فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {واذكر في الكتاب إِبراهيم} أي: اذكر لقومك قصته. وقد سبق معنى الصِّدِّيق في [النساء: 69].
قوله تعالى: {ولا يغني عنكَ شيئًا} أي: لا يدفع عنكَ ضرًّا.
قوله تعالى: {إِني قد جاءني من العِلْم} بالله والمعرفة {ما لم يأتك}.
قوله تعالى: {لا تعبد الشيطان} أي: لا تُطعه فيما يأمر به من الكفر والمعاصي.
وقد شرحنا معنى {كان} آنفًا.
و{عَصِيًّا} أي: عاصيًا، فهو (فعيل) بمعنى (فاعل).
قوله تعالى: {إِني أخاف أن يَمَسَّكَ عذاب من الرحمن} قال مقاتل: في الآخرة؛ وقال غيره: في الدنيا، {فتكونَ للشيطان وليًّا} أي: قرينًا في عذاب الله، فجرت المقارنة مجرى الموالاة.
وقيل: إِنما طمع إِبراهيم في إِيمان أبيه، لأنه حين خرج من النار قال له: نِعْمَ الإِله إِلهك يا إِبراهيم، فحينئذ أقبل يعظه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا}.
المعنى: واذكر في الكتاب الذي أنزل عليك وهو القرآن قصة إبراهيم وخبره.
وقد تقدّم معنى الصدّيق في (النساء) واشتقاق الصدق في (البقرة) فلا معنى للإعادة.
ومعنى الآية: اقرأ عليهم يا محمد في القرآن أمر إبراهيم فقد عرفوا أنهم من ولده، فإنه كان حنيفًا مسلمًا وما كان يتخذ الأنداد، فهؤلاء لم يتخذون الأنداد؟! وهو كما قال: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130].
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لاَّبِيهِ} وهو آزر وقد تقدّم.
{يا أبت} قد تقدّم القول فيه في (يوسف) {لِمَ تَعْبُدُ} أي لأي شيء تعبد: {مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا} يريد الأصنام.
{يا أبت إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ} أي من اليقين والمعرفة بالله وما يكون بعد الموت، وأن من عبد غير الله عذب {فاتبعني} إلى ما أدعوك إليه.
{أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} أي أرشدك إلى دين مستقيم فيه النجاة.
{يا أبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان} أي لا تطعه فيما يأمرك به من الكفر، ومن أطاع شيئًا في معصية فقد عبده.
{إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيًّا} (كان) صلة زائدة. وقيل: كان بمعنى صار. وقيل: بمعنى الحال؛ أي هو للرحمن. وعصيا وعاصٍ بمعنى واحد؛ قاله الكسائي. {يا أبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن} أي إن متَّ على ما أنت عليه. ويكون {أَخَافُ} بمعنى أعلم. ويجوز أن يكون {أَخَافُ} على بابها فيكون المعنى: إني أخاف أن تموت على كفرك فيمسك العذاب. {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} أي قرينًا في النار. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ}.
{واذكر} خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد اتل عليهم نبأ {إبراهيم} وذاكره ومورده في التنزيل هو الله تعالى، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر قصة مريم وابنها عيسى واختلاف الأحزاب فيهما وعبادتهما من دون الله، وكانا من قبيل من قامت بهما الحياة ذكر الفريق الضال الذي عبد جمادًا والفريقان وإن اشتركا في الضلال، والفريق العابد الجماد أضل ثم ذكر قصة إبراهيم مع أبيه عليه السلام تذكيرًا للعرب بما كان إبراهيم عليه من توحيد الله وتبيين أنهم سالكو غير طريقه، وفيه صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به وأن ذلك متلقى بالوحي والصديق من أبنية المبالغة وهو مبني من الثلاثي للمبالغة أي كثير الصدق، والصدق عرفه في اللسان ويقابله الكذب، وقد يستعمل في الأفعال والخلق وفيما لا يعقل يقال: صدقني الطعام كذا وكذا قفيزًا، وعود صدق للصلب الجيد فوصف إبراهيم بالصدق على العموم في أقواله وأفعاله، والصديقية مراتب ألا ترى إلى وصف المؤمنين بها في قوله: {من النبيين والصدّيقين} ومن غريب النقل ما ذهب إليه بعض النحويين من أن فعيلًا إذا كان من متعد جاز أن يعمل فتقول هذا شريب مسكر كما أعملوا عند البصريين فعولًا وفعالًا ومفعالًا.
وقال الزمخشري: والمراد فرط صدقه وكثرة ما صدق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسوله، وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل أي كان مصدقًا لجميع الأنبياء وكتبهم وكان {نبيًا} في نفسه لقوله تعالى: {بل جاء بالحق وصدق المرسلين} وكان بليغًا في الصدق لأن ملاك أمر النبوة الصدق ومصدق الله بآياته ومعجزاته حري أن يكون كذلك، وهذه الجملة وقعت اعتراضًا بين المبدل منه وبدله أعني {إبراهيم}.
و{إذ قال} نحو قولك: رأيت زيدًا ونعم الرجل أخاك، ويجوز أن تتعلق {إذ} بكان أو ب {صديقًا نبيًا} أي كان جامعًا لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات انتهى.
فالتخريج الأول يقتضي تصرف {إذ} وقد تقدم لنا أنها لا تتصرف، والتخريج الثاني مبني على أن كان الناقصة وأخواتها تعمل في الظروف وهي مسألة خلاف.
والتخريج الثالث لا يصح لأن العمل لا ينسب إلاّ إلى لفظ واحد، أما أن ينسب إلى مركب من مجموع لفظين فلا، وجائز أن يكون معمولًا لصديقًا لأنه نعت إلاّ على رأي الكوفيين، ويحتمل أن يكون معمولًا لنبيًا أي منبأ في وقت قوله لأبيه ما قال، وأن التنبئة كانت في ذلك الوقت وهو بعيد.
وقرأ أبو البر هثيم إنه كان صادقًا.
وفي قوله: {يا أبت} تلطف واستدعاء بالنسب.
وقرأ ابن عامر والأعرج وأبو جعفر {يا أبت} بفتح التاء وقد لحن هارون هذه القراءة، وتقدم الكلام على {يا أبت} في سورة يوسف عليه السلام، وفي مصحف عبد الله وا أبت بواو بدل ياء، واستفهم إبراهيم عليه السلام عن السبب الحامل لأبيه على عبادة الضم وهو منتف عنه السمع والبصر والإغناء عنه شيئًا تنبيها على شنعة الرأي وقبحه وفساده في عبادة من انتفت عنه هذه الأوصاف.
وخطب الزمخشري فقال: انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطًا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصى فيه أمر العقل وانسلخ عن قضية التمييز كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق وساقه أرشق مساق مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن منتصحًا في ذلك نصيحة ربه جل وعلا.
حدث أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام إنك خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار، تدخل مداخل الأبرار، كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أظله تحت عرشي وأسكنه حظيرة القدس، وأدنيه من جواري».
وسرد الزمخشري بعد هذا كلامًا كثيرًا من نوع الخطابة تركناه.
و{ما لا يسمع} الظاهر أنها موصولة، وجوزوا أن تكون نكرة موصوفة ومعمول {يسمع} و{يبصر} منسي ولا ينوي أي ما ليس به استماع ولا إبصار لأن المقصود نفي هاتين الصفتين دون تقييد بمتعلق. و{شيئًا} إما مصدر أو مفعول به، ولما سأله عن العلة في عبادة الصنم ولا يمكن أن يجد جوابًا، انتقل معه إلى إخباره بأنه قد جاءه من العلم ما لم يأته ولم يصف أباه بالجهل إذ يغني عنه السؤال السابق. وقال: {من العلم} على سبيل التبعيض أي شيء من العلم ليس معك، وهذه المحاورة تدل على أن ذلك كان بعدما نبىء، إذ في لفظ {جاءني} تجدد العلم، والذي جاءه الوحي الذي أتى به الملك أو العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها أو توحيد الله وإفراده بالالوهية والعبادة أقوال ثلاثة {فاتبعني} على توحيد الله بالعبادة وارفض الأصنام {أهدك صراطًا مستقيمًا} وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة.
وانتقل من أمره باتباعه إلى نهيه عن عبادة الشيطان وعبادته كونه يطيعه في عبادة الأصنام ثم نفره عن عبادة الشيطان بأنه كان عصيًا للرحمن، حيث استعصى حين أمره بالسجود لآدم فأبى، فهو عدوّ لك ولأبيك آدم من قبل.
وكان لفظ الرحمن هنا تنبيها على سعة رحمته، وأن من هذا وصفه هو الذي ينبغي أن يعبد ولا يعصى، وإعلامًا بشقاوة الشيطان حيث عصى من هذه صفته وارتكب من ذلك ما طرده من هذه الرحمة، وإن كان مختارًا لنفسه عصيان ربه لا يختار لذريته من عصى لأجله إلاّ ما اختار لنفسه من عصيانهم.
{يا أبت إني أخاف} قال الفرّاء والطبري {أخاف} أعلم كما قال: {فخشينا أن يرهقهما} أي تيقنا، والأولى حمل {أخاف} على موضوعه الأصلي لأنه لم يكن آيسًا من إيمانه بل كان راجيًا له وخائفًا أن لا يؤمن وأن يتمادى على الكفر فيمسه العذاب، وخوّفه إبراهيم سوء العاقبة وتأدّب معه إذ لم يصرّح بلحوق العذاب به بل أخرج ذلك مخرج الخائف، وأتى بلفظ المس الذي هو ألطف من المعاقبة ونكر العذاب، ورتب على مس العذاب ما هو أكبر منه وهو ولاية الشيطان كما قال في مقابل ذلك {ورضوان من الله أكبر} أي من النعيم السابق ذكره، وصدر كل نصيحة بقوله: {يا أبت} توسلًا إليه واستعطافًا.
وقيل: الولاية هنا كونه مقرونًا معه في الآخرة وإن تباغضًا وتبرأ بعضهما من بعض.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير إني أخاف أن تكون وليًا في الدنيا للشيطان فيمسك في الآخرة عذاب من الرحمن.
وقوله: {أن يمسك عذاب من الرحمن} لا يعين أن العذاب يكون في الآخرة، بل يحتمل أن يحمل العذاب على الخذلان من الله فيصير مواليًا للشيطان، ويحتمل أن يكون مس العذاب في الدنيا بأن يبتلى على كفره بعذاب في الدنيا فيكون ذلك العذاب سببًا لتماديه على الكفر وصيرورته إلى ولاية الشيطان إلى أن يوافي على الكفر كما قال: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} وهذه المناصحات تدل على شدة تعلق قلبه بمعالجة أبيه، والطماعية في هدايته قضاء لحق الأبوة وإرشادًا إلى الهدى «لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم». اهـ.

.قال أبو السعود:

{واذكر} عطف على أنذِرْهم {في الكتاب} أي في السورة أو في القرآن {إِبْرَاهِيمَ} أي اتلُ على الناس قصته وبلِّغها إياهم كقوله تعالى: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إبراهيم} فإنهم ينتمون إليه عليه السلام فعساهم باستماع قصته يُقلِعون عما هم فيه من القبائح {إِنَّهُ كَانَ صِدّيقًا} ملازمًا للصدق في كل ما يأتي ويذر، أو كثيرَ التصديق لكثرة ما صدّق به غيوبَ الله تعالى وآياتِه وكتبَه ورسلَه، والجملةُ استئنافٌ مسَوقٌ لتعليل موجبِ الأمر فإن وصفه عليه السلام بذلك من دواعي ذكرِه {نَبِيًّا} خبرٌ آخرُ لكان مقيدٌ للأول مخصِّصٌ له كما ينبىء عنه قوله تعالى: {مّنَ النبيين والصديقين} الآية، أي كان جامعًا بين الصدّيقية والنبوة ولعل هذا الترتيبَ للمبالغة في الاحتراز عن توهم تخصيصِ الصدّيقية بالنبوة فإن كلَّ نبيَ صديقٌ.
{إِذْ قَالَ} بدلُ اشتمالٍ من إبراهيمَ وما بينهما اعتراضٌ مقررٌ لما قبله أو متعلق بكان أو بنبيًا، وتعليقُ الذكر بالأوقات مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيها من الحوادث قد مر سرُّه مرارًا، أي كان جامعًا بين الأثَرتين حين قال: {لأَبِيهِ} آزرَ متلطفًا في الدعوة مستميلًا له {يا أبت} أي با أبي فإن التاء عوضٌ عن ياء الإضافة ولذلك لا يجتمعان، وقد قيل: يا أبتا لكون الألف بدلًا من الياء {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ} ثناءَك عليه عند عبادتِك له وجؤارِك إليه {وَلاَ يَبْصِرُ} خضوعَك وخشوعَك بين يديه، أو لا يسمع ولا يبصر شيئًا من المسموعات والمُبصَرات فيدخُل في ذلك ما ذكر دخولًا أوليًا {وَلاَ يُغْنِى} أي لا يقدر على أن يغنيَ {عَنكَ شَيْئًا} في جلب نفعٍ أو دفع ضُرّ، ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسنَ منهاجٍ وأقومَ سبيل، واحتج بحسن أدبٍ وخلقٍ جميل لئلا يركبَ متنَ المكابرة والعناد ولا يُنكّبَ بالكلية عن مَحَجّة الرشاد، حيث طَلب منه علةَ عبادتِه لِما يستخفّ به عقلُ كل عاقل من عالم وجاهلٍ ويأبى الركونّ إليه، فضلًا عن عبادته التي هي الغايةُ القاصية من التعظيم مع أنها لا تحِقّ إلا لمن له الاستغناءُ التامُّ والإنعامُ العام: الخالقِ الرازقِ المحيي المميتِ المثيبِ المعاقب، ونبّه على أن العاقل يجب أن يفعل كلَّ ما يفعل لداعيةٍ صحيحة وغرضٍ صحيح، والشيءُ لو كان حيًا مميّزًا سميعًا بصيرًا قادرًا على النفع والضرِّ مطيقًا بإيصال الخير والشر لكن كان ممكِنًا لاستنكف العقلُ السليمُ عن عبادته، وإن كان أشرفَ الخلائق لما يراه مِثْلَه في الحاجة والانقيادِ للقدرة القاهرةِ الواجبة، فما ظنُّك بجماد مصنوع من حجر أو شجر ليس له من أوصاف الإحياءِ عينٌ ولا أثرٌ ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديَه إلى الحق المبين، لِما أنه لم يكن محفوظًا من العلم الإلهي مستقلًا بالنظر السويّ مصدّرًا لدعوته بما مر من الاستمالة والاستعطاف حيث قال: {يا أبت إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ} ولم يسِمْ أباه بالجهل المُفرِط وإن كان في أقصاه ولا نفسَه بالعلم الفائق وإن كان كذلك، بل أبرز نفسه في صورة رفيقٍ له أعرفَ بأحوال ما سلكاه من الطريق، فاستماله برفق حيث قال: {فاتبعنى أَهْدِكَ صراطا سَوِيًّا} أي مستقيمًا موصلًا إلى أسنى المطالب منجيًا عن الضلال المؤدّي إلى مهاوي الردى والمعاطب، ثم ثبّطه عما كان عليه بتصويره بصورة يستنكرها كلُّ عاقل ببيانِ أنه مع عرائه عن النفع بالمرة مستجلبٌ لضرر عظيم، فإنه في الحقيقة عبادةُ الشيطان لِما أنه الآمرُ به فقال: {يا أبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان} فإن عبادتك للأصنام عبادةٌ له إذ هو الذي يسولها لك ويغريك عليها وقوله: {إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيًّا} تعليلٌ لموجب النهي وتأكيدٌ له ببيان أنه مستعصٍ على ربك الذي أنعم عليك بفنون النعم، ولا ريب في أن المطيعَ للعاصي عاصٍ وكلُّ مَن هو عاصٍ حقيقٌ بأن يسترد منه النعم وينتقم منه، والإظهارُ في موضع الإضمار لزيادة التقريرِ، والاقتصارُ على ذكر عصيانه من بين سائر جناياتِه لأنه مَلاكُها أو لأنه نتيجةُ معاداتِه لآدمَ عليه السلام وذريته، فتذكيرُه داعٍ لأبيه إلى الاحتراز عن موالاته وطاعته والتعرضُ لعنوان الرحمانية لإظهار كمالِ شناعة عصيانِه.
وقوله: {يا أبت إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرحمن} تحذيرٌ من سوء عاقبةِ ما كان عليه من عبادة الشيطان وهو ابتلاؤُه بما ابتُليَ به معبودُه من العذاب الفظيع، وكلمةُ مِن متعلقةٌ بمضمر وقع صفةً للعذاب مؤكدةٌ لما أفاده التنكيرُ من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية، وإظهارُ الرحمن للإشعار بأن وصفَ الرحمانية لا يدفع حلولَ العذاب كما في قوله عز وجل: {مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم} {فَتَكُونَ للشيطان وَلِيًّا} أي قرينًا له في اللعن المخلّد، وذكرُ الخوف للمجاملة وإبرازِ الاعتناء بأمره. اهـ.