فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {سَلاَمٌ عَلَيْكَ} يعني لا ينالك مني أذى ولا مكروه، بل ستسلم مني فلا أوذيك. وقوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} وعد من إبراهيم لأبيه باستغفاره له، وقد وفى بذلك الوعد، كما قال تعالى عنه {واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين} [الشعراء: 86]، وكما قال تعالى عنه: {رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب} [إبراهيم: 41].
ولكن الله بين له أنه عدو لله تبرا منه، ولم يستغفر له بعد ذلك، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114]، وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاه} [التوبة: 114] والموعدة المذكورة هي قوله هنا {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} الآية. ولما اقتدى المؤمنون بإبراهيم فاستغفروا لموتاهم المشركين، واستغفر النَّبي صلى الله عليه وسلم لعمه أب طالب- انزل الله فيهم {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم} [التوبة: 113]. ثم قال: {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ} الآية. وبين في سورة (الممتحنة) أن الاستغفار للمشركين مستثنى من الأسوة بإبراهيم، والأسوة الإقتداء، وذلك في قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ والذين مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا} [الممتحنة: 4] - إلى قوله- {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] الآية، أي فلا اسوة لكم في إبراهيم في ذلك. ولما ندم المسلمون على استغفارهم للمشركين حين قال فيهم: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] الآية- بيّضن الله تعالى أنهم معذورون في ذلك. لأنه لم يبين لهم منع ذلك قبل فعله، وذلك في قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115].
وقوله في هذه الآية: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي} يجوز فيه أن يكون {راغب} خبرًا مقدمًا، و{أنت} مبتدأ مؤخرًا، وأن يكون {اراغب} مبتدأ و{أنت} فاعل سد مسد الخبر. ويترجح هذا الإعراب الأخير على الأول من وجهين: الأول- أنه لا يكون فيه تقديم ولا تأخير. والأصل في الخبر التاخير كما هو معلوم. الوجه الثاني- هو ألا يكون فصل بين العامل الذي هو {أراغب} وبين معموله الذي هو {عن آلهتي} بما ليس بمعمول للعامل. لأن الخبر اليس هو عاملًا في المبتدأ، بخلاف كون {أنت} فاعلًا. فإنه معمول {اراغب} فلم بين {أراغب} وبين {عن آلهتي} بأجنبي، وإنما فصل بينهما بمعمول المبتدأ الذي هو فاعله الساد مسده خبره. والرغبة عن الشيء: تركه عمدًا للزهد فيه، وعدم الحاجة إليه، وقد قدمنا في سورة (النساء) الفرق بين قولهم: رغب عنه، وقولهم: رغب فيه في الكلام على قوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] الآية. والتحقيق في قوله: {مليًا} أن المراد به الزمن الطويل ومنه قول مهلهل:
فتصدعت صم الجبال لموته ** وبكت عليه المرملات مليا

وأصله واوي اللام. لأنه من الملاوة وهي مدة العيش. ومن ذلك قيل ليل والنهار. الملوان: ومنه قول ابن مقبل:
إلا يا دار الحي بالسبعان ** أمل عليها بالبلي الملوان

وقوله الآخر:
نهار وليل دائم ملواهما ** على كل حال المرء يختلفان

وقيل الملوان في بيت ابن مقبل: طرفا النهار. وقوله: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} أي لطيفًا بي.
كثير الإحسان إلي. وجمله {واهجرني} [مريم: 46] عطف على جملة {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} [مريم: 46] وذلك دليل على جواز عطف الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية، ونظير ذلك من كلام العرب قول امرئ القيس:
وإن شفائس عبرة إن سفحتها ** وهل عند رسم دارس من معول

فجملة (وإن شفائي) خبرية، وجلمة (وهل عند رسم).. إلخ. إنشائية معطوفة عليها. وقول الآخر أيضًا:
تناغى غزالا عتد باب ابن عامر ** وكحل مآقيل الحسان بإثمد

وهذا هو الظاهر كما قاله أبو حيان عن سيبويه. وقال الزمخشري في الكشاف: فإن قلت: علام عطف {واهجرني} قلت على معطوف عليه محذوف يدل عليه {لأرجمنك} أي فاحذرني واهجرني. لأن {لأَرْجُمَنَّكََ} تهديد وتقريع. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ}.
فصلت جملة:
لوقوعها في المحاورة كما تقدم في قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} في سورة البقرة (30).
والاستفهام للإنكار إنكارًا لتجافي إبراهيم عن عبادة أصنامهم.
وإضافة الآلهة إلى ضمير نفسه إضافة ولاية وانتساب إلى المضاف لقصد تشريف المضاف إليه.
وقد جاء في جوابه دعوة ابنه بمنتهى الجفاء والعُنجهية بعكسِ ما في كلام إبراهيم من الليّن والرقة، فدلّ ذلك على أنه كان قاسيَ القلب، بعيد الفهم، شديد التصلّب في الكفر.
وجملة {أراغب أنت} جملة اسمية مركبة من مبتدأ وفاعل سدّ مسدّ الخبر على اصطلاح النحاة طردًا لقواعد التركيب اللفظي، ولكنهم لما اعتبروا الاسم الواقع ثانيًا بعد الوصف فاعلًا سادًّا مسدّ الخبر فقد أثبتوا لذلك الاسم حكم المسند إليه وصار للوصف المبتدأ حكم المُسند.
فمن أجل ذلك كان المصير إلى مثل هذا النظم في نظر البلغاء هو مقتضى كون المقام يتطلّب جملة اسمية للدلالة على ثباتٍ المسند إليه، ويتطلّب الاهتمام بالوصف دون الاسم لغرض يوجب الاهتمام به، فيلتجىء البليغ إلى الإتيان بالوصف أولًا والإتيان بالاسم ثانيًا.
ولمّا كان الوصف له عملُ فعله تعين على النحاة اعتبار الوصف مبتدأ لأن للمبتدأ عراقةً في الأسماء، واعتباره مع ذلك متطلّبًا فاعلًا، وجعلوا فاعله سادًّا مسدّ الخبر، فصار للتركيب شبهان.
والتحقيقُ أنه في قوّة خبر مقدم ومبتدأ مؤخر.
ولهذا نظر الزمخشري في الكشاف إلى هذا المقصد فقال: قُدم الخبر على المبتدأ في قوله: {أراغب أنت عن آلهتي} لأنه كان أهمّ عنده وهو به أعنى. اهـ. ولله دره، وإن ضاع بين أكثر الناظرين دُرُّه.
فدل النظم في هذه الآية على أن أبا إبراهيم ينكر على إبراهيم تمكن الرغبة عن آلهتهم من نفسه، ويهتم بأمر الرغبة عن الآلهة لأنها موضع عَجب.
والنداء في قوله: {يا إبراهيم} تكملة لجملة الإنكار والتعجب، لأنّ المتعجب من فعله مع حضوره يقصد بندائه تنبيهه على سوء فعله، كأنه في غيبة عن إدراك فعله، فالمتكلم ينزله منزلة الغائب فيناديه لإرجاع رشده إليه، فينبغي الوقف على قوله: {يا إبراهيم} وجملة {لئن لم تنته لأرجمنك} مستأنفة. واللام موطئة للقسم تأكيدًا لكونه راجمهُ إن لم ينته عن كفره بآلهتهم. والرجم: الرمي بالحجارة، وهو كناية مشهورة في معنى القتل بذلك الرمي.
وإسنادُ أبي إبراهيم ذلك إلى نفسه يحتمل الحقيقة؛ إما لأنه كان من عادتهم أن الوالد يتحكم في عقوبة ابنه، وإما لأنه كان حاكمًا في قومه. ويحتمل المجاز العقلي إذ لعله كان كبيرًا في دينهم فيرجم قومُه إبراهيمَ استنادًا لحكمه بمروقه عن دينهم.
وجملة {واهجرني مليا} عطف على جملة {لئن لم تنته لأرجمنك} وذلك أنه هدّده بعقوبة آجلة إن لم يقلع عن كفره بآلهتهم، وبعقوبة عاجلة وهي طردهُ من معاشرته وقطع مكالمته.
والهجر: قطع المكالمة وقطع المعاشرة، وإنما أمر أبو إبراهيم ابنَه بهجرانه ولم يخبره بأنه هو يهجره ليدلّ على أن هذا الهجران في معنى الطرد والخَلْع إشعارًا بتحقيره.
و{مليا}: طويلًا، وهو فعيل، ولا يعرف له فعل مجرد ولا مصدر. فمليّ مشتق من مصدر مُمات، وهو فعيل بمعنى فاعل لأنه يقال: أملى له، إذا أطال له المدة، فيأتون بهمزة التعدية، فمليا صفة لمصدر محذوف منصوب على المفعولية المطلقة، أي هجرًا مَليًّا، ومنه الملاوة من الدهر للمدة المديدة من الزمان، وهذه المادة تدلّ على كثرة الشيء. ويجوز أن ينتصب على الصفة لظرف محذوف، أي زمانًا طويلًا، بناء على أن المَلا مقصورًا غالب في الزمان فذكره يغني عن ذكر موصوفه كقوله تعالى: {وحملناه على ذات ألواح ودسر} [القمر: 13]، أي سفينة ذات ألواح.
{قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)}.
سلام عليك سلام توديع ومتاركة. وبادرهُ به قبل الكلام الذي أعقبه به إشارة إلى أنه لا يسوءه ذلك الهجر في ذات الله تعالى ومرضاته. ومن حلم إبراهيم أن كانت متكارته أباه مثوبة بالإحسان في معاملته في آخر لحظة. والسلام: السلامة. و(على) للاستعلاء المجازي وهو التمكن. وهذه كلمة تحية وإكرام، وتقدمت آنفًا عند قوله: {وسلام عليه يوم ولد} [مريم: 15]. وأظهر حرصه على هداه فقال: {سأستغفر لك ربي} أي أطلب منه لك المغفرة من هذا الكفر، بأن يهديه الله إلى التوحيد فيغفر له الشرك الماضي، إذ لم يكن إبراهيم تلقى نهيًا من الله عن الاستغفار للمشرك. وهذا ظاهر ما في قوله تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه} [التوبة: 114]. واستغفاره له هو المحكي في قوله تعالى: {واغفر لأبي إنه كان من الضالين} [الشعراء: 86]. وجملة {سأستغفر لك ربي} مستأنفة، وعلامة الاستقبال والفعل المضارع مؤذنان بأنه يكرر الاستغفار في المستقبل.
وجملة {إنه كان بي حفيا} تعليل لما يتضمنه الوعد بالاستغفار من رجاء المغفرة استجابة لدعوة إبراهيم بأن يوفق الله أبا إبراهيم للتوحيد ونبذِ الإشراك. والحَفيّ: الشديد البِر والإلطاف. وتقدم في سورة الأعراف (187) عند قوله: {يسألونك كأنك حفي عنها}.
وجملة {وأعتزلكم} عطف على جملة {سأستغفر لك ربي}، أي يقع الاستغفار في المستقبل ويقع اعتزالي إياكم الآن، لأن المضارع غالب في الحال. أظهر إبراهيم العزم على اعتزالهم وأنه لا يتوانى في ذلك ولا يأسف له إذا كان في ذات الله تعالى، وهو المحكي بقوله تعالى: {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين} [الصافات: 99]، وقد خرج من بَلد الكلدان عازمًا على الالتحاق بالشام حسب أمر الله تعالى. رأى إبراهيم أن هجرانه أباه غير مغن، لأن بقية القوم هم على رأي أبيه فرأى أن يهجرهم جميعًا، ولذلك قال له {وأعتزلكم} وضمير جماعة المخاطبين عائد إلى أبي إبراهيم وقومه تنزيلًا لهم منزلة الحضور في ذلك المجلس، لأن أباه واحد منهم وأمرهم سواء، أو كان هذا المقال جرى بمحضر جماعة منهم. وعُطف على ضمير القوم أصنامُهم للإشارة إلى عداوته لتلك الأصنام إعلانًا بتغيير المنكر. وعبر عن الأصنام بطريق الموصولية بقوله ما تدعون من دون الله للإيماء إلى وجه بناء الخبر وعلّة اعتزاله إياهم وأصنامَهم: بأن تلك الأصنام تعبد من دون الله وأن القوم يعبدونها، فذلك وجه اعتزاله إياهم وأصنامهم. والدعاء: العبادة، لأنها تستلزم دعاء المعبود. وزاد على الإعلان باعتزال أصنامهم الإعلان بأنه يدعو الله احتراسًا من أن يحسبوا أنه نوى مجرد اعتزال عبادة أصنامهم فربما اقتنعوا بإمساكه عنهم، ولذا بيّن لهم أنه بعكس ذلك يدعو الله الذي لا يعبدونه. وعبّر عن الله بوصف الربوبية المضاف إلى ضمير نفسه للإشارة إلى انفراده من بينهم بعبادة الله تعالى فهو ربّه وحده من بينهم، فالإضافة هنا تفيد معنى القصر الإضافي، مع ما تتضمنه الإضافة من الاعتزاز بربوبية الله إياه والتشريف لنفسه بذلك.
وجملة {وعسى ألا أكون بدعاء ربي شقيًا} في موضع الحال من ضمير وأدعوا أي راجيًا أن لا أكون بدعاء ربي شقيًا. وتقدم معناه عند قوله: {ولم أكن بدعائك رب شقيًا} في هذه السورة (4). وفي إعلانه هذا الرجاء بين ظهرانيهم تعريض بأنهم أشقياء بدعاء آلهتهم.
{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}.
طُوي ذكر اعتزاله إياهم بعد أن ذكر عزمه عليه إيجازًا في الكلام للعلم بأن مثله لا يعزم أمرًا إلاّ نفذ عزمه، واكتفاءً بذكر ما ترتّب عليه من جعل عزمه حدثًا واقعًا قد حصل جزاؤه عليه من ربّه، فإنه لما اعتزل أباه وقومه واستوحش بذلك الفراق وهبه الله ذرية يأنس بهم إذْ وهبه إسحاق ابنه، ويعقوب ابن ابنه، وجعلهما نبيئين. وحسبك بهذه مكرمة له عند ربّه. وليس مجازاة الله إبراهيم مقصورة على أن وهبه إسحاق ويعقوب، إذ ليس في الكلام ما يقتضي الانحصار، فإنه قد وهبه إسماعيل أيضًا، وظهرت موهبته إياه قبل ظهور موهبة إسحاق، وكل ذلك بعد أن اعتزل قومَه. وإنما اقتُصر على ذكر إسحاق ويعقوب دون ذكر إسماعيل فلم يقل: وهبنا له إسماعيل وإسحاق ويعقوب، لأن إبراهيم لما اعتزل قومه خرج بزوجه سارة قريبته، فهي قد اعتزلت قومها أيضًا إرضاء لربها ولزوجها، فذكر الله الموهبة الشاملة لإبراهيم ولزوجه، وهي أن وهب لهما إسحاق وبعده يعقوب؛ ولأن هذه الموهبة لما كانت كِفاء لإبراهيم على مفارقته أباه وقومه كانت موهِبةَ من يعاشر إبراهيم ويؤنسه وهما إسحاق ويعقوب. أما إسماعيل فقد أراد الله أن يكون بعيدًا عن إبراهيم في مكة ليكون جارَ بيت الله. وإنه لجوار أعظم من جوار إسحاق ويعقوب أباهما. وقد خصّ إسماعيل بالذكر استقلالًا عقب ذلك، ومِثلُه قوله تعالى: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب} [ص: 45] ثم قال: {واذكر إسماعيل} في سورة ص (48)، وقد قال في آية الصافات (99 101) {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم} إلى أن قال: وبشرناه بإسحاق نبيا م الصالحين فذكر هنالك إسماعيل عقب قوله: {إني ذاهب إلى ربي سيهدين} إذ هو المراد بالغلام الحليم. والمراد بالهبة هنا: تقدير ما في الأزل عند الله لأن ازدياد إسحاق ويعقوب كان بعد خروج إبراهيم بمدة بعد أن سَكَن أرض كنعان وبعد أن اجتاز بمصر ورجع منها. وكذلك ازدياد إسماعيل كان بعد خروجه بمدة وبعد أن اجتاز بمصر كما ورد في الحديث وفي التوراة، أو أُريد حكاية هبة إسحاق ويعقوب فيما مضى بالنسبة إلى زمن نزول القرآن تنبيها بأن ذلك جزاؤه على إخلاصه. والنكتة في ذكر يعقوب أن إبراهيم رآه حفيدًا وسُرّ به، فقد ولد يعقوب قبل موت إبراهيم بخمس عشرة سنة، وأن من يعقوب نشأت أمّة عظيمة.
وحرف (لما) حرف وجودٍ لوجودٍ، أي يقتضي وجود جوابه لأجل وجود شرطه فتقتضي جملتين، والأكثر أن يكون وجود جوابها عند وجود شرطها، وقد تكون بينهما فترة فتدل على مجرد الجزائية، أي التعليل دون توقيت، وذلك كما هنا. وضمير لهم عائد إلى إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام. و من في قوله: {ومن ذريتهما محسن} [الصافات: 113] إما حرف تبعيض صفة لمحذوف دلّ عليه {وهبنا} أي موهوبًا من رحمتنا. وإما اسم بمعنى بَعض بتأويل، كما تقدم عند قوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر} في سورة البقرة (8). وإن كان النحاة لم يثبتوا لكلمة مِن استعمالها اسمًا كما أثبتوا ذلك لكلمات (الكاف) و(عن) و(على) لكن بعض موارد الاستعمال تقتضيه، كما قال التفتازاني في حاشية الكشاف، وأقرّه عبْد الحكيم. وعلى هذا تكون مِن في موضع نصب على المفعول به لفعل وهبنا، أي وهبنا لهم بعضَ رحمتنا، وهي النبوءة، لأنها رحمة لهم ولمن أرسلوا إليهم. واللسان: مجاز في الذكر والثناء. ووصف لسان بصدق وصفًا بالمصدر. الصدق: بلوغ كمال نوعه، كما تقدم آنفًا، فلسان الصدق ثناء الخير والتبجيل، ووصف بالعلوّ مجازًا لشرف ذلك الثناء. وقد رتّب جزاء الله إبراهيم على نبذه أهل الشرك ترتيبًا بديعًا إذ جوزي بنعمة الدنيا وهي العقب الشريف، ونعمة الآخرة وهي الرحمة، وبأثر تينك النعمتين وهو لسان الصدق، إذ لا يذكر به إلا من حصل النعمتين.
وتقدم اختلاف القراء في نبيئا عند ذكر إبراهيم عليه السلام. اهـ.