فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وسمي إدريس لكثرة درسه لكتاب الله تعالى.
وأنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة كما في حديث أبي ذر.
قال الزمخشري: وقيل سمي إدريسُ إدريسَ لكثرة درسه كتاب الله تعالى؛ وكان اسمه أخنوخ وهو غير صحيح؛ لأنه لو كان إفعيلا من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية وكان منصرفًا، فامتناعه من الصرف دليل على العجمة؛ وكذلك إبليس أعجمي وليس من الإبلاس كما يزعمون؛ ولا يعقوب من العقب، ولا إسرائيل بإسرال كما زعم ابن السكيت؛ ومن لم يحقق ولم يتدرّب بالصناعة كثرت منه أمثال هذه الهنات؛ ويجوز أن يكون معنى إدريس عليه السلام في تلك اللغة قريبًا من ذلك فحسبه الراوي مشتقًا من الدرس.
قال الثعلبي والغزنوي وغيرهما: وهو جدّ نوح وهو خطأ؛ وقد تقدّم في (الأعراف) بيانه. وكذا وقع في السيرة أن نوحًا عليه السلام بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس النبي فيما يزعمون؛ والله تعالى أعلم. وكان أوّل من أعطي النبوّة من بني آدم، وخط بالقلم. ابن يرد بن مهلائيل بن قينان بن يانش بن شيث بن آدم صلى الله عليه وسلم فالله أعلم. قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} قال أنس بن مالك وأبو سعيد الخدريّ وغيرهما: يعني السماء الرابعة.
وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقاله كعب الأحبار.
وقال ابن عباس والضحاك: يعني السماء السادسة؛ ذكره المهدوي.
قلت: ووقع في البخاري عن شرِيك بن عبد الله بن أبي نَمِر قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة، الحديث، وفيه: كل سماء فيها أنبياء قد سماهم منهم إدريس في الثانية.
وهو وَهَمٌ، والصحيح أنه في السماء الرابعة؛ كذلك رواه ثابت البُنَانِيّ عن أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ذكره مسلم في الصحيح.
وروى مالك بن صعصعة قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لما عرج بي إلى السماء أتيت على إدريس في السماء الرابعة» خرجه مسلم أيضًا.
وكان سبب رفعه على ما قال ابن عباس وكعب وغيرهما: أنه سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس، فقال: يا رب أنا مشيت يومًا فكيف بمن يحملها خمسمائة عام في يوم واحد! اللهم خَفِّف عنه من ثقلها. يعني الملك الموكل بفلك الشمس؛ يقول إدريس: اللهم خَفِّف عنه من ثقلها واحمل عنه من حرها. فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس والظل ما لا يعرف، فقال: يا رب خلقتني لحمل الشمس فما الذي قضيت فيه؟ فقال الله تعالى: أما إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته. فقال: يا رب اجمع بيني وبينه، واجعل بيني وبينه خلة. فأذن الله له حتى أتى إدريس، وكان إدريس عليه السلام يسأله. فقال: أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت، فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي، فأزداد شكرًا وعبادة. فقال الملك: لا يؤخر الله نفسًا إِذا جاء أجلها؛ فقال للملك: قد علمت ذلك ولكنه أطيب لنفسي. قال: نعم. ثم حمله على جناحه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس، ثم قال لملك الموت: لي صديق من بني آدم تشّفع بي إليك لتؤخر أجله. فقال: ليس ذلك إليّ ولكن إن أحببت عِلمه أعلمته متى يموت. قال: نعم. ثم نظر في ديوانه، فقال: إنك تسألني عن إنسان ما أراه يموت أبدًا. قال: وكيف؟ قال: لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس. قال: فإني أتيتك وتركته هناك. قال: انطلق فما أراك تجده إلا وقد مات فوالله ما بقي من أجل إدريس شيء. فرجع الملك فوجده ميتًا.
وقال السدّي: إنه نام ذات يوم، واشتدّ عليه حرّ الشمس، فقام وهو منها في كرب؛ فقال: اللهم خفف عن ملك الشمس حرها، وأعنه على ثقلها، فإنه يمارس نارًا حامية. فأصبح ملك الشمس وقد نصب له كرسي من نور، عنده سبعون ألف ملك عن يمينه، ومثلها عن يساره يخدمونه، ويتولون أمره وعمله من تحت حكمه؛ فقال ملك الشمس: يا رب من أين لي هذا؟. قال: دعا لك رجل من بني آدم يقال له إدريس... ثم ذكر نحو حديث كعب. قال فقال له ملك الشمس: أتريد حاجة؟ قال: نعم وددت أني لو رأيت الجنة. قال: فرفعه على جناحه، ثم طار به، فبينما هو في السماء الرابعة التقى بملك الموت ينظر في السماء، ينظر يمينًا وشمالًا، فسلم عليه ملك الشمس، وقال: يا إدريس هذا ملك الموت فسلم عليه؛ فقال ملك الموت: سبحان الله! ولأي معنى رفعته هاهنا؟ قال: رفعته لأريه الجنة. قال: فإن الله تعالى أمرني أن أقبض روح إدريس في السماء الرابعة. قلت: يا رب وأين إدريس من السماء الرابعة، فنزلت فإذا هو معك؛ فقبض روحه فرفعها إلى الجنة، ودفنت الملائكة جثته في السماء الرابعة، فذلك قوله تعالى: {ورفعناه مكانًا علِيًا}.
قال وهب بن منبه: كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لأهل الأرض في زمانه، فعجب منه الملائكة واشتاق إليه ملك الموت، فاستأذن ربه في زيارته فأذن له، فأتاه في صورة آدمي، وكان إدريس عليه السلام يصوم النهار؛ فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل. ففعل به ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس؛ وقال له: من أنت! قال: أنا ملك الموت؛ استأذنت ربي أن أصحبك فأذن لي؛ فقال: إن لي إليك حاجة. قال: وما هي؟ قال: أن تقبض روحي. فأوحى الله تعالى إليه أن اقبض روحه؛ فقبضه وردّه الله إليه بعد ساعة، وقال له ملك الموت: ما الفائدة في قبض روحك؟ قال: لأذوق كرب الموت فأكون له أشدّ استعدادًا. ثم قال له إدريس بعد ساعة: إن لي إليك حاجة أخرى. قال: وما هي؟ قال: أن ترفعني إلى السماء فأنظر إلى الجنة والنار؛ فأذن الله تعالى له في رفعه إلى السموات، فرأى النار فصعق، فلما أفاق قال: أرني الجنة؛ فأدخله الجنة، ثم قال له ملك الموت: اخرج لتعود إلى مقرّك. فتعلق بشجرة وقال: لا أخرج منها. فبعث الله تعالى بينهما ملكًا حكمًا، فقال: ما لك لا تخرج؟ قال: لأن الله تعالى قال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت} [آل عمران: 185] وأنا ذقته، وقال: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] وقد وردتها؛ وقال: {وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] فكيف أخرج؟ قال الله تبارك وتعالى لملك الموت: (بإذني دخل الجنة وبأمري يخرج) فهو حي هنالك فذلك قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} قال النحاس: قول إدريس: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} يجوز أن يكون الله أعلم هذا إدريس، ثم نزل القرآن به.
قال وهب بن منبه: فإدريس تارة يرتع في الجنة، وتارة يعبد الله تعالى مع الملائكة في السماء.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ}.
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين مِن ذُرِّيَّةِ ءادَمَ} يريد إدريس وحده.
{وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} يريد إبراهيم وحده.
{وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ} يريد إسماعيل وإسحاق ويعقوب.
{و} من ذرية {إِسْرَائِيلَ} موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى.
فكان لإدريس ونوح شرف القرب من آدم، ولإبراهيم شرف القرب من نوح ولإسماعيل وإسحاق ويعقوب شرف القرب من إبراهيم.
{وَمِمَّنْ هَدَيْنَا} أي إلى الإسلام: {واجتبينآ} بالإيمان.
{إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن}.
وقرأ شِبل بن عباد المكي {يتلى} بالتذكير لأن التأنيث غير حقيقي مع وجود الفاصل.
{خَرُّواْ سُجَّدًا وَبُكِيًّا} وصفهم بالخشوع لله والبكاء.
وقد مضى في {سبحان}.
يقال: بكى يبكي بكاء وبُكًى وبُكيَّا، إلا أن الخليل قال: إذا قصرت البكاء فهو مثل الحزن؛ أي ليس معه صوت كما قال الشاعر:
بكت عينِي وحُقَّ لها بكاها ** وما يغنِي البكاءُ ولا العَوِيلُ

{وسُجَّدًا} نصب على الحال {وَبُكِيًّا} عطف عليه.
الثانية: في هذه الآية دلالة على أن لآيات الرحمن تأثيرًا في القلوب.
قال الحسن: {إذا تتلى عليهِم آيات الرحمنِ خروا سجدًا وبكيا} في الصلاة.
وقال الأصم: المراد بآيات الرحمن الكتب المتضمنة لتوحيده وحججه، وأنهم كانوا يسجدون عند تلاوتها، ويبكون عند ذكرها.
والمروي عن ابن عباس أن المراد به القرآن خاصة، وأنهم كانوا يسجدون ويبكون عند تلاوته؛ قال الكيا: وفي هذه الآية دلالة من قوله على أن القرآن هو الذي كان يتلى على جميع الأنبياء، ولو كان كذلك لما كان الرسول عليه الصلاة والسلام مختصًا بإنزاله إليه.
الثالثة: احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على وجوب سجود القرآن على المستمع والقارىء.
قال الكيا: وهذا بعيد، فإن هذا الوصف شامل لكل آيات الله تعالى.
وضم السجود إلى البكاء، وأبان به عن طريقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في تعظيمهم لله تعالى وآياته، وليس فيه دلالة على وجوب ذلك عند آية مخصوصة.
الرابعة: قال العلماء: ينبغي لمن قرأ سجدة أن يدعو فيها بما يليق بآياتها، فإن قرأ سورة السجدة {الم تَنْزِيلُ} قال: اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك، المسبحين بحمدك، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك. وإن قرأ سجدة (سبحان) قال: اللهم اجعلني من الباكين إليك، الخاشعين لك. وإن قرأ هذه قال: اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم، المهديين الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك. اهـ.

.قال أبو حيان:

و{إدريس} هو جد أبي نوح وهو أخنوخ، وهو أول من نظر في النجوم والحساب، وجعله الله من معجزاته وأول من خط بالقلم وخاط الثياب ولبس المخيط، وكان خياطًا وكانوا قبل يلبسون الجلود، وأول مرسل بعد آدم وأول من اتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة فقاتل بني قابيل.
وقال ابن مسعود: هو إلياس بعث إلى قومه بأن يقولوا لا إله إلاّ الله ويعملوا ما شاؤوا فأبوا وأهلكوا.
و{إدريس} اسم أعجمي منع من الصرف للعلمية والعجمة، ولا جائز أن يكون إفعيلًا من الدرس كما قال بعضهم لأنه كان يجب صرفه إذ ليس فيه إلاّ سبب واحد وهو العلمية.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون معنى {إدريس} في تلك اللغة قريبًا من ذلك أي من معنى الدرس، فحسبه القائل مشتقًا من الدرس. والمكان العلي شرف النبوة والزلفى عند الله، وقد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة. انتهى. وقاله جماعة وهو رفع النبوة والتشريف والمنزلة في السماء كسائر الأنبياء.
وقيل: بل رفع إلى السماء.
قال ابن عباس: كان ذلك بأمر الله كما رفع عيسى كان له خليل من الملائكة فحمله على جناحه وصعد به حتى بلغ السماء الرابعة، فلقي هنالك ملك الموت فقال له: إنه قيل لي اهبط إلى السماء الرابعة فاقبض فيها روح إدريس وإني لأعجب كيف يكون هذا، فقال له الملك الصاعد: هذا إدريس معي فقبض روحه.
وروي أن هذا كله كان في السماء السادسة قاله ابن عباس.
وكذلك هي رتبته في حديث الإسراء في بعض الروايات من حديث أبي هريرة وأنس يقتضي أنه في السماء الرابعة.
وعن الحسن: إلى الجنة لا شيء أعلى من الجنة.
وقال قتادة: يعبد الله مع الملائكة في السماء السابعة، وتارة يرفع في الجنة حيث شاء.
وقال مقاتل: هو ميت في السماء.
{أولئك} إشارة إلى من تقدم ذكره في هذه السورة من الأنبياء و{من} في {من النبيين} للبيان، لأن جميع الأنبياء منعم عليهم و{من} الثانية للتبعيض، وكان إدريس {من ذرية آدم} لقربه منه لأنه جد أبي نوح وإبراهيم من ذرية من حمل من نوح، لأنه من ولد سام بن نوح {ومن ذرية إبراهيم} إسحاق وإسماعيل ويعقوب وإسرائيل معطوف على إبراهيم، وزكريا ويحيى وموسى وهارون من ذرية إسرائيل، وكذلك عيسى لأن مريم من ذريته.
{وممن هدينا} يحتمل العطف على {من} الأولى أو الثانية، والظاهر أن {الذين} خبر لأولئك.
{وإذا تتلى} كلام مستأنف، ويجوز أن يكون {الذين} صفة لأولئك والجملة الشرطية خبر.
وقرأ الجمهور: {تتلى} بتاء التأنيث. وقرأ عبد الله وأبو جعفر وشيبة وشبل بن عباد وأبو حيوة وعبد الله بن أحمد العجلي عن حمزة وقتيبة في رواية وورش في رواية النحاس، وابن ذكوان في رواية التغلي بالياء. وانتصب {سجدًا} على الحال المقدرة قاله الزجّاج لأنه حال خروره لا يكون ساجدًا، والبكي جمع باك كشاهد وشهود، ولا يحفظ فيه جمعه المقيس وهو فعلة كرام ورماة والقياس يقتضيه. وقرأ الجمهور: {بكيًا} بضم الباء وعبد الله ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي بكسرها اتباعًا لحركة الكاف كعصي ودلي، والذي يظهر أنه جمع لمناسبة الجمع قبله.
قيل: ويجوز أن يكون مصدر البكا بمعنى بكاء، وأصله بكو وكجلس جلوسًا.
وقال ابن عطية: و{بكيًا} بكسر الباء وهو مصدر لا يحتمل غير ذلك انتهى.
وقوله ليس بسديد لأن اتباع حركة الكاف لا تعين المصدرية، ألا تراهم قروؤا {جثيًا} بكسر الجيم جمع جاث، وقالوا عصي فاتبعوا. اهـ.

.قال أبو السعود:

{واذكر في الكتاب إِدْرِيسَ}.
وهو سِبطُ شَيْثٍ وجدُّ أبي نوحٍ فإنه نوحُ بنُ لمك بن متوشلح بنِ أُخنوخ وهو إدريسُ عليه السلام، واشتقاقُه من الدّرس يُرده منعُ صرفِه. نعم لا يبعُد أن يكون معناه في تلك اللغة قريبًا من ذلك فلُقّب به لكثرة دراسته. روي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفةً وأنه أولُ من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب {إِنَّهُ كَانَ صِدّيقًا} ملازمًا للصدق في جميع أحوالِه {نَبِيًّا} خبرٌ آخرُ لكان مخصّصٌ للأول، إذ ليس كلُّ صدّيق نبيًا.
{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}.
هو شرفُ النبوة والزُّلفى عند الله عز وجل، وقيل: علوُّ الرتبة بالذكر الجميل في الدنيا كما في قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} وقيل: الجنة، وقيل: السماءُ السادسةُ أو الرابعة. روي عن كعب وغيره في سبب رفعِ إدريسَ عليه السلام أنه سُئل ذاتَ يوم في حاجة فأصابه وهَجُ الشمس، فقال: يا رب إني قد مشَيتُ فيها يومًا وقد أصابني منها ما أصابني، فكيف من يحمِلها مسيرةَ خمسِمائة عام في يوم واحد؟ اللهم خففْ عنه من ثِقَلها وحرِّها، فلما أصبح المَلَك وجد من خفة الشمس وحرِّها ما لا يُعرف، فقال: يارب ما الذي قضيت فيه؟ قال: «إن عبدي إدريسَ سألني أن أخففَ عنك حَملَها وحرَّها فأجبتُه» قال: يا رب اجعل بيني وبينه خُلّةً، فأذِن الله تعالى له فرفعه إلى السماء.
{أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين في السورة الكريمة وما فيه من معنى البُعد للإشارة بعلوّ رُتَبهم وبُعد منزلتِهم في الفضل وهو مبتدأٌ وقوله تعالى: {الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم} صفتُه أي أنعم عليهم بفنون النِعَم الدينيةِ والدنيويةِ حسبما أشير إليه مجملًا وقوله تعالى: {مّنَ النبيين} بيان للموصول وقوله تعالى: {مِن ذُرّيَّةِ ءادَمَ} بدلٌ منه بإعادة الجارِّ ويجوز أن تكون كلمةُ من فيه للتبعيض لأن المنعَمُ عليهم أعمُّ من الأنبياء وأخصُّ من الذرية.
{وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} أي ومن ذرية مَنْ حملنا معه خصوصًا وهم مَنْ عدا إدريسَ عليه السلام، فإن إبراهيمَ كان من ذرية سامِ بنِ نوح {وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم} وهم الباقون {وإسراءيل} عطفٌ على إبراهيمَ أي ومن ذرية إسرائيلَ وكان منهم موسى وهارونُ وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وفيه دليلٌ على أن أولادَ البناتِ من الذرية {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينا} أي ومن جملة من هديناهم إلى الحق واجتبيناهم للنبوة والكرامة، وقوله تعالى: {إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّدًا وَبُكِيًّا} خبرٌ لأولئك ويجوز أن يكون الخبرُ هو الموصولُ، وهذا استئنافًا مَسوقًا لبيان خشيتِهم من الله تعالى وإخباتِهم له مع ما لهم من علوّ الرتبة وسمُوّ الطبقة في شرف النسَب وكمالِ النفس والزُلفى من الله عز سلطانه، وسجّدًا وبُكيًا حالان من ضمير خروا أي ساجدين باكين. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اتلوا القرآن وابكُوا فإن لم تبكُوا فتباكوا» والبُكِيُّ جمع باكٍ كالسُّجّد جمع ساجد، وأصله بُكُويٌ فاجتمعت الواوُ والياء وسُبقت إحداهما بالسكون فقُلبت الواوُ ياء وأُدغمت الياءُ في الياء، وحُرّكت الكافُ بالكسر المجانس للباء، وقرئ {يُتلى} بالياء التحتانيةِ لأن التأنيثَ غيرُ حقيقي، وقرئ {بِكِيًّا} بكسر الباء للإتباع، قالوا: ينبغي أن يدعوَ الساجد في سجدته بما يليق بآياتها فهنا يقول: اللهُم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهدبين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك وفي آية الإسراء يقول اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك وفي آية التنزيل السجدة يقول اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرينعن أمرك. اهـ.