فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{واذكر في الكتاب إسماعيل}.
فُصّل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه لإبراز كمال الاعتناءِ بأمره بإيراده مستقلًا وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد} تعليلٌ لموجب الأمر، وإيرادُه عليه السلام بهذا الوصف لكمال شهرتِه به وناهيك أنه وعَدَ الصبرَ على الذبح بقوله: {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين} فوفّى {وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا} فيه دِلالةٌ على أن الرسولَ لا يجب أن يكون صاحبَ شريعةٍ، فإن أولادَ إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام كانوا على شريعته.
{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة} اشتغالًا بالأهم وهو أن يُقْبل الرجلُ بالتكميل على نفسه مَنْ هو أقربُ الناس إليه قال تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة} {قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} وقصد إلى تكميل الكل بتكميلهم لأنهم قدوةٌ يؤتسى بهم، وقيل: أهلُه أمتُه فإن الأنبياءَ عليهم السلام آباءُ الأمم {وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيًّا} لاتصافه بالنعوت الجليلةِ التي من جملتها ما ذكر من خصاله الحميدة. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ}.
الظاهر أنه ابن إبراهيم عليهما السلام كما ذهب إليه الجمهور وهو الحق، وفصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه عليهم السلام لإبراز كمال الاعتناء بأمره بإيراده مستقلًا، وقيل: إنه إسماعيل بن حزقيل بعثه الله تعالى إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه فخيره الله تعالى فيما شاء من عذابهم فاستعفاه ورضي بثوابه سبحانه وفوض أمرهم إليه عز وجل في العفو والعقوبة وروى ذلك الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه وغالب الظن أنه لا يصح عنه {إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد} تعليل لموجب الأمر، وإيراده عليه السلام بهذا الوصف لكمال شهرته بذلك.
وقد جاء في بعض الاخبار أنه وعد رجلًا أن يقيم له بمكان فغاب عنه حولًا فلما جاءه قال له: ما برحت من مكانك فقال: لا والله ما كنت لأخلف موعدي، وقيل: غاب عنه اثني عشر يومًا، وعن مقاتل ثلاثة أيام، وعن سهل بن سعد يومًا وليلة والأول أشهر ورواه الإمامية أيضًا عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه؛ وإذا كان هو الذبيح فناهيك في صدقه أنه وعد أباه الصبر على الذبح بقوله: {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102] فوفى.
وقال بعض الأذكياء طال بقاؤه: لا يبعد أن يكون ذلك إشارة إلى هذا الوعد والصدق فيه من أعظم ما يتصور.
{وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا} الكلام فيه كالكلام في السابق بيد أنهم قالوا هنا: إن فيه دلالة على أن الرسول لا يجب أن يكون صاحب شريعة مستقلة فإن أولاد إبراهيم عليهم السلام كانوا على شريعته وقد اشتهر خلافه بل اشترط بعضهم فيه أن يكون صاحب كتاب أيضًا والحق أنه ليس بلازم، وقيل: إن المراد بكونه صاحب شريعة أن يكون له شريعة بالنسبة إلى المبعوث إليهم وإسماعيل عليه السلام كذلك لأنه بعث إلى جرهم بشريعة أبيه ولم يبعث إبراهيم عليه السلام إليهم ولا يخفى ما فيه.
{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة}.
اشتغالًا بالأهم وهو أن يبدأ الرجل بعد تكميل نفسه بتكميل من هو أقرب الناس إليه قال الله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين} [الشعراء: 214].
{وأمُرْ أهْلَكَ بالصَّلاَةِ} [طه: 132] {قُوا أنفسكم وأهليكم نارًا} [التحريم: 6] أو قصدا إلى تكميل الكل بتكميلهم لأنهم قدوة يؤتسى بهم.
وقال الحسن: المراد بأهله أمته لكون النبي بمنزلة الأب لأمته، ويؤيد ذلك أن في مصحف عبد الله وكان يأمر قومه والمراد بالصلاة والزكاة قيل معناهما المشهور، وقيل: المراد بالزكاة مطلق الصدقة، وحكى أنه عليه السلام كان يأمر أهله بالصلاة ليلًا والصدقة نهارًا، وقيل المراد بها تزكية النفس وتطهيرها {وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيًّا} لاستقامة أقواله وأفعاله وهو اسم مفعول وأصله مرضوو فأعل بقلب واوه ياء لأنها طرف بعد واو ساكنة فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وقلبت الضمة كسرة.
وقرأ ابن أبي عبلة {مرضوا} من غير إعلال، وعن العرب أنهم قالوا: أرض مسنية ومسنوة وهي التي تسقى بالسواني. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ}.
وهو ابن إبراهيم عليهما السلام. وإنما فَصَل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه، لإبراز كمال الاعتناء بأمره، بإيراده مستقلًا. وقوله: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} تعليل للأمر. وإيراده عليه السلام بهذا الوصف، وإن شاركه فيه بقية الأنبياء، تشريفًا له وإكرامًا. ولأنه المشهور من خصاله. وناهيك أنه وعد من نفسه الصبر على الذبح، فوفىّ به حيث قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، وهذا أعظم ما يتصور فيه. وفيه تنبيه بعظم هذه الخلة. ولذا كان ضدها نفاقًا، كما صرّحت به الأخبار {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} أي: كان يبدأ أهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم. ولأنهم أولى من سائر الناس: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه: 132]، {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]، ألا ترى أنهم أحق بالتصدق عليهم؟ فالإحسان الدينيّ أولى. أفاده الزمخشري {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} أي: لاتصافه بالنعوت الجليلة التي منها ما ذكر. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)}.
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة- أن يرك في الكتاب وهو هذا القرآن العظيم (جده إسماعيل)، وأثنى عليه أعني إسماعيل بأنه كان صادق الوعد وكان رسولًا نبيًا. ومما يبين من القرآن شدة صدقه في وعده: أنه وعد أباه بصبره له على ذبحه ثم وفى بهذا الوعد. ومن وفى بوعده في تسليم نفسه للذبح فإن ذلك من أعظم الأدلة على عظيم صدقه في وعده. قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي قَالَ يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى قَالَ يا أبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَاءَ الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102] فهذا وعده. وقد بين تعال ى وفاءه به في قوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] الآية. والتحقيق أن الذبيح هو إسماعيل. وقد دلت على ذلك آيتان من كتاب الله تعالى دلالة واضحة لا لبس فيها. وسنوضح ذلك إن شاء الله غاية الإيضاح في سورة (الصافات). وثناؤه جل ولا في هذه الآية الكريمة على نبيه إسماعيل بصدق الوعد يفهم من دليل خطابه- أعني مفهوم مخالفته- أن إخلاف الوعد مذموم. وهذا المفهوم قد جاء مبينًا في مواضع أخر من كتاب الله تعالى. كقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] وقوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3] إلى غير ذلك من الآيات. وفي الحديث: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان».
وقوله تعالى في هذه الآية: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة}. قد بين في موضاع أخر- أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك الذي أثنى الله به على جده إسماعيل، كقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا} [طه: 132].. الآية. ومعلوم أنه امتثل هذا الأمر. وكقوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] الآية. ويدخل في ذلك أمرهم أهليهم بالصلاة والزكاة. إلى غير ذلك من الآيات.
مسألة:
اختلف العلماء في لزوم الوفاء بالعهد. فقال بعضهم: يلزم الوفاء به مطلقًا. وقال بعضهم: لا يلزم مطلقا. وقال بعضهم: إن أدخله بالوعد في ورطة لزم الوفاء به، وإلا فلا. ومثاله- ما لو قال له: تزوج. فقال له: ليس عندي ما اصدق له الزوجة. فقال: تزوج والتزم لها الصداق وأنا أدفعه عنك، فتزوج على هذا الأساس، فإنه قد أدخله بوعده في ورطة التزام الصداق. واحتج من قال يلزمه: بأدلة منها آيات من كتاب الله دلت بظاهر عمومها على ذلك وبأحاديث.
فالآيات كقوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 34]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] الآية، وقوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] الآية، وقوله هنا: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} [مريم: 54] الآية، ونحو ذلك من الآيات والأحاديث كحديث «العدة دين» فجعلها دينًا دليل على لزومها. قال صاحب كشف الخفار ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس: «العدة دين» رواه الطبراني في الأوسط والقضاعي وغيرهما عن ابن مسعود بلفظ قال: لا يعد أحدكم صبية ثم لا ينجز له، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العدة دين» ورواه أبو نعيم عنه بلفظ: إذا وعد أحدكم صبية فلينجز له: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر بلفظ «عطية» ورواه البخاري في الأدب المفرد موقوفًا، ورواه الطبراني والديلمي عن علي مرفوعًا بلفظ: «الوعد بالعدة مثل الدين أو أشد» اي وعد الواعد. وفي لفظ له «عدة المؤمن دين. وعدة المؤمن كالأخذ باليد» وللطبراني في الأوسط عن قياث بن أشيم الليثي مرفوعًا: «العدة عطية». وللخرائطي في المكارم عن الحسن البصري مرسلًا: أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا فلم تجد عنده، فقالت: عدني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العدة عطية». وفي رواية لهما عن الحسن أنه قال: سأل رجل النَّبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، فقال: «ما عندي ما أعطيك» قال: في المقاصد بعد ذكر الحديث وطرقه: وقد أفردته مع ما يلائمه بجزء- انتهى منه. وقد علم في الجامع الصغير على هذا الحديث من رواية علي عند الديلمي في مسند الفردوس بالضعف.
وقال شارحه المناوي: وفيه دارم بين قبيصة، قال الذهبي: لا يعرف. اهـ. ولكن قد مر لك أن طرقه متعددة. وقد روي عن غير علي من الصحابة كما قدمنا روايته عن ابن مسعود، وقياث بن أشيم الكناني الليثي رضي الله عنهما. وسيأتي في هذا المبحث إن شاء الله أحاديث صحيحة، دالة على الوفاء بالوعد.
واحتج من قال بأن الوعد لا يلزم الوفاء به بالإجماع- على أن من وعد رجلًا بمال إذا فلس الواعد لا يضرب للموعود بالوعد مع الغرماء، ولا يكون مثل ديونهم اللازمة بغير الوعد، حكى الإجماع على هذا ابن عبد البر. كما نقله عنه القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة، وفيه مناقشة. وحجة من فرق بين إدخاله غياه في ورطة بالوعد فيلزم. وبين عدم إدخاله إياه فيها فلا يلزم أنه إذا أدخله في ورطة بالوعد ثم رجع في الوعد وتركه في الورطة التي أدخله فيها فقد أضر به. وليس لمسلم أن يضر بأخيه، الحديق «لا ضرر ولا ضرار».
وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسيره هذه الآية: قال مالك: ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال نعم، وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان.
وقال أبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعي، والشافعي وسائر الفقهاء إن العدة لا يلزم منها شيء، لأنها منافع لم يقبضها في العارية لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها. وفي البخاري: {واذكر فِي الكتاب إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} [مريم: 54] وقضى ابن أشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب، قال البخاري: ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع اه كلام القرطبي. وكلام البخاري الذي ذكر القرطبي بعضهن هو قوله في آخر كتاب (الشهادات): باب من أمر بإنجاز الوعد، وفعله الحسن وذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد، وقضى ابن الأشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة وقال المسور بن مخرمة: سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم، وذكر صهرًا له، قال وعدني فوفى لي، قال أبو عبد الله: ورايت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع: حدثنا إبراهيم بن حمزة، حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد اللهك أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره قال أخبرني أبو سفيان: أن هرقل قال له: سألتك ماذا يأمركم. فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. قال: وهذه صفى نبي. حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيب نافع بن مالك بن ابي عامر عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف» حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام عن ابن جريج قالك أخبرني عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال: لما مات النَّبي صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكل مال من قبل العلاء بن الحضرمي فقال أبو بكر: من كان له على النَّبي صلى الله عليه وسلم دين، أو كانت له قبله عدة فليأتنا. قال جابر: فقلت وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا، فبسط يديه ثلاث مرات. قال جابر: فعد في يدي خمسمائة، ثم خمسمائة، ثم خمسمائة. حدثنا محمد بن عبد الرحيم، أخبرنا سعيد بن سليمان، حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير: قال: سالني يهودي من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله، فقدمت فسالت ابن عباس، قال: قضى أكثرهما وأطيبهما.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل- انتهى من صحيح البخاري. وقوله في ترجمة الباب المذكور «وفعله الحسن» يعني الأمر بإنجاز الوعد. ووجه احتجاجه بآية {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} [مريم: 54] أن الثناء عليه بصدق الوعد يفهم منه أن إخلافه مذموم فاعله، فلا يجوز. وابن الأشوع المذكور هو سعيد بن عمرو بن أشوع الهمداني الكوفي، كان تفسير إسحاق بن راهوية وهو إسحاق بن إبراهيم الذي ذكر البخاري أنه رآه يحتج بحديث ابن أشوع، كما قاله ابن حجر في (الفتح). والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد. وصهر النَّبي صلى الله عليه وسلم الذي أثنى عليه بوفائه له بالوعد هو أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أسره المسلمون يوم بدر كافرًا، وقد وعده برد ابنته زينب إليه وردها إليه. خلافًا لمن زعم أن الصهر المذكور أبو بكر رضي الله عنه. وقد ذكر البخاري في البال المذكور أربعة أحاديث في كل واحد منها دليل على الوفاء بإنجاز الوعد.
الأول- حديث أبي سفيان بن حب في قصة هرقل وهو طرف من حديث صحيح مشهور. ووجه الدلالة منه في قوله: «فزعمت أنه أمركم بالصلاة والعفاف والوفاء وأداء الأمانة» فإن جميع المذكورات في هذا الحديث مع الوفاء بالعهد كلها واجبة، وهي الصلاة والصدق والعفاف وأداء الأمانة. وقد ذكر بعد ذلك أن هذه الأمور صفة نبي والاقتداء بالأنبياء واجب.
الثاني- حديث أبي هريرة في آية المنافق. ومحل الدليل منه قوله: «وإذا وعد أخلف» فكون إخلاف الوعد من علامات المنافق يدل على أن المسلم لا يجوز له أن يتسم بسمات المنافقين.
الثالث- حديث جابر في قصته مع أبي بكر. ووجه الدلاة منه أن أبا بكر قال: من كان له على النَّبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت له قبله عدة.. الحديث. فجعل العدة كالدين، وأنجز لجابر ما وعده النَّبي صلى الله عليه وسلم من المال: فدل ذلك على الوجوب.
الرابع- حديث ابن عباس في أي الأجلين قضى موسى: ووجه الدلالة منه أنه قضى أطيبهما وأكثرهما، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل. فعلى المؤمنين الاقتداء بالرسل، وأن يفعلوا إذا قالوا. وفي الاستدلال بهذه الأحاديث مناقشات من المخالفين. ومن أقوى الأدلة في الوفاء بالعهد قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] لأن المفت الكبير من الله على عدم الوفاء بالقول يدل على التحريم الشديد في عدم الوفاء به.
وقال ابن حجر في (الفتح) في الكلام على ترجمة الباب المذكورة قال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض: لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء اهـ. ونقل الإجماع في ذلك مردود، فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل: وقال ابن عبد البر وابن العربي أجل من قال به عمر بن العزيز- انتهى محل الغرض من كلام الحافظ في الفتح، وقال أيضًام وخرج بعضهم الخلاف في هذه المسألة على الخلاف في الهبة، هل تلك بالقبض أو قبله.
فإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة. وما استدل به كل فريق منهم- فاعلم أن الذي يظهر لي في هذه المسألة والله تعالى أعلم: أن إخلاف الوعد لا يجوز، لكونه من علامات المنافقين، ولأن الله يقول: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} وظاهر عمومه يشمل إخلاف الوعد ولكن الواعد إذا امتنع من إنجاز الوعد لا يحكم به ولا يلزم به جبرًا. بل يؤمر به ولا يجبرعليه. لأن أكثر علماء الأمة على أنه لا يجبر على الوفاء به لأنه وعد بمعروف محض. والعلم عند الله تعالى. اهـ.