فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله في هذه الآية: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ} [الزخرف: 26] الظرف الذي هو إذ بدل اشتمال من (إبراهيم) في قوله: {واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ} [مريم: 41] كما تقدم نظيره في قوله: {واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ إِذِ انتبذت} [مريم: 16] الآية. وقد قدمنا هناك إنكار بعضم لهذا الإعراب. وجملة {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا} [مريم: 41] معترضة بين البدل والمبدل منه على الإعراب المذكور. والصديق صيغة مبالغة من الصدق. لشدة صدق إبراهيم في معاملته مع ربه وصدق لهجته، كما شهد الله له بصدق معاملته في قوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} [النجم: 37]، وقوله: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124]. ومن صدقه في معاملته ربه: رضاه بأن يذبح ولده، وشروعه بالفعل في ذلك طاعة لربه. مع أن الولد فلذة من الكبد.
لكنما أولادنا بيننا ** أكبادنا تمشي على الأرض

قال تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِين وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} [الصافات: 103-105] الآية.
ومن صدقه في معاملته معع ربه: صبره على الإلقاء في النار. كما قال تعالى: {قَالُواْ حَرِّقُوهُ وانصروا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 67]، وقال: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار} [العنكبوت: 24] الآية.
وذكر علماء التفسير في قصته أنهم لما رموه إلى النار لقيه جبريل فسأله: هل لك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا! وأما إلى الله فنعم. فقال له: لم لا تسأله؟ فقال: علمه بحالي كاف عن سؤالي؟؟
ومن صدقه في معاملته ربه: صبره على مفارقة الأهل والوطن فرارًا لدينه. كما قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي} [العنكبوت: 26] وقد هاجر من سواد العراق إلى دمشق: وقد بين جل وعلا في مواضع أخر أنه لم يكتف بنهيهم عن عبادة الأوثان وبيان أنها لا تنفع ولا تضر، بل زاد عل ذلك أنه كسرها وجعلها جذاذًا وترك الكبير من الأصنام، ولما سألوه هل هو الذي كسرها قال لهم: إن الذي فعل ذلك كبيرالأصنام، وأمرهم بسؤال الأصنام إن كانت تنطق. كما قال تعالى عنه: {وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قالوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنَا ياإبراهيم قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ فقالوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 57-67]، وقال تعالى: {فَرَاغَ إلى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا باليمين فأقبلوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 91-96]. فقوله: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا باليمين} أي مال إلى الأصنام يضربها ضربًا بيمينه حتى جعلها جذاذًا، أي قطاعًا متكسرة من قولهم: جذه إذا قطعه وكسره.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا} أي كثير الصدق يعرف منه أن الكذبات الثلاث المذكورة في الحديث عن إبراهيم كلها في الله تعالى، وأنها في الحقيقة من الصدق لا من الكذب بمعناه الحقيقي، وسيأتي إن شاء الله زيادة إيضاح لهذا في سورة (الأنبياء).
وقوله تعالى عن إبراهيم {يا أبت} التاء فيه عوض عن ياء المتلكم، فالأصل يا أبي كما أشار له في الخلاصة بقوله:
وفي النداء أبت أمت عرض ** واكسر أو فتح ومن اليا التا عوض

وقوله تعالى في هذه الآية {لِمَ تَعْبُدُ} أصله ما الاستفهامية، فدخل عليها حرف الجر الذي هو اللام فحذف ألفها على حد قوله في الخلاصة:
وما في الاستفهام غن جرت حذف ** ألفها وأولها الها إن تقف

ومعلوم إن القراءة سنة متبعة لا تجور بالقياس. ولذا يوقف على (لم) بسكون الميم لا بهاء السكت كما في البيت. ومعنى عبادته للشيطان في قوله: {لاَ تَعْبُدِ الشيطان} طاعته للشيطان في الكفر والمعاصي. فذلك الشرك شرك طاعة، كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس: 60-61] كما تقدم هذا المبحث مستوفى في سورة (الإسراء) وغيرها.
والآية تدل على أن الكفار المعذبين يوم القيامة أولياء الشيطان. لقوله هنا {إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} والآيات الدالة على أن الكفار أولياء الشيطان كثيرة، وقد قدمنا كثيرًا من ذلك في سورة الكهف وغيرها، كقوله تعالى: {فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان} [النساء: 76] الآية، وقوله: {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175] الآية، أي يخوفكم أولياءه. وقوله: {إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الله} [الأعراف: 30] الآية إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم. وكل من كان الشيطان يزين له الكفر والمعاصي فيتبعه في ذلك في الدنيا فلا ولي له في الآخرة إلا الشيطان. كما قال تعالى: {تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 63] ومن كان لا ولي له يوم القيامة إلا الشيطان تحقق أنه لا ولي له ينفعه يوم القيامة.
وقوله تعالى في هذا الآية الكريمة: {إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ} يعني ما علمه الله من الوحي ما ألهمه وهو صغير، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51] ومحاجة إبراهيم لقومه كما ذكرنا بعض الآيات الدالة عليها أثنى الله بها على إبراهيم، وبين أنها حجة الله آتاها نبيه إبراهيم. كما قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ} [الأنعام: 83] الآية، وقال تعالى: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أتحاجواني فِي الله وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام: 80] الآية، وكون الآيات المذكورة واردة في محاجته لهم المذكورة في سورة (الأنعام) لا ينافي ما ذكرنا. لأن أصل المحاجة في شيء واحد وهو توحيد الله جل وعلا، وإقامة الحجة القاطعة على أنه لا معبود إلى هو وحده جل وعلا في سورة (الأنعام) وفي غيرها. والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)}.
قد تقدم أن من أهم ما اشتملت عليه هذه السورة التنويه بالأنبياء والرسل السالفين.
وإذ كان إبراهيم عليه السلام أبَا الأنبياء وأوّل من أعلن التوحيد إعلانًا باقيًا، لبنائه له هيكلَ التوحيد وهو الكعبة، كان ذكر إبراهيم من أغراض السورة، وذُكر عقب قصة عيسى لمناسبة وقوع الرد على المشركين في آخر القصة ابتداء من قوله تعالى: {فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم إِذْ قَالَ لاَِبِيهِ يا أبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئًا} [مريم: 37] إلى قوله: {إنا نحن نرث الأرض ومن عليها} [مريم: 40].
ولما كان إبراهيم قد جاء بالحنيفية وخالفها العرب بالإشراك وهم ورثة إبراهيم كان لتقديم ذكره على البقية الموقع الجليل من البلاغة.
وفي ذلك تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على ما لقي من مشركي قومه لمشابهة حالهم بحال قوم إبراهيم.
وقد جرى سَرد خبر إبراهيم عليه السلام على أسلوبِ سرد قصة مريم عليها السلام لما في كل من الأهمية كما تقدم.
وتقدم تفسير {واذكر في الكتاب} في أول قصة مريم (16).
والصديق بتشديد الدال صيغة مبالغة في الاتصاف، مثل الملك الضّليل لقب امرئ القيس، وقولهم: رجل مِسيّك: أي شحيح، ومنه طعام حرّيف، ويقال: دليل خِرّيت، إذا كان ذا حذق بالطرق الخفية في المفاوز، مشتقًا من الخَرت وهو ثقب الشيء كأنه يثقب المسدودات ببصره.
وتقدم في قوله تعالى: {يوسف أيها الصديق} [يوسف: 46].
وصف إبراهيم بالصدّيق لفرط صدقه في امتثال ما يكلفه الله تعالى لا يصده عن ذلك ما قد يكون عذرًا للمكلف مثل مبادرته إلى محاولة ذَبح ولده حين أمره الله بذلك في وحي الرؤيا، فالصدق هنا بمعنى بلوغ نهاية الصفة في الموصوف بها، كما في قول تأبّط شرًّا:
إني لمهد من ثنائي فقاصدبه لابن عم الصّدّق شُمس بن مالكوتأكيد هذا الخبر بحرف التوكيد وبإقحام فعل الكون للاهتمام بتحقيقه زيادة في الثناء عليه.
وجملة {إنه كان صديقًا نبيا} واقعة موقع التعليل للاهتمام بذكره في التلاوة، وهذه الجملة معترضة بين المبدل منه والبدل، فإن إذ اسم زمان وقع بدلًا من إبراهيم، أي اذكر ذلك خصوصًا من أحوال إبراهيم فإنه أهمّ ما يذكر فيه لأنه مظهر صديقيته إذ خاطب أباه بذلك الإنكار.
والنبي: فعيل بمعنى مفعول، من أنبأه بالخبر.
والمراد هنا أنه منبّأ من جانب الله تعالى بالوحي.
والأكثر أن يكون النبي مرسلًا للتبليغ، وهو معنى شرعي، فالنبي فيه حقيقة عرفية.
وتقدم في سورة البقرة (246) عند قوله: {إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكًا}، فدل ذلك على أن قوله لأبيه {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر} إنما كان عن وحي من الله ليبلغ قومه إبطال عبادة الأصنام.
وقرأ الجمهور {نبيا} بياء مشددة بتخفيف الهمزة ياء لثقلها ولمناسبة الكسرة.
وقرأه نافع وحده (نبيئًا) بهمزة آخره، وبذلك تصير الفاصلة القرآنية على حرف الألف، ومثل تلك الفاصلة كثير في فواصل القرآن.
وقوله: {إذ قال لأبيه} إلخ. بدل اشتمال من (إبراهيم).
و إذ اسم زمان مجرد عن الظرفية لأن إذ ظرف متصرف على التحقيق.
والمعنى: اذكر إبراهيم زمان قوله لأبيه فإن ذلك الوقت أجدر أوقات إبراهيم بأن يذكر.
وأبو إبراهيم هو (آزار) تقدم ذكره في سورة الأنعام.
وافتتح إبراهيم خطابه أباه بندائه مع أن الحضرة مغنية عن النداء قصدًا لإحضار سمعه وذهنه لتلقي ما سيلقيه إليه.
قال الجد الوزير رحمه الله فيما أملاه عليّ ذات ليلة من عام 1318 ه فقال: علم إبراهيم أن في طبع أهل الجهالة تحقيرهم للصغير كيفما بلغ حاله في الحذق وبخاصة الآباء مع أبنائهم، فتوجه إلى أبيه بخطابه بوصف الأبوة إيماء إلى أنه مخلص له النصيحة، وألقى إليه حجّة فساد عبادته في صورة الاستفهام عن سبب عبادته وعمله المخطىء، منبّهًا على خطئه عندما يتأمل في عمله، فإنه إن سمع ذلك وحاول بيان سبب عبادة أصنامه لم يجد لنفسه مقالًا ففطِن بخطل رأيه وسفاهة حلمه، فإنه لو عبد حيًّا مميزًا لكانت له شبهة ما.
وابتدأ بالحجة الراجعة إلى الحِسّ إذ قال له: لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر فذلك حجة محسوسة، ثم أتبعها بقوله: ولا يغني عنك شيئًا، ثم انتقل إلى دفع ما يخالج عقل أبيه من النفور عن تلقي الإرشاد من ابنه بقوله: {يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطًا سويًا} [مريم: 43]، فلما قضى حق ذلك انتقل إلى تنبيهه على أن ما هو فيه أثر من وساوس الشيطان، ثم ألقى إليه حجة لائقة بالمتصلبين في الضلال بقوله: {يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا} [مريم: 45]، أي إن الله أبلغ إليك الوعيد على لساني، فإن كنتَ لا تجزم بذلك فافرض وقوعه فإنّ أصنامك لم تتوعدك على أن تفارق عبادتها.
وهذا كما في الشعر المنسوب إلى علي رضي الله عنه:
زعم المنجّم والطّبيب كلاهمالا تحشر الأجسام قلت: إليكماإن صحّ قولكما فلست بخاسرأو صح قولي فالخسار عليكماقال: وفي النداء بقوله: {يا أبت} أربع مرات تكريرٌ اقتضاه مقام استنزاله إلى قبول الموعظة لأنها مقام إطناب.
ونَظَّرَ ذلك بتكرير لقمان قوله: {يا بني} [لقمان: 13 16] ثلاث مرات، قال: بخلاف قول نوح لابنه: {يا بني اركب معنا} [هود: 42] مرة واحدة دون تكرير لأنّ ضيق المقام يقتضي الإيجاز وهذا من طرق الإعجاز. انتهى كلامه بما يقارب لفظه.
وأقول: الوجه ما بني عليه من أن الاستفهام مستعمل في حقيقته، كما أشار إليه صاحب (الكشاف)، ومكنى به عن نفي العلّة المسؤول عنها بقوله: {لم تعبد} فهو كناية عن التعجيز عن إبداء المسؤول عنه، فهو من التورية في معنيين يحتملهما الاستفهام.
وأبت: أصله أبي، حذفوا ياء المتكلم وعوضوا عنها تاء تعويضًا على غير قياس، وهو خاص بلفظ الأب والأم في النداء خاصة، ولعله صيغة باقية من العربية القديمة.
ورأى سيبويه أن التاء تصير في الوقف هاء، وخالفه الفراء فقال: ببقائها في الوقف. والتاء مكسورة في الغالب لأنها عوض عن الياء والياء بنت الكسرة ولما كسروها فتحوا الياء وبذلك قرأ الجمهور.
وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر: {يأبتَ} بفتح التاء دون ألف بعدها، بنَاء على أنهم يقولون {يا أبتَا} بألف بعد التاء لأن ياء المتكلم إذا نودي يجوز فتحها وإشباع فتحتها فقرأه على اعتبار حذف الألف تخفيفًا وبقاء الفتحة.
{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)}.
إعادة ندائه بوصف الأبوّة تأكيد لإحضار الذهن ولإمحاض النصيحة المستفاد من النداء الأول.
قال في (الكشاف): ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقًا به متلطفًا، فلم يَسِمْ أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال: إن معي طائفة من العلم ليست معك، وذلك عِلم الدلالة على الطريق السويّ، فلا تستنكف، وهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه. اهـ.
ذلك أن أباه كان يرى نفسه على علم عظيم لأنه كان كبير ديانة قومه. وأراد إبراهيم علم الوحي والنبوءة. وتفريع أمره بأن يتبعه على الإخبار بما عنده من العلم دليل على أن أحقية العالِم بأن يُتبع مركوزة في غريزة العقول لم يزل البشر يتقصّون مظانّ المعرفة والعلم لجلب ما ينفع واتقاءِ ما يضر، قال تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل: 43].
وفي قوله: {أهدك صراطًا سويًا} استعارة مكنية؛ شبه إبراهيم بهادي الطريق البصير بالثنايا، وإثبات الصراط السويّ قرينة التشبيه، وهو أيضًا استعارة مصرحة بأن شبه الاعتقاد الموصل إلى الحق والنجاة بالطريق المستقيم المبلغ إلى المقصود. و{يا أبت} تقدّم الكلام على نظيره قريبًا.
{يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)}.
إعادة النداء لزيادة تأكيد ما أفاده النداء الأول والثاني. والمراد بعبادة الشيطان عبادة الأصنام؛ عبر عنها بعبادة الشيطان إفصاحًا عن فسادها وضلالها، فإن نسبة الضلال والفساد إلى الشيطان مقررة في نفوس البشر، ولكن الذين يتبعونه لا يفطنون إلى حالهم ويتبعون وساوسه تحت ستار التمويه مثل قولهم {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} [الزخرف: 23]، ففي الكلام إيجاز لأن معناه: لا تعبد الأصنام لأن اتخاذها من تسويل الشيطان للذين اتخذوها ووضعوها للناس، وعبادتَها من وساوس الشيطان للذين سنّوا سنن عبادتها، ومن وساوسه للناس الذين أطاعوهم في عبادتها، فمن عَبَد الأصنام فقد عبد الشيطان وكفى بذلك ضلالًا معلومًا.
وهذا كقوله تعالى: {وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا} وتقدم في سورة النساء (117).
وفي هذا تبغيض لعبادة الأصنام، لأن في قرارة نفوس الناس بغض الشيطان والحذر من كيده. وجملة إن الشيطان كان للرحمان عصيًا تعليل للنهي عن عبادته وعبادة آثار وسوسته بأنه شديد العصيان للرب الواسع الرحمة. وذكر وصف عصيًا الذي هو من صيغ المبالغة في العصيان مع زيادة فعل (كَانَ) للدلالة على أنه لا يفارق عصيان ربه وأنه متمكن منه، فلا جرم أنه لا يأمر إلا بما ينافي الرحمة، أي بما يفضي إلى النقمة، ولذلك اختير وَصف الرحمان من بين صفات الله تعالى تنبيها على أن عبادة الأصنام توجب غضب الله فتفضي إلى الحرمان من رحمته، فمن كان هذا حاله فهو جدير بأن لا يتبع. وإظهار اسم الشيطان في مقام الإضمار، إذ لم يقل: إنه كان للرحمان عصيًّا، لإيضاح إسناد الخبر إلى المسند إليه، ولزيادة التنفير من الشيطان، لأن في ذكر صريح اسمه تنبيها إلى النفرة منه، ولتكون الجملة موعظة قائمة بنفسها. وتقدّم الكلام على {يا أبت} قريبًا.
{يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)}.
لا جرم أنه لما قرر له أن عبادته الأصنام اتّباع لأمر الشيطان عصيّ الرحمان انتقل إلى توقع حرمانه من رحمة الله بأن يحلّ به عذاب من الله، فحذره من عاقبة أن يصير من أولياء الشيطان الذين لا يختلف البشر في مذمتهم وسوء عاقبتهم، ولكنهم يندمجون فيهم عن ضلال بمآل حالهم.
وللإشارة إلى أن أصل حلول العذاب بمن يحلّ به هو الحرمان من الرحمة في تلك الحالة؛ عبر عن الجلالة بوصف الرحمان للإشارة إلى أن حلول العذاب ممن شأنُه أن يرحم إنما يكون لفظاعة جرمه إلى حد أن يحرمه من رحمته مَن شأنه سعة الرحمة.
والولي: الصاحب والتابع ومن حالهما حال واحدة وأمرهما جميع؛ فكني بالولاية عن المقارنة في المصير.
والتعبير بالخوف الدال على الظن دون القطع تأدب مع الله تعالى بأن لا يُثبت أمرًا فيما هو من تصرف الله، وإبْقاء للرجاء في نفس أبيه لينظر في التخلّص من ذلك العذاب بالإقلاع عن عبادة الأوثان.
ومعنى: {فتكون للشيطان وليا} فتكون في اتباع الشيطان في العذاب. وتقدّم الكلام على {يا أبت} قريبًا. اهـ.