فصل: قال السمرقندي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

{ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ}.
أي ذلك الذي قال إني عبد الله، عيسى ابن مريم، لا ما يقول النصارى إنه إله.
{قَوْلَ الحق}، يعني: خبر الصدق.
قرأ عاصم وابن عامر {قَوْلَ} بنصب اللام، والباقون بالضم؛ فمن قرأ بالنصب فمعناه أقول الحق، ومن قرأ بالضم معناه وهو قول الحق.
{الذى فِيهِ يَمْتُرُونَ}، يعني: يشكون في عيسى عليه السّلام ويختلفون فيما بينهم.
ثم كذبهم في قولهم فقال: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ}، يعني: عيسى.
ثم نزّه عن الولد فقال: {سبحانه إِذَا قضى أَمْرًا}، يعني: إذا أراد أن يخلق خلقًا مثل عيسى، {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، قرأ ابن عامر {فَيَكُونُ} بالنصب، وقرأ الباقون بالضم، وقرأ بعضهم: {تَمْتَرُونَ} بالتاء على وجه المخاطبة، وقراءة العامة بالياء لأنها ليست فيها مخاطبة.
{وَإِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ}؛ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {رَبُّكُمْ} بالنصب على معنى البناء، والباقون {وَأَنَّ الله} بالكسر على معنى الابتداء وهي قراءة أبي عبيدة؛ وفي قراءة أبيّ {إِنَّ الله} بغير واو فتكون قراءته شاهدة على الكسر.
ثم قال: {فاعبدوه}، يعني: وحدوه وأطيعوه.
{هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ}، يعني: هذا الإسلام طريق مستقيم.
{فاختلف الاحزاب مِن بَيْنِهِمْ}، يعني: الكفار من أهل النصارى من بينهم، يعني: بينهم في عيسى وتفرقوا ثلاثة فرق: قالت النسطورية: عيسى ابن الله، واليعقوبية قالوا: إن الله هو المسيح، والملكانية قالوا: إن الله ثالث ثلاثة.
{فَوَيْلٌ}، يعني: الشدة من العذاب {لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، يعني: من عذاب يوم القيامة، بأن عيسى لم يكن الله ولا ولده ولا شريكه، ويقال: ويل صخرة في جهنم.
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لكن الظالمون}، أي المشركون.
{اليوم}، يعني: في الدنيا {في ضلال مُّبِينٍ}، أي في خطأ بيّن لا يسمعون الهدى ولا يبصرون ولا يرغبون فيه.
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة}، يقول: وأنذرهم يا محمد أي خوفهم بهول يوم القيامة، {إِذْ قُضِىَ الأمر}؛ يعني: فرغ من الأمر إذا دخل أهل الجنة الجنة، ودخل أهل النار النار، وهو يوم القيامة.
{وَهُمْ في غَفْلَةٍ}، يعني: هم في الدنيا في غفلة من تلك الندامة والحسرة.
{وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، يعني: لا يصدقون بالبعث.
قال: حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر المدني، عن محمد بن عمرو، عن أبي مسلمة، عن الزهري، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَؤْتَى بِالمَوْتِ فَيُوقَفُ عَلَى الصِّرَاطِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيطلعُونَ. وَيُقَالُ: يا أهْلَ النَّارِ، فيطلعونَ. فيقالُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هذا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَم يَا رَبَّنَا، هَذا المَوْتُ. قال: فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ على الصَّرَاطِ، ثم يقالُ: للفريقينِ. خُلُودٌ لا مَوْتَ فِيهَا أبدًا». وروى الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، فذلك قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة إِذْ قُضِىَ الأمر} الآية.
{إنا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا}، يعني: نميت أهل الأرض كلهم ومن عليها، {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} في الآخرة.
{واذكر في الكتاب إبراهيم}، يعني: خبر إبراهيم.
{إِنَّهُ كَانَ صِدّيقًا نَّبِيًّا}، يعني: صادقًا.
وقال الزجاج: الصديق اسم للمبالغة في الصدق، يقال: كل من صدق بتوحيد الله عز وجل وأنبيائه عليهم السلام وفرائضه وعمل بما صدق فيه فهو صديق، ومن ذلك سمي أبو بكر الصديق.
{إِذْ قَالَ لأبِيهِ}، وهو آزر بن تارخ بن تاخور وكان يعبد الأصنام: {لأبِيهِ يا أبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ} دعاءك {وَلاَ يَبْصِرُ} عبادتك {وَلاَ يُغْنِى عَنكَ} من عذاب الله عز وجل {شَيْئًا}؛ قرأ ابن عامر: {يَا أَبَتَ} بالنصب، والباقون بالكسر، وكذلك ما بعده. والعرب تقول في النداء: يا أبت ولا تقول يا أبتي.
ثم قال: {شَيْئًا يا أبت إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ العلم} من الله تعالى من البيان، {مَا لَمْ يَأْتِكَ} أنه من عند غير الله، عذبه الله في الآخرة بالنار.
{فاتبعنى}، يعني: أطعني فيما أدعوك، ويقال: اتبع دين الله؛ {أَهْدِكَ}، يعني: أرشدك {صِرَاطًا سَوِيًّا}، يعني: طريقًا عدلًا قائمًا ترضاه.
{سَوِيًّا يا أبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان}، يعني: لا تطع الشيطان، فمن أطاع شيئًا فقد عبده.
{إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيًّا}، يعني: عاصيًا.
ثم قال: {عَصِيًّا يا أبت إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ}، يعني: أعلم أن يمسك {عَذَابِ}، إن أقمت على كفرك يصيبك عذاب.
{مّنَ الرحمن}، {فَتَكُونَ للشيطان وَلِيًّا}؛ يعني: قرينًا في النار.
{قَالَ} له أبوه: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى}، يعني: أتارك أنت عبادة آلهتي؟ {الِهَتِى ياإبراهيم لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ}، يقول: إن لم تنته عن مقالتك ولم ترجع عنها، لأسبنك وأشتمنك. وكل شيء في القرآن من الرجم فهو القتل غير ها هنا، فإن هاهنا المراد به السبُّ والشتم.
{واهجرنى مَلِيًّا}، يعني: تباعد عني حينًا طويلًا ولا تكلمني؛ وقال السدي: {مَلِيًّا} تعني أبدًا، وقال قتادة: {واهجرنى مَلِيًّا} يعني: تباعد عني سالمًا؛ ويقال: لا تُكلِّمني دهرًا طويلًا.
{قَالَ} إبراهيم: {سلام عَلَيْكَ}، يعني: أكرمك الله بالهدى؛ {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي}، يعني: سأدعو لك ربي.
{إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيًّا}، يعني: بارًا عوّدني الإجابة إذا دعوته، ويقال: تحفَّيتُ بالرجل إذا بالغتُ في إكرامه، وهذا قول القتبي، ويقال: {حَفِيًّا} يعني: عالمًا يستجيب لي إذا دعوته، وكان يستغفر له ما دام أبوه حيًا؛ فلما مات كافرًا، ترك الاستغفار له وكان يرجو أن يهديه الله عز وجل.
قوله عز وجل: {وَأَعْتَزِلُكُمْ} يعني: وأترككم {وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله}، يعني: أترك عبادة ما تعبدون من دون الله عز وجل، {وَأَدْعُو رَبّى عَسَى أَن لا أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا}؛ يعني: لا يخيبني إذا دعوته، فهاجر إلى بيت المقدس.
{فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ}، يعني: أكرمناه بالولد وهو إسحاق وولد الولد وهو يعقوب.
وقال بعض الحكماء: من هاجر في طلب رضاء الله عز وجل، أكرمه الله عز وجل في الدنيا والآخرة؛ كما أن إبراهيم هاجر من قومه في طلب رضى الله تعالى عنه، فأكرمه الله تعالى بإسحاق ويعقوب عليهما السلام والثناء العمل الصالح.
ثم قال تعالى: {وَكُلًا جَعَلْنَا نَبِيًّا}، يعني: إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام أكرمناهم بالنبوة، {وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا}؛ يعني: من نعمتنا المال والولد في الدنيا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَ المالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِح».
{وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا}، يعني: أكرمناهم بالثناء الحسن، وكل أهل دين يقولون دين إبراهيم بزعمهم.
{واذكر في الكتاب موسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا}، يعني: أخلصه الله عز وجل، ويقال: {مُخْلِصًا} يعني: جعله الله مختارًا خالصًا.
قرأ حمزة والكسائي وعاصم بنصب اللام يعني: أخلصه الله عز وجل ويقال: مخلصًا من الكفر والمعاصي وقرأ الباقون {مُخْلِصًا} بالكسر يعني: مخلصًا في العمل.
{وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا} إلى بني إسرائيل، {وناديناه مِن جَانِبِ الطور الايمن}، يعني: من يمين موسى ولم يكن للجبل يمين ولا شمال {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}، أي كلمناه بلا وحي؛ وقال الكلبي: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} وقربناه حتى سمع صرير القلم في اللوح، وقال السدي: أدخل في السماء الدنيا وكلم، وقال الزجاج: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} مناجيًا.
ثم قال عز وجل: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا} من نعمتنا {أَخَاهُ هارون نَبِيًّا}، فكان معه وزيرًا معينًا.
{واذكر في الكتاب إسماعيل}، يعني: اذكر في القرآن خبر إسماعيل.
{إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد}، إذا وعد أنجز.
قال مقاتل: إن إسماعيل وعد رجلًا أنْ ينتظره، فقام مكانه ثلاثة أيام للميعاد، حتى رجع الرجل إليه؛ وقال في رواية الكلبي: كان ميعادُه الذي وعد فيه صاحبه انتظره حتى حال الحول، وقال مجاهد: إنه كان صادق الوعد، يعني: لم يعد شيئًا إلا وفى به.
{وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا}، يعني: كان رسولًا إلى قومه، نبيًا يُخبر عن الله عز وجل.
{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ}، يعني: أهل دينه وقومه {وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا}، يعني: بإتمام الصلاة وإيتاء الزكاة.
{وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيًّا}، يعني: صالحًا ذكيًا.
{واذكر في الكتاب إِدْرِيسَ}، يعني: خبر إدريس.
{إِنَّهُ كَانَ صِدّيقًا نَّبِيًّا}، يعني: صادقًا يُخبر عن الله عز وجل، وذكر عن وهب بن منبه أنه قال: إنما سمي إدريس لكثرة ما يدرس من كتاب الله عز وجل والسنن، وأنزل عليه ثلاثين صحيفة، وهو أول من لبس ثوب القطن؛ وكانوا من قبل ذلك يلبسون جلود الضأن، واسمه أخنوخ ويقال إلياس.
{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}، يعني: الجنة؛ وقال مجاهد: يعني: في السماء الرابعة.
قال: أخبرني الثقة بإسناده، عن ابن عباس أنه سئل كعب الأحبار عن إدريس فقال كعب: إن إدريس كان رجلًا خياطًا، وكان يقوم الليل ويصوم النهار ولا يفتر عن ذكر الله عز وجل، وكان يكتسب فيتصدق بالثلثين. فأتاه ملك من الملائكة يقال له إسرافيل، فبشره بالجنة وقال له: هل لك من حاجة؟ قال: وددت أني أعلم إلى متى أجلي فأزداد خيرًا. فقال له: ما أعلمه، ولكن إن شئت حملتك إلى السماء. قال: فحمله إلى السماء، فلقي ملك الموت، فسأله عن أجله، ففتح كتابًا معه فقال: لم يبق من أجلك إلا ست ساعات أو سبع ساعات، وقال: أُمرتُ أن أقبض نفسك هاهنا، فقبض نفسه في السماء، فذلك رفع مكانه.
وروى الكلبي، عن زيد بن أسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن إدريس جد أبي نوح؛ وكان أهل الأرض يومئذ بعضهم مؤمنًا وبعضهم كافرًا، فكان يصعد لإدريس من العمل ما كان يصعد لجميع بني آدم، فأحبه ملك الموت، فاستأذن الله تعالى في خلته، قال: فأذن له. قال: فهبط إليه في صورة غير صورته، على صورة آدمي لكيلا يعرفه فقال: يا إدريس إني أحب أن أصحبك وأكون معك. فقال له إدريس: إنك لا تطيق ذلك. قال: أنا أرجو أن يقويني الله عز وجل على ذلك، فكان معه يصحبه. وكان إدريس يسيح النهار كله صائمًا؛ فإذا جنّه الليل أتاه رزقه حيث يمسي، فيفطر عليه ثم يحيي الليل كله. فساحا النهار كله صائمين، حتى إذا أمسيا أتى إدريس رزقه فأكله ودعا الآخر، فقال: لا والذي جعلك بشرًا ما أشتهيه، فيطعم إدريس ثم يستقبلا الليل بالصلاة. فإدريس تناله السآمة والفترة من الليل والآخر لا يسأم ولا يفتر، فجعل إدريس يتعجب منه ثم أصبحا صائمين فساحا، حتى إذا جنهما الليل أتى إدريس رزقه فجعل يطعم ودعا الآخر فقال: لا والذي جعلك بشرًا ما أشتهيه فيطعم. ثم استقبلا الليل كله فإدريس تناله السآمة والفترة والآخر لا يسأم ولا يفتر، فجعل إدريس يتعجب منه ثم أصبحا اليوم الثالث صائمين، فساحا فمرا على كرم قد أينع وطاب فقال: يا إدريس لو أنا أخذنا من هذا الكرم فأكلنا. فقال إدريس: ما أرى صاحبه فأشتريه منه وإني لأكره أن آخذ بغير ثمن. قال: فمضيا حتى مرا على غنم فقال: يا إدريس لو أخذنا من هذا الغنم شاة فأكلنا من لحمها فقال له إدريس: إنك معي منذ ثلاثة أيام، فلو كنت آدميًا لطعمت؛ وإني لأدعوك كل ليلة إلى الحلال فتأبى علي، فكيف تدعوني إلى الحرام أن آخذه؟ فبصحبة ما بيني وبينك إلا ما أنبأتني من أنت. قال: إنك ستعلم. قال: أخبرني من أنت؟ قال: أنا ملك الموت. ففزع حين قال أنا ملك الموت. قال: فإني أسألك حاجة. قال: ما هي قال: أن تذيقني الموت. قال: ما لي من ذلك شيء وليس لك بد من أن تذوقه. قال: فإنه قد بلغني عنه شدة؛ ولعلي أعلم ما شدته، فأكون له أشد استعدادًا. قال: فأوحى الله عز وجل إلى ملك الموت أن يقبض روحه ساعة ثم يرسله. قال: فقبض نفسه ساعة ثم أرسله، فقال: كيف رأيت؟ قال: لقد بلغني عنه شدة فلقد كان أشد مما بلغني عنه. قال: فإني أسألك حاجة أُخرى. قال: ما هي؟ قال: أحب أن تُريني النار. قال: ما لي من ذلك شيء، ولكن سأطلب لك، فإن قدرت عليه فعلت. فسأل ربه، فأمره فبسط جناحه فحمله عليه، حتى صعد به إلى السماء فانتهى به إلى باب من أبواب النار فدقه فقيل: من هذا؟ فقال: ملك الموت. فقال: مرحبًا بأمين الله عز وجل، فهل أمرت فينا بشيء؟ فقال: لو أمرت فيكم بشيء لم أناظركم، ولكن هذا إدريس سألني أن أريه النار، فأحب أن تروها إياه. ففُتح منها بشيء، فجاءت بأمر عظيم، فخرّ إدريس مغشيًا عليه؛ فحمله ملك الموت وحبسه في ناحية حتى أفاق فقال له ملك الموت؛ ما أحببت أن يصيبك هذا في صحبتي، ولكن سألتني فأحببت أن أسعفك. قال: فإني أسألك حاجة أخرى، لا أسألك غيرها. قال: ما هي؟ قال: أحب أن تريني الجنة. قال: ما لي من ذلك شيء، ولكن سأطلب لك فإن قدرت عليه فعلت. فانطلق به إلى خزنة الجنة، فدق بابًا من أبوابها فقيل: من هذا؟ فقال: أنا ملك الموت. فقالوا: مرحبًا بأمين الله عز وجل، هل أمرت فينا بشيء؟ فقال: لو أمرت فيكم بشيء لم أناظركم، ولكن هذا إدريس سألني أن أريه الجنة فأحب أن تروها إياه. قال: ففتح له الباب فدخل فنظر إلى شيء لم ينظر مثله قط، فطاف فيها ساعة ثم قال له ملك الموت: انطلق بنا فلنخرج. فانطلق إلى شجرة فتعلق بها ثم قال: والله لا أخرج، حتى يكون الله عز وجل هو الذي يخرجني. فقال ملك الموت: إنه ليس حينها ولا زمانها، ولكن طلبت إليهم لترى، فانطلق بنا. فأبى عليه فقبض الله ملكًا من الملائكة فقال له ملك الموت: اجعل هذا الملك حكمًا بيني وبينك؟ قال: نعم. قال الملك: ما هو يا ملك الموت؟ فأخبره بالقصة، ثم نظر الملك إلى إدريس قال: ما تقول يا إدريس؟ قال: أقول إن الله يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور} [آل عمران: 185] ويقول: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} [مريم: 71] وقد وردتها وقال لأهل الجنة: {لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48]. فوالله لا أخرج منها حتى يكون الله عز وجل هو الذي يخرجني. قال: فسمع هاتفًا يقول: بإذني دخل وبإذني فعل فخل سبيله، فذلك قوله عز وجل: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}». أي الجنة؛ ويقال: ورفعناه في القدر والمنزلة، ويقال: ورفعناه في النبوة والعلم.
ثم قال عز وجل: {أولئك}، يعني: إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس وسائر الأنبياء {الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين مِن ذُرّيَّةِ ءادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} من سائر الأنبياء وهم ولد نوح إلا إدريس، يعني: حملناهم على السفينة وهم في صلب نوح وأولاده، {وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم وإسراءيل} وهو يعقوب؛ {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا} يعني: أكرمنا بالنبوة، ويقال: أكرمنا بالإسلام، {واجتبينا}؛ يعني: واصطفينا بعد هؤلاء.
{أُولَئِكَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم}، يعني: القرآن، {خَرُّواْ سُجَّدًا وَبُكِيًّا}؛ يعني: يسجدون ويبكون من خوف الله عز وجل. بكيّ: جمع باكي. وقوله: {سُجَّدًا وَبُكِيًّا} منصوب على الحال، وقال بعضهم: {بُكِيًا} مصدر بكى يبكي بكيًا، وقال الزجاج: من قال مصدر فهو خطأ، لأن {لِلأذْقَانِ سُجَّدًا} جمع ساجد {وَبُكِيًّا} عطف عليه فهو جمع باك. اهـ.