فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)}.
اعلم أن هذا الحرف فيه قراءتان سبعيتان: قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي {قَوْلَ الحق} بضم اللام. وقرأه ابن عامر وعاصم {قَوْلَ الحق} بالنصب. والإشارة في قوله: (ذلك) راجعة إلى المولود المذكور في الآيات المذكورة قبلل هذا. وقوله: (ذلك) مبتدأ، (وعيسى)، خبره، و(ابن مريم) نعت ل (عيسى) وقيل بدل منه. وقيل خبر بعد خبر.
وقوله: {قَوْلَ الحق} على قراءة النصب مؤكد لمضمون الجملة. وإلى نحوه اشار ابن مالك بقوله في الخلاصة:
والثاني كابني أنت حقًا صرفًا

وقيل منصوب على المدح: وأما على قراءة الجمهور بالرفع (فقول الحق) خبر مبتدأ محذوف، أي هو اي نسبته غلى أمه فقط قوله الحق. قال أبو حيان. وقال الزمخشري: وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر، أو بدل، أو خبر مبتدأ محذوف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: اعلم أن لفظة (الحق) في قوله هنا (قول الحق) فيها للعلماء وجهان:
الأول- أن المراد بالحق ضد الباطل بمعنى الصدق والثبوت. كقوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق} [الأنعام: 66] وعلى هذا القول فإعراب قوله: (قول الحق) على قراءة النصب أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة كما تقدم. وعلى قراءة الرفع فهو خبر مبتدأ محذوف كما تقدم. ويدل لهذا الوجه قوله تعالى في (آل عمران) في القصة بعينها: {الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين} [آل عمران: 60].
الوجه الثاني- أن المراد بالحق في الآية الله جل وعلا. لأن من أسمائه (الحق) كقوله: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين} [النور: 25]، وقوله: {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق} [الحج: 6] الآية. وعلى هذا القول فإعراب قوله تعالى: {قَوْلَ الحق} على قراءة النصب أنه منصوب على المدح. وعلى قراءة الرفع فهو بدل من «عيسى» أو خبر، بعد خبر، بعد خبر وعلى هذا الوجه ف (قول الحق)، هو (عيسى) كما سماه الله كلمة في قوله: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ} [النساء: 171]، وقوله: {إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح} [آل عمران: 45] الآية. وإنما سمي (عيسى) كلمة لأن الله أوجده بكلمته التي هي (كن) فكان. كما قال: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن} [آل عمران: 59]. والقول والكلمة على هذا الوجه من التفسير بمعنى واحد.
وقوله: {الذي فِيهِ يَمْتُرُون} أي يسكون. فالامتراء افتعال من المرية وهي الشك. وهذا الشك الذي وقع للكفار نهى الله عنه المسلمين على لسان نبيهم في قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين} [آلعمران: 59-60] وهذا القول الحق الذي أوضح الله به حقيقة الأمر في شأن عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بعد نزوله على نبينا صلى الله عليه وسلم- أمره ربه أن يدعو من حاجة في شأن عيسى إلى المباهلة. ثم أخبره أن ما قص عليه من خبر عيس هو القصص الحق، وذلك في قوله تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العلم فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ الله عَلَى الكاذبين إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق} [آل عمران: 61-62] الآية. ولما نزلت ودعا النبي صلى الله عليه وسلم وفد نجران إلى المباهلة خافوا الهلاك وأدوا كما هو مشهور.
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)
اعلم أولًا أن لفظ {ما كان} يدل على النفي، فتارة يدل ذلك النفي من جهة المعنى على الزجر والردع، كقوله تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله} [التوبة: 120] الآية. وتارة يدل على التعجيز، كقوله تعالى: {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السماء مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} [النمل: 59-60] الآية. وتار يدل على التنزيه، كقوله هنا {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} وقد اعقبه بقوله: {سُبْحَانَهُ} أي تنزيهًا له أن اتخاذ الولد وكل ما لا يليق بكماله وجلاله. فقوله: {مَا كَانَ للَّهِ} بمعنى ما يصح ولا يتأتى ولا يتصور في حقه جل وعلا أن يتخذ ولدًا، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. والآية كقوله تعالى: {وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92]. وفي هذه الآية الرد البالغ على النصارى الذين زعموا المحال في قولهم (عيسى ابن الله) وما نزه عنه جل وعلا نفسه هنا من الولد المزعوم كذبًا كعيسى- نزه عنه نفسه في مواضع أخر، كقوله تعالى: {إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ} [النساء:-171] إلى قوله: {إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 171] الآية. والآيات الدالة على مثل ذلك كثيرة، كقوله تعالى: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدًّا أَن دَعَوْا للرحمن وَلَدًا} [مريم: 88-91] إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم مستوفى في سورة (الكهف).
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {إِذَا قضى أَمْرًا} أي أراد قضاءه، بدليل قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، وقوله تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] وحذف فعل الإرادة لدلالة المقام عليه كثير في القرآن وفي كلان العرب، ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} [المائدة: 6] الآية، أي إذا أردتم القيام إليها، وقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم} [النحل: 98] أي إذا أردت قراءة القرآن، كما تقدم مستوفى.
وقوله تعالى في الآية التي نحن بصددها: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} زيدت فيه لفظة من المفعول به لتاكيد العموم. وقد تقرر في الأصول أن النكرة في سياق النفي إذا زيدت قبلها لفظة من لتوكيد العموم كانت نصًا صريحًا في العموم، وتطرد زيادتها للتوكيد المذكور قبل النكرة في سياق النفي في ثلاثة مواضع: قبل الفاعل كقوله تعالى: {مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ} [القصص: 46]، وقبل المفعول كهذه الآية، وكقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ} [الأنبياء: 25] الآية: وقبل المبتدأ كقوله: {مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
أظهر الأقوال في (الأحزاب) المذكورة في هذه الآية- أنهم فرق اليهود والنصارى الذي اختلفوا في شأن عيسى. فقالت طائفة: هو ابن زنى. وقالت طائفة: هو ابن الله. وقالت طائفة: هو الله. وقالت طائفة: هو إله مع الله. ثم إن الله توعد الذين كفروا منهم بالويل لهم من شهود يوم القيامة. وذلك يشمل من كفر بالتفريط في عيسى كالذي قال إنه ابن زنى. ومن كفر بالإفراط فيه كالذي قالوا إنه الله أو ابنه. وقوله: (ويلك) كلمة عذب. فهو مصدر لا فعل له من لفظه. وسوغ الابتداء به وهو نكرة كونه في معنى الدعاء. والظاهر أن المشهد في الآية مصدر ميمي. أي فويل لهم من شهود ذلك اليوم اي حضروه لما سيلاقونه فيه من العذاب. خلافًا لمن زعم أن المشهد في الآية اسم مكان. أي فويل لهم من ذلك المكان الذي يشهدون فيه تاك الأهوال والعذاب. والأول هو الظاهر وهو الصواب إن شاء الله تعالى. وهذا المعنى الذي ذكره أيضًا في سورة (الزخرف) في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عيسى بالبينات قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ إِنَّ الله هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف: 63-65] وما اشار إليه في الآيتين: من أن الذين كفروا بالإفراط أو التفريط في عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أنه لم يعاجلهم بالعذاب، وانه يؤخر عذابهم إلى الوقت المحدد لذلك- أشار له في مواضع أخر. كقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} [إبراهيم: 42]، وقوله تعالى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} [هود: 104]، وقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ العذاب وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [العنكبوت: 53]. وبالجملة فالله تعالى يمهل الظالم إلى وقت عذابه، ولكنه لا يمهله. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»- ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]، وقال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير} [الحج: 48]. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ} قال أبو حيان في (البحر): ومعنى قوله: {من بينهم} أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هو المختلفين- انتهى محل الغرض منه.
قوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} صيغتا تعجب. ومعنى الآية الكريمة: أن الكفار يوم القيامة يسمعون ويبصرون الحقائق التي أخبرتهم بها الرسل سمعًا وأبصارًا عجيبين، وانهم في دار الدنيا في ضلال وغفلة لا يسمعون الحق ولا يبصرونه. وهذا الذي بينه تعالى في هذه الآية الكريمة- بينه في مواضع أخر. كقوله في سمعهم وإبصاررهم يوم القيامة: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12]، وقوله تعالى: {لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} [ق: 22]، وكقوله في غفلتهم في الدنيا وعدم إبصارهم وسمعهم: {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1]، وقوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]، وقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18]، وقوله: {مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع} [هود: 24] الآية. والمراد بالأعمى والأصم: الكفار. والآيات بمثل هذا كثيرة. واعلم أن صيغة التعجب إذا كانت على وزن أفعل به فهي فعل عند الجمهور، وأكثرهم يقولون إنه فعل ماض جاء على صورة الأمر. وبعضهم يقول: إنه فعل أمر لإنشاء التعجب، وهو الظاهر من الصيغة، ويؤيده دخول نون التوكيد عليه. كقول الشاعر:
ومستبدل من بعد غضيبًا صريمه ** فأحر به من طول فقر وأحريا

لأن الألف في قوله: (وأحريا) مبدلة من نون التوكيد الخفيفة على حدل قوله في الخلاصة:
وأبدلتها بعد فتح ألفًا ** وقفًا كما تقول في قفن قفا

والجمهور أيضًا على أن صيغة التعجب الأخرى التي هي ما أفعله فعل ماض. خلافًا لجماعة من الكوفيين في قولهم: إنها بدليل تصغيرها في قول العرجي:
يا ما أميليح عزلانًا شدن لنا ** من هؤلياتكم لضال السمر

قالوا والتصغير لا يكون إلا في الأسماء. وأجاب من خالفهم بأن تصغيرها في البيت المذكور شاذ يحفظ ولا يقاس عليه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}.
اعتراض بين الجُمل المقولة في قوله: {قال إني عَبْدُ الله} [مريم: 30] مع قوله: {وإن الله ربي وربكم} [مريم: 36]، أي ذلك المذكور هو عيسى ابن مريم لا كما تزعم النصارى واليهود.
والإشارة لتمييز المذكور أكمل تمييز تعريضًا بالرد على اليهود والنصارى جميعًا، إذ أنزله اليهود إلى حضيض الجناة، ورفعه النصارى إلى مقام الإلهية، وكلاهما مخطىء مبطل، أي ذلك هو عيسى بالحق، وأما من تصفونه فليس هو عيسى لأن استحضار الشخص بصفات غير صفاته تبديل لشخصيته، فلما وصفوه بغير ما هو صفته جُعلوا بمنزلة من لا يعرفونه فاجتلب اسم الإشارة ليتميز الموصوف أكمل تمييز عند الذين يريدون أن يعرفوه حق معرفته.
والمقصود بالتمييز تمييز صفاته الحقيقية عن الصفات الباطلة التي ألصقوها به لا تمييزُ ذاته عن الذوات إذ ليست ذاته بحاضرة وقت نزول الآية، أي تلك حقيقة عيسى عليه السلام وصفته.
و{قَوْلُ الحقّ} قرأهُ الجمهور بالرفع، وقرأه ابن عامر، وعاصم، ويعقوب بالنصب؛ فأما الرفع فهو خبرٍ ثانٍ عن اسم الإشارة أو وصف لعِيسى أو بدل منه، وأما النصب فهو حال من اسم الإشارة أو من عيسى.
ومعنى {قَولَ الحقّ} أن تلك الصفات التي سمعتم هي قول الحق، أي مَقول هو الحق وما خالفها باطل، أو أن عيسى عليه السلام هو قول الحق، أي مقول الحق، أي المكون من قول (كُن)، فيكون مصدرًا بمعنى اسم المفعول كالخلق في قوله تعالى: {هذا خلق الله} [لقمان: 11].
وجَوّز أبو علي الفارسي أن يكون نصب {قَولَ الحقّ} بتقدير: أحُقُّ قولَ الحق، أي هو مصدر مؤكّد لمضمون الجملة قبله منصوب بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: أحُقّ قولَ الحق.
ويجوز أن يكون {قَولَ الحقّ} مصدرًا نائبًا عن فعله، أي أقول قول الحق.
وعلى هذين الوجهين يكون اعتراضًا.
ويجوز أن يكون {قَولَ} مصدرًا بمعنى الفاعل صفة لعِيسَى أو حالًا منه، أي قائل الحق إذ قال: {إنِّي عَبْدُ الله ءاتانِي الكِتابَ} إلى قوله: {أُبْعثُ حَيًّا} [مريم: 30 33].
و{الَّذي فيهِ يمْتَرُونَ} صفة ثانية أو حال ثانية أو خبر ثان عن {عيسى ابنُ مريمَ} على ما يناسب الوجوه المتقدمة.
والامتراء: الشكّ، أي الذي فيه يشكون، أي يعتقدون اعتقادًا مَبناه الشك والخطأ، فإن عاد الموصول إلى القول فالامتراء فيه هو الامتراء في صدقه، وإن عاد إلى عيسى فالامتراء فيه هو الامتراء في صفاته بين رافع وخافض.
وجملة {مَا كَانَ لله أنْ يتَّخِذْ من ولد} تقرير لمعنى العبودية، أو تفصيل لمضمون جملة {الذي فيه يمترون} فتكون بمنزلة بدل البعض أو الاشتمال منها، اكتفاءً بإبطال قول النصارى بأن عيسى ابن الله، لأنه أهم بالإبطال، إذ هو تقرير لعبودية عيسى وتنزيه لله تعالى عما لا يليق بجلال الألوهيّة من اتخاذ الولد ومن شائبة الشرك، ولأنه القول الناشيء عن الغلوّ في التقديس، فكان فيما ذكر من صفات المدح لعيسى ما قد يقوي شبهتهم فيه بخلاف قول اليهود فقد ظهر بطلانه بما عُدد لعيسى من صفات الخير.