اتحدت بالمسيح عليه السلام وتدرعت بناسوته.
وقال أيضًا: إن المسيح عليه السلام ناسوت كلي لا جزئي وهو قديم وقد ولدت مريم إلهًا قديمًا أزليًا والقتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معًا، وقد قدمنا من أمر النصارى ما فيه كفاية فليتذكر، وقيل المراد بهم المسلمون واليهود والنصارى.
وعن الحسن أنهم الذين تحزبوا على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لما قص عليهم قصة عيسى عليه السلام اختلفوا فيه من بين الناس، قيل: إنهم مطلق الكفار فيشمل اليهود والنصارى والمشركين الذين كانوا في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم وغيرهم؛ ورجحه الإمام بأنه لا مخصص فيه، ورجح القول بأنهم أهل الكتاب بأن ذكر الاختلاف عقيب قصة عيسى عليه السلام يقتضي ذلك، ويؤيده قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} فالمراد بهم الأحزاب المختلفون، وعبر عنهم بذلك إيذانًا بكفرهم جميعًا وإشعارًا بعلة الحكم، وإذا قيل بدخول المسلمين أو الملكانية وقيل: إنهم قالوا بأنه عليه السلام عبد الله ونبيه في الأحزاب، فالمراد من الذين كفروا بعض الأحزاب أي فويل للذين كفروا منهم {مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي من مشهود يوم عظيم الهول والحساب والجزاء وهو يوم القيامة أو من وقت شهوده أو مكان الشهود فيه أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وهو أن تشهد الملائكة والأنبياء عليهم السلام عليهم وألسنتهم وسائر جوارحهم بالكفر والفسوق أو من وقت الشهادة أو من مكانها.
وقيل: هو ما شهدوا به في حق عيسى عليه السلام وأمه وعظمه لعظم ما فيه أيضًا كقوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5].
وقيل هو يوم قتل المؤمنين حين اختلف الأحزاب وهو كما ترى.
والحق أن المراد بذلك اليوم يوم القيامة. اهـ.

.قال القاسمي:

{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} أي: لا ما يصفه به النصارى. وهو تكذيب لهم، فيما يزعمونه، على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهانيّ. حيث جعله موصوفًا بأضداد ما يصفونه: {قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي: ومَن هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد؟
وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عِمْرَان: 59- 60]، ثم أشار إلى تتمة كلام عيسى من الأمر بعبادته تعالى وحده، بقوله سبحانه: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [36] أي: قويم. من اتبعه رشد وهدى. ومن خالفه ضلَّ وغوى.
تنبيهات في فوائد هذه القصة:
الأول: لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته، ولدًا زكيًّا طاهرًا مباركًا، عطف بذكر قصة مريم في إيجاد ولدها عيسى عليهما السلام منها من غير أب. فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة. ولهذا ذكرهما في آل عِمْرَان، وههنا، وفي سورة الأنبياء. يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه. وأنه على ما يشاء قدير. ومريم هي بنت عِمْرَان. من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل. وقد ذكر تعالى ولادة أمها لها في سورة آل عِمْرَان. وأنها نذرتها محررة للعبادة. وأنه تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا فنشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة. فكانت إحدى الناسكات المتبتلات. وكانت في كفالة زكريا ورأى لها من الكرامات ما بهره فقد كان يجد عندها كلما دخل عليها المحراب رزقًا. كما تقدم في سورة آل عِمْرَان.
الثاني: استدل بقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [17]، من قال بنبوة مريم. واستُدل بقوله تعالى عنها: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} [23]، على جواز تمني المنون لمثل تلك الحال. وبقوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [25] على التسبب في الرزق، وتكلف الكسب وإليه أشار القائل:
ألم تر أنَّ اللهَ قالَ لمريمٍ وهُزِّي ** إليكِ الجِذْعَ يَسَّاقَط الرطَبْ

ولو شاء أحنى الجذعَ من غير هزِّهِ ** إليها ولكن كل شيء لَهُ سَبَبْ

في الآية أصل لما يقوله الأطباء، إن الرطب ينفع النساء. واستدل بقوله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} بعدَ: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} على أن الحالف لا يتكلم أو لا يكلم فلانًا لا يحنث بالإشارة. وعلى أن السكوت عن السفيه واجب، كما استنبطه الزمخشري، قال: ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافهًا. وفي قوله تعالى: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} معنى قولهم في المثل: من أشبه أباه فما ظلم. وفيه أيضًا تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش.
الثالث: نقل الرازيّ عن القاضي في قوله تعالى: {والسلام عَلَيَّ} [33]،.. إلخ. أن السلام عبارة عما يحصل به الأمان. ومنه السلامة في النعم وزوال الآفات. فكأنه سأل ربه وطلب منه ما أخبر الله تعالى فعله بيحيى. ولابد في الأنبياء من أن يكونوا مستجابي الدعوة. وأعظم أحوال الإنسان احتياجًا إلى السلامة هي هذه الأحوال الثلاثة: وهي يوم الولادة ويوم البعث. فجميع الأحوال التي يحتاج فيها إلى السلامة واجتماع السعادة من قبله تعالى، طلبها ليكون مصونًا عن الآفات والمخالفات في كل الأحوال.
الرابع: قال القاشانيّ: وإنما تمثل لها بشرًا سويّ الخلق حسن الصورة، لتتأثر نفسها به وتستأنس. فتتحرك على مقتضى الجبلة. ويسري الأثر من الخيال في الطبيعة. فتتحرك شهوتها فتنزل كما يقع في المنام من الاحتلام وتنقذف نطفتها في الرحم فيتخلق منه الولد. وقد مرّ أن الوحي قريب من المنامات الصادقة، لهذء [؟؟] القوة البدنية وتعطلها عن أفعالها عنده كما في النوم. فكل ما يرى في الخيال من الأحوال الواردة على النفس الناطقة المسماة في اصطلاحنا قلبًا والاتصالات التي لها بالأرواح القدسية، يسري في النفس الحيوانية والطبيعية وينفعل منه البدن. وإنما أمكن تولد الولد من نطفة واحدة. لأنه ثبت في العلوم الطبيعية أن منيّ الذكر في تكوّن الولد، بمنزلة الأنفحة في الجبن. ومني الأنثى بمنزلة اللبن، أي: العقد من منيّ الذكر والانعقاد من منيّ الأنثى. لا على معنى أن منيّ الذكر ينفرد بالقوة العاقدة ومنيّ الأنثى بالقوة المنعقدة، بل على معنى أن القوة العاقدة في منيّ الذكر أقوى. والمنعقدة في منيّ الأنثى أقوى. وإلا لم يمكن أن يتحدا شيئًا واحدًا. ولم ينعقد منيّ الذكر حتى يصير جزءًا من الولد. فعلى هذا إذا كان مزاج الأنثى قويًا ذكوريًا، كما تكون أمزجة النساء الشريفة النفس القويّة القوى، وكان مزاج كبدها حارًّا، كان المنيُّ المنفصل عن كليتها اليمنى أحرّ كثيرًا من الذي ينفصل من كليتها اليسرى. فإذا اجتمعا في الرحم، كان مزاج الرحم قويًّا في الإمساك والجذب، قام المنفصل في الكلية اليمنى، مقام الذكر في شدة قوة العقد. والمنفصل من الكلية اليسرى مقام منيّ الأنثى في قوة الانعقاد، فيتخلق الوالد هذا. وخصوصًا إذا كانت النفس متأيدة بروح القدس، متقوية، يسري أثر اتصالها به إلى الطبيعة والبدن، ويغير المزاج ويمد جميع القوى في أفعالها بالمدّ الروحانيّ، فيصير أقدر على أفعالها بما لا ينضبط بالقياس. والله أعلم.
ثم قال في قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} في اللوح مقدرًا في الأزل. وعن ابن عباس: فاطمأنت إليه بقوله: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} فدنا منها فنفخ في جيب الدرع، أي: البدن، وهو سبب إنزالها على ما ذكرنا. كالغلمة مثلًا والمعانقة التي كثيرًا ما تصير سببًا للإنزال. وقيل: إن الروح المتمثل لها هو روح عيسى عليه السلام عند نزوله واتصالها بها وتعلقه بنطفتها. والحق أنه روح القدس. لأنه كان السبب الفاعليّ لوجوده كما قال: {لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا}. واتصال روح عيسى بالنطفة إنما يكون بعد حصول النطفة في الرحم، واستقرارها فيه، ريثما تمتزج وتتحد وتقبل مزاجًا صالحًا لقبول الروح. انتهى.
الخامس: التمثّل مشتق من المثل. ومعناه التصور. وفيه دليل على أن الملَك يتشكل بشكل البشر.
قال إمام الحرمين: تمثلُ جبريل معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه. لم يعيده إليه بعدُ.
وجزم ابن عبد السلام: بالإزالة دون الفناء وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجبًا لموته، بل يجوز أن يبقى في الجسد حيًّا. لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلًا، بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه، ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة.
وقال البلقينيّ: ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه. بل يجوز أن يكون الآتي جبريل بشكله الأصليّ. إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل. وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته. ومثال ذلك القطن، إذا جمع بعد أن كان منتفشًا. فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة، وذاته لم تتغير. وهذا على سبيل التقريب. والحق أن تمثل الملك رجلًا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلًا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسًا لمن يخاطبه. الظاهر أيضًا أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط. والله أعلم. كذا قال ابن حجر في فتح الباري.
ولا يخفى أن هذا البحث من الرجم بالغيب، واقتفاء ما لم يحط بكنهه. فالخوض فيه عبث ينتهي خائضه إلى حيث ابتدأ. لأنه من عالم الغيب الذي لا يصل علمنا إليه ولن يصل إليه بمجرد العقل. ولم يرد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم فيه نص قاطع. وكل ما كان كذلك فليس من شاننا أن نبحث فيه. فاعرف ذلك فإنه ينفعك في مواضع عديدة.
السادس: قال بعضهم: أصل كلمة عيسى: يسوع. فحرفه اليهود إلى عيسو تهكمًا فحوله العرب إلى عيسى تشبهًا باسم موسى. ولبدل الواو بالألف سبب مبنيّ على قواعد اللغة العبرانية، بل والعربية. انتهى.
{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ}.
أي: اختلف قول أهل الكتاب في عيسى، بعد بيان أمره ووضوح حاله. وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. فأصرت اليهود منهم على بهت أمه وقرفه بالسحر. وانقسمت النصارى في أمره انقسامًا يفوت الحصر. وكله ضلال وشرك وكفر. وقد هدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه. وهذا من فضله تعالى ومنّه: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يعني بالذين كفروا، المختلفين. عبّر عنهم بالموصول إيذانًا بكفرهم جميعًا وإشعارًا بعلة الحكم. وفي مَشْهَدِ ستة أوجه. لأنه مصدر ميميّ أو اسم زمان أو مكان. وعلى كل فهو إما من الشهود أي: الحضور أو الشهادة. وهذا معنى قول الزمخشريّ: أي: في شهودهم هول الحساب والجزاء إلى يوم القيامة. أو من مكان الشهود فيه وهو الموقف. أو من وقت الشهود. أو من شهادة ذلك اليوم عليهم، وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال. أو من مكان الشهادة أو وقتها.
وقيل: معناه ما شهدوا به في عيسى وأمه فعظمه لعظم ما فيه أيضًا. كقوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5]، وفيه وعيد لهم وتهديد شديد. وذلك لأنه لا أظلم ممن كذب بالحق لما جاءه. اهـ.