فصل: تفسير الآيات (38- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والنّسى المنسيّ: الشيء التافه الذي لا يحرص أصحابه على الإمساك به، ولا يذكرونه إذا ضاع منهم..
والسّرىّ: النهر الصغير، الذي يسرى في رقة وسكون.. والسّرىّ:
العظيم من الناس، المحمود فيهم..
والشيء الفرىّ: هو الغريب العجيب، الذي يجىء على غير مألوف الناس، فيفرى: أي يخرق عاداتهم..
والذي نريد أن نشير إليه من هذه القصة:
أولا: قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ} هو تنويه بشأنها، وذلك بإفساح مكان لها في القرآن الكريم، تذكر فيه، مع من يذكر من عباد اللّه المخلصين..
وثانيا: في سورة آل عمران، جاء قوله تعالى: {إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} (آل عمران: 45)..
فالخطاب موجه إلى مريم من جماعة من الملائكة.. وهنا في سورة مريم يكون الخطاب بينها وبين ملك واحد: {فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا}.
{قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا}.
فما وجه هذا الخلاف في الموضعين، والقصة واحدة؟.
ونقول: إن المراد بالملائكة هناك هو عالم الملائكة، الممثل في واحد أو أكثر كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ (173)} (آل عمران) حيث يصح أن يكون القائل واحدا من الناس لا جماعة منهم..
والذي يشهد لهذا أنه حين استمعت مريم إلى ما حدثها به عالم الملائكة وأظهرت عجبا واعتراضا على ما حدّثت به- كان الذي تولى دفع هذا العجب وردّ هذا الاعتراض، ملك واحد.. كما جاء في قوله تعالى: {قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ (47)} (آل عمران)..
وثالثا: لم تشر الآيات في آل عمران إلى أن أحدا من الملائكة قد تمثل لها في صورة بشر، وهنا قد أشارت الآيات إلى أن (الروح) قد تمثل لها بشرا سويا..
فما جاء هنا مكمل للصورة التي جاءت هناك، شارح لها، على حين يمكن أن تستقل كل صورة بالكشف عن الحدث، دون أن يختلف وجه الحقيقة بينهما..
ورابعا: في قوله تعالى: {فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ} إشارة إلى أن عيسى عليه السلام قد ولد ميلادا طبيعيا من رحم أمه، كما يولد غيره من الناس، وكما تلد الأمهات أبناءهن.. وأن مريم قد حملت به حملا طبيعيا، حتى إذا استوفت مدة حمله، وأحست بالمخاض لجأت إلى جذع نخلة، واستندت إليها، حتى تجد القوة على دفع الحمل من رحمها..
وخامسا: قوله تعالى: {فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}..
اختلف في المنادى لها: أهو ملك؟ أم وليدها الذي بدأ يتحرك إلى العالم الخارجي؟..
والذي نأخذ به، هو أن المنادى لها، لا يكون ملكا، إذ لو كان ملكا لناداها من علوّ، وهو الجهة المتنزل منها.. وأنه إذا كان المنادى ملكا فلم يجىء إليها من تحت لا من فوق؟ وإذن فالمنادى لها هو من كان تحتها بالفعل، وهو وليدها!..
وفى حديث وليدها إليها في هذا الوقت، ما يكشف لها عن التجربة التي ستواجه بها قومها منه، حين تدعوه إلى الكلام، فيتكلم.. ولو أن عيسى لم يكن قد تكلم إليها، وأسمعها صوته من قبل، لما وجدت الجرأة على أن تلقى قومها بالطفل، ثم تلقاهم بهذا التحدّى، وهو أن تدعوهم إلى الاستماع إليه! ومما يؤيد هذا الرأى قراءة من قرأ: {فَناداها مِنْ تَحْتِها} باعتبار (من اسم موصول) يقع فاعلا للفعل (نادى)..
وسادسا: في قوله تعالى: {يا أُخْتَ هارُونَ}..
اختلف في هرون هذا.. من يكون؟ أهو هرون النبىّ أخو موسى؟
أم هو أخ لها من أبيها؟ أم هو رجل صالح معروف بين قومها بالتقوى؟ أم هو رجل فاجر يضرب به المثل عندهم لكل من يأتى منكرا؟
والذي نأخذ به أن (هارون) هذا هو هارون النبىّ، وقد أضيفت إليه، ولم تضف إلى موسى، لأنها كانت من نسل هارون، ولأن موسى لم يعقب نسلا..
وأضيفت إليه إضافة أخوة، لا إضافة بنوّة، لأن أبناء هرون، وذريته المتعاقبة منهم لم يكونوا على حال واحدة من الاستقامة والتقوى، ففيهم الصالح، وفيهم الفاسد،.. فهى وإن كانت بنت هرون نسبا، هي أخته وصنوه استقامة وصلاحا!..
وسابعا: قوله تعالى: {ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ما كانَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ}..
هو تعقيب على القصة، وعلى ميلاد هذا المولود على تلك الصورة التي أوقعت كثيرا من الناس في الضلال، فاتخذوا منه إلها، وجعلوه وجها من وجوه ثلاثة جعلوها للّه، هي الأب، والابن، وروح القدس..
وهذا التعقيب، قد يكون على لسان عيسى عليه السّلام.. كاشفا به عن حقيقته، وأنه إن يكن قد ولد لغير أب، أو تكلّم يوم مولده، فإن ذلك لم يكن ليخرجه عن حدود البشرية، ولم يكن ليجعل له إلى الألوهية سبيلا من أي وجه، وعلى أية صفة.. وقد يكون ذلك قولا ينبغى أن يقوله كل من يستمع إلى آيات اللّه التي تحدّث بها القرآن، عن مولد عيسى، فيصدّق بها، وينظر من خلالها إلى جلال اللّه وعظمته، وتفرّده بالخلق والأمر..
فالذين يمترون في عيسى، ويجادلون في أمره، بين من يرميه بأنه ابن سفاح، وبين من يقول إنه إله أو ابن إله- هؤلاء الذين يمترون فيه، قد كشف لهم عيسى عن وجهه، وتحدث إليهم بلسانه.. إنه عيسى بن مريم، وذلك هو القول الحق الذي ينبغى أن يقال فيه.. فهو ابن امرأة، لم تجىء به من رجل، وإنما من نفخة تلقتها من روح اللّه.. وانتماؤه أولا وأخيرا إلى أمّه، التي حملت به، ووضعته وأرضعته.. أما القول بأنه ابن اللّه، فهو قول آثم، سفيه {ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ولو شاء- سبحانه- أن يخرج عيسى إلى هذه الدنيا من غير أب أو أم لما كان ذلك بالمعجز لقدرة اللّه.. {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} (آل عمران).
ويكفى أن يكون آخر ما نطق به عيسى أن قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} ويكفى أن يكون آخر ما نطق به في مهده: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ}- يكفى هذا ليكون شهادة تبطل كل قول يقال فيه، غير الذي نطق هو به. اهـ.

.تفسير الآيات (38- 40):

قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان ذلك المشهد عظيم الجمع، شديد الزحام مستوي الأرض، بعيد الأرجاء، كان حاله مقتضيًا لئلا يطلعوا على غير ما يليهم من أهواله، فقال في جواب من يقول: وما عسى أن يسمعوا أو يبصروا فيه، معلمًا بأن حالهم في شدة السمع والبصر جديرة بأن يعجب منها: {أسمع بهم وأبصر} أي ما أشد سمعهم وما أنفذ بصرهم! {يوم يأتوننا} سامعين لكل أهواله، مبصرين لسائر أحواله، فيطلعون بذلك على جميع ما أدى عمله في الدنيا إلى ضرهم في ذلك اليوم، وجميع ما كان ينفعهم لو عملوه، فيندمون حيث لا ينفعهم الندم، ويتمنون المحال من الرجوع إلى الدنيا ونحوه ليتداركوا فلا يجابون إلى ذلك، بل يسلك بهم في كل ما يؤذيهم ويهلكهم ويرديهم، فيكونون بسلوك ذلك- وهم يعلمون ضرره عميًا وبكمًا وصمًّا، لأنهم لا ينتفعون بمداركهم كما كانوا في الدنيا كذلك، لكنهم- هكذا كان الأصل، وإنما أظهر فقال: {لكن الظالمون} تنبيها على الوصف الذي أحلهم ذلك المحل {اليوم في ضلال مبين} لا يسمعون ولا يبصرون.
ولما كان هذا الذي تقدم إنذارًا بذلك المشهد، كان التقدير: أنذر قومك ذلك المشهد وما يسمعونه فيه ويبصرونه {وأنذرهم يوم الحسرة} نفسه في ذلك المشهد العظيم، يوم تزل القدم، ولا ينفع الندم، للمسيء على إساءته، وللمحسن على عدم ازدياده من الإحسان.
ولما كان {يوم} مفعولًا، لا ظرفًا، أبدل منه، أو علل الإنذار فقال: {إذ} أي حين، أو لأنه، وعبر عن المستقبل بالماضي، إيذانًا بأنه أمر حتم لابد منه فقال: {قضي الأمر} أي أمره وفرغ منه بأيسر شأن وأهون أمر، وقطعنا أنه لابد من كونه {وهم} حال من {أنذرهم} أي والحال أنهم الآن {في غفلة} عما قضينا أن يكون في ذلك الوقت من أمره، لا شعور لهم بشيء منه، بل يظنون أن الدهر هكذا حياة وموت بلا آخر {وهم لا يؤمنون} بأنه لابد من كونه؛ وفي الصحيح ما يدل على أن يوم الحسرة حين يذبح الموت فقد روى مسلم عن أبي سعيد- رضي الله عنهم- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم ـ: «يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيقال: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا، فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم! هذا الموت، ويقال: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم! هذا الموت، فيؤمر به فيذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت، ثم قرأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفي وراية: فذلك قوله: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر}» الآية.
وأما الغفلة ففي الدنيا، روى ابن حبان في صحيحه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- {إذ قضي الأمر وهم في غفلة} قال: «في الدنيا». قال المنذري: وهو في مسلم بمعناه في آخر حديث.
ولما كان الإرث هو حوز الشيء بعد موت أهله، وكان سبحانه قد قضى بموت الخلائق أجمعين، وأنه يبقى وحده، عبر عن ذلك بالإرث مقررًا به مضمون الكلام السابق، فقال مؤكدًا تكذيبًا لقولهم: إن الدهر لا يزال هكذا، حياة لقوم وموت لآخرين {إنا نحن} بعظمتنا التي اقتضت ذلك ولابد، وأفاد الأصبهاني أن تأكيد اسم {إن} أفاد أن الإسناد إليه سبحانه لا إلى أحد من جنده {نرث الأرض} فلا ندع بها عامرًا من عاقل ولا غيره.
ولما كان العاقل أقوى من غيره، صرح به بعد دخوله فقال: {ومن عليها} أي من العقلاء، بأن نسلبهم جميع ما في أيديهم {وإلينا} لا إلى غيرنا من الدنيا وجبابرتها إلى غير ذلك {يرجعون} معنى في الدنيا وحسًا بعد الموت. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
قالوا: التعجب هو استعظام الشيء مع الجهل بسبب عظمه، ثم يجوز استعمال لفظ التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب أو من غير أن يكون للعظم سبب حصول، قال الفراء قال سفيان: قرأت عند شريح: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ} [الصافات: 12] فقال: إن الله لا يعجب من شيء إنما يعجب من لا يعلم فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال: إن شريحًا شاعر يعجبه علمه، وعبد الله أعلم بذلك منه قرأها: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ} ومعناه أنه صدر من الله تعالى فعل لو صدر مثله عن الخلق لدل على حصول التعجب في قلوبهم، وبهذا التأويل يضاف المكر والاستهزاء إلى الله تعالى، وإذا عرفت هذا فنقول: للتعجب صفتان: إحداهما: ما أفعله.
والثانية: أفعل به كقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} والنحويون ذكروا له تأويلات: الأول: قالوا: أكرم بزيد أصله أكرم زيد أي صار ذا كرم كأغد البعير أي صار ذا غدة إلا أنه خرج على لفظ الأمر ومعناه الخبر كما خرج على لفظ الخبر ما معناه الأمر كقوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228]، {والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن} [البقرة: 233]، {قُلْ مَن كَانَ في الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدًّا} [مريم: 75] أي يمد له الرحمن مدًا، وكذا قولهم: رحمه الله خبر وإن كان معناه الدعاء والباء زائدة.
الثاني: أن يقال إنه أمر لكل أحد بأن يجعل زيدًا كريمًا أي بأن يصفه بالكرم، والباء زائدة مثل قوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195] ولقد سمعت لبعض الأدباء فيه تأويلًا.
ثالثًا: وهو أن قولك أكرم بزيد يفيد أن زيدًا بلغ في الكرم إلى حيث كأنه في ذاته صار كرمًا حتى لو أردت جعل غيره كريمًا فهو الذي يلصقك بمقصودك ويحصل لك غرضك، كما أن من قال: أكتب بالقلم فمعناه أن القلم هو الذي يلصقك بمقصودك ويحصل لك غرضك.
المسألة الثانية:
قوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: وهو المشهور الأقوى أن معناه ما أسمعهم وما أبصرهم والتعجب على الله تعالى محال كما تقدم، وإنما المراد أن أسماعهم وأبصارهم يومئذ جدير بأن يتعجب منهما بعدما كانوا صمًا وعميًا في الدنيا، وقيل: معناه التهديد مما سيسمعون وسيبصرون مما يسوء بصرهم ويصدع قلوبهم.
وثانيها: قال القاضي ويحتمل أن يكون المراد أسمع هؤلاء وأبصرهم أي عرفهم حال القوم الذين يأتوننا ليعتبروا وينزجروا.
وثالثها: قال الجبائي: ويجوز أسمع الناس بهؤلاء وأبصرهم بهم ليعرفوا أمرهم وسوء عاقبتهم فينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم أما قوله: {لكن الظالمون اليوم في ضلال مُّبِينٍ} ففيه قولان: الأول: لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين وفي الآخرة يعرفون الحق.
والثاني: {لكن الظالمون اليوم في ضلال مُّبِينٍ} وهم في الآخرة في ضلال عن الجنة بخلاف المؤمنين، وأما قوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ} فلا شبهة في أنه أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن ينذر من في زمانه فيصلح بأن يجعل هذا كالدلالة على أن قوله فاختلف الأحزاب أراد به اختلاف جميعهم في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وأما الإنذار فهو التخويف من العذاب لكي يحذروا من ترك عبادة الله تعالى وأما يوم الحسرة فلا شبهة في أنه يوم القيامة من حيث يكثر التحسر من أهل النار وقيل يتحسر أيضًا في الجنة إذا لم يكن من السابقين الواصلين إلى الدرجات العالية والأول هو الصحيح لأن الحسرة غم وذلك لا يليق بأهل الثواب، أما قوله تعالى: {إِذْ قُضِىَ الأمر} ففيه وجوه: أحدها: إذ قضى الأمر ببيان الدلائل وشرح أمرالثواب والعقاب.
وثانيها: إذ قضى الأمر يوم الحسرة بفناء الدنيا وزوال التكليف والأول أقرب لقوله: {وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فكأنه تعالى بين أنه ظهرت الحجج والبينات وهم في غفلة وهم لا يؤمنون.
وثالثها: روي أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: قضى الأمر: «فقال حين يجاء بالموت في صورة كبش أملح فيذبح والفريقان ينظران فيزداد أهل الجنة فرحًا على فرح وأهل النار غمًا على غم» واعلم أن الموت عرض فلا يجوز أن يصير جسمًا حيوانيًا بل المراد أنه لا موت ألبتة بعد ذلك وأما قوله: {وَهُمْ في غَفْلَةٍ} أي عن ذلك اليوم وعن كيفية حسرته وهم لا يؤمنون أي بذلك اليوم ثم قال بعده: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا} أي هذه الأمور تؤول إلى أن لا يملك الضر والنفع إلا الله تعالى: {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أي إلى محل حكمنا وقضائنا لأنه تعالى منزه عن المكان حتى يكون الرجوع إليه وهذا تخويف عظيم وزجر بليغ للعصاة. اهـ.