فصل: (سورة مريم: الآيات 38- 40).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



. [سورة مريم: الآيات 38- 40].

{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)}.
لا يوصف اللّه تعالى بالتعجب وإنما المراد أن أسماعهم وأبصارهم يومئذ جدير بأن يتعجب منهما بعد ما كانوا صما وعميا في الدنيا. وقيل: معناه التهديد بما سيسمعون ويبصرون مما يسوءهم ويصدع قلوبهم. أوقع الظاهر أعنى الظالمين موقع الضمير: إشعارا بأن لا ظلم أشد من ظلمهم، حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين يجدى عليهم ويسعدهم. والمراد بالضلال المبين: إغفال النظر والاستماع قُضِيَ الْأَمْرُ فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه سئل عنه أى عن قضاء الأمر فقال: «حين يذبح الكبش والفريقان ينظران» وإذ بدل من يوم الحسرة. أو منصوب بالحسرة {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} متعلق بقوله: {في ضلال مبين} عن الحسن. {وأنذرهم}: اعتراض. أو هو متعلق بأنذرهم، أي: وأنذرهم على هذه الحال غافلين غير مؤمنين. يحتمل أنه يميتهم ويخرب ديارهم، وأنه يفنى أجسادهم ويفنى الأرض ويذهب بها.

. [سورة مريم: الآيات 41- 45].

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطًا سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45)}.
الصدّيق: من أبنية المبالغة. ونظيره الضحيك والنطيق. والمراد، فرط صدقه وكثرة ما صدّق به من غيوب اللّه وآياته وكتبه ورسله، وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل أي: كان مصدقا بجميع الأنبياء وكتبهم، وكان نبيا في نفسه، كقوله تعالى: {بلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} أو كان بليغا في الصدق، لأن ملاك أمر النبوة الصدق، ومصدق اللّه بآياته ومعجزاته حرىّ أن يكون كذلك، وهذه الجملة وقعت اعتراضا بين المبدل منه وبدله، أعنى إبراهيم. وإِذْ قالَ نحو قولك: رأيت زيدا، ونعم الرجل أخاك. ويجوز أن يتعلق إذ بكان أو بصديقا نبيا، أي: كان جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات.
والمراد بذكر الرسول إياه وقصته في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس ويبلغه إياهم، كقوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ} وإلا فاللّه عز وجل هو ذاكره ومورده في تنزيله. التاء في يا أَبَتِ عوض من ياء الإضافة، ولا يقال يا أبتى، لئلا يجمع بين العوض والمعوض منه. وقيل: يا أبتا، لكون الألف بدلا من الياء، وشبه ذلك سيبويه بأينق، وتعويض الياء فيه عن الواو الساقطة.
انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصا فيه أمر العقلاء وانسلخ عن قضية التمييز، ومن الغباوة التي ليس بعدها غباوة: كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق، مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن، منتصحا في ذلك بنصيحة ربه عز وعلا، حدّث أبو هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم «أوحى اللّه إلى إبراهيم عليه السلام: إنك خليلي، حسن خلقك ولو مع الكفار، تدخل مداخل الأبرار»، فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه: أظله تحت عرشي، وأسكنه حظيرة القدس، وأدنيه من جواري. وذلك أنه طلب منه أو لا العلة في خطئه طلب منبه على تماديه، موقظ لإفراطه وتناهيه، لأن المعبود لو كان حيا مميزا، سميعا بصيرا، مقتدرا على الثواب والعقاب، نافعا ضارا، إلا أنه بعض الخلق: لاستخفّ عقل من أهله للعبادة ووصفه بالربوبية، ولسجل عليه بالغىّ المبين والظلم العظيم وإن كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة كالملائكة والنبيين. قال اللّه تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وذلك أن العبادة هي غاية التعظيم، فلا تحق إلا لمن له غاية الإنعام: وهو الخالق الرزاق، المحيي المميت، المثيب المعاقب، الذي منه أصول النعم وفروعها. فإذا وجهت إلى غيره- وتعالى علوا كبيرا أن تكون هذه الصفة لغيره- لم يكن إلا ظلما وعتوا وغيا وكفرا وجحودا، وخروجا عن الصحيح النير إلى الفاسد المظلم، فما ظنك بمن وجه عبادته إلى جماد ليس به حس ولا شعور؟ فلا يسمع- يا عابده- ذكرك له وثناءك عليه، ولا يرى هيآت خضوعك وخشوعك له، فضلا أن يغنى عنك بأن تستدفعه بلاء فيدفعه، أو تسنح لك حاجة فيكفيكها. ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقا به متلطفا، فلم يسم أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال: إن معى طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السوي فلا تستنكف، وهب أنى وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعنى أنجك من أن تضل وتتيه.
ثم ثلث بتثبيطه ونهيه عما كان عليه: بأن الشيطان- الذي استعصى على ربك الرحمن الذي جميع ما عندك من النعم من عنده، وهو عدوّك الذي لا يريد بك إلا كل هلاك وخزى ونكال وعدوّ أبيك آدم وأبناء جنسك كلهم- هو الذي ورّطك في هذه الضلالة وأمرك بها وزينها لك، فأنت إن حققت النظر عابد الشيطان، إلا أن إبراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص ولارتقاء همته في الربانية لم يذكر من جنايتي الشيطان إلا التي تختص منهما برب العزة من عصيانه واستكباره، ولم يلتفت إلى ذكر معاداته لآدم وذرّيته كأن النظر في عظم ما ارتكب من ذلك غمر فكره وأطبق على ذهنه. ثم ربع بتخويفه سوء العاقبة وبما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال، ولم يخل ذلك من حسن الأدب، حيث لم يصرح بأن العقاب لا حق له وأن العذاب لا صق به، ولكنه قال: أخاف أن يمسك عذاب، فذكر الخوف والمس ونكر العذاب، وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب، وذلك أن رضوان اللّه أكبر من الثواب نفسه، وسماه اللّه تعالى المشهود له بالفوز العظيم حيث قال: {وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فكذلك ولاية الشيطان التي هي معارضة رضوان اللّه، أكبر من العذاب نفسه وأعظم، وصدّر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله يا أَبَتِ توسلا إليه واستعطافا. ف ما في {ما لا يَسْمَعُ} و{ما لَمْ يَأْتِكَ} يجوز أن تكون موصولة وموصوفة، والمفعول في {لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} منسى غير منوي، كقولك: ليس به استماع ولا إبصار {شَيْئًا} يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون في موضع المصدر، أي: شيئا من الغناء، ويجوز أن يقدر نحوه مع الفعلين السابقين. والثاني: أن يكون مفعولا به من قولهم: أغن عنى وجهك إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فيه تجدد العلم عنده.

. [سورة مريم: آية 46].

{قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)}.
لما أطلعه على سماجة صورة أمره، وهدم مذهبه بالحجج القاطعة، وناصحه المناصحة العجيبة مع تلك الملاطفات، أقبل عليه الشيخ بفظاظة الكفر وغلظة العناد، فناداه باسمه، ولم يقابل {يا أَبَتِ} بيا بنىّ، وقدّم الخبر على المبتدأ في قوله: {أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ} لأنه كان أهمّ عنده وهو عنده أعنى، وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته، وأن آلهته، ما ينبغي أن يرغب عنها أحد. وفي هذا سلوان وثلج لصدر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه {لَأَرْجُمَنَّكَ} لأرمينك بلساني، يريد الشتم والذمّ، ومنه الرَّجِيمِ المرمىّ باللعن. أو لأقتلنك، من رجم الزاني. أو لأطردنك رميا بالحجارة. وأصل الرجم: الرمي بالرجام {مَلِيًّا} زمانا طويلا من الملاوة: أو مليا بالذهاب عنى والهجران قبل أن أثخنك بالضرب، حتى لا تقدر أن تبرح. يقال: فلان ملىّ بكذا، إذا كان مطيقا له مضطلعا به. فإن قلت: علام عطف {وَاهْجُرْنِي}؟ قلت: على معطوف عليه محذوف يدل عليه {لَأَرْجُمَنَّكَ} أى فاحذرنى واهجرني، لأن {لَأَرْجُمَنَّكَ} تهديد وتقريع.

. [سورة مريم: الآيات 47- 48].

{قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)}.
{قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ} سلام توديع ومتاركة، كقوله تعالى: {لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ} وقوله: {وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا} وهذا دليل على جواز متاركة المنصوح والحال هذه. ويجوز أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له. ألا ترى أنه وعده الاستغفار. فإن قلت: كيف جاز له أن يستغفر للكافر وأن يعده ذلك؟ قلت: قالوا أراد اشتراط التوبة عن الكفر، كما ترد الأوامر والنواهي الشرعية على الكفار والمراد اشتراط الإيمان، وكما يؤمر المحدث والفقير بالصلاة والزكاة ويراد اشتراط الوضوء والنصاب. وقالوا: إنما استغفر له بقوله: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ} لأنه وعده أن يؤمن.
واستشهدوا عليه بقوله تعالى: {وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ} ولقائل أن يقول: إنّ الذي منع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع، فأمّا القضية العقلية فلا تأباه، فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع، بناء على قضية العقل، والذي يدل على صحته قوله تعالى: {إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} فلو كان شارطا للإيمان لم يكن مستنكرا ومستثنى عما وجبت فيه الأسوة. وأمّا {عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ} فالواعد هو إبراهيم لا آزر، أي: ما قال: {وَاغْفِرْ لِأَبِي} إلا عن قوله: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} وتشهد له قراءة حماد الرواية: وعدها أباه. واللّه أعلم. {حَفِيًّا} الحفىّ: البليغ في البر والإلطاف، حفى به وتحفى به {وَأَعْتَزِلُكُمْ} أراد بالاعتزال المهاجرة إلى الشام. المراد بالدعاء العبادة، لأنه منها ومن وسائطها. ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم «الدعاء هو العبادة» ويدل عليه قوله تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ويجوز أن يراد الدعاء الذي حكاه اللّه في سورة الشعراء. عرّض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم في قوله: {عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا} مع التواضع للّه بكلمة عَسى وما فيه من هضم النفس.

. [سورة مريم: الآيات 49- 50].

{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًا جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)}.
ما خسر على اللّه أحد ترك الكفار الفسقة لوجهه، فعوّضه أولادا مؤمنين أنبياء {مِنْ رَحْمَتِنا} هي النبوّة عن الحسن. وعن الكلبي: المال والولد، وتكون عامّة في كل خير دينى ودنيوى أوتوه. لسان الصدق: الثناء الحسن. وعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهي العطية. قال:
إنى أتتنى لسان لا أسر بها

يريد الرسالة. ولسان العرب: لغتهم وكلامهم. استجاب اللّه دعوته {وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} فصيره قدوة حتى ادّعاه أهل الأديان كلهم. وقال عز وجل: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ} و{مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا}، {ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا} وأعطى ذلك ذرّيته فأعلى ذكرهم وأثنى عليهم، كما أعلى ذكره وأثنى عليه.

. [سورة مريم: آية 51].

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصًا وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)}.
المخلص- بالكسر-: الذي أخلص العبادة عن الشرك والرياء. أو أخلص نفسه وأسلم وجهه للّه. وبالفتح: الذي أخلصه اللّه. الرسول: الذي معه كتاب من الأنبياء: والنبىّ: الذي ينبئ عن اللّه عز وجل وإن لم يكن معه كتاب، كيوشع.

. [سورة مريم: آية 52].

{وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52)}.
الأيمن من اليمين: أى من ناحيته اليمنى. أو من اليمن صفة للطور، أو للجانب. شبهه بمن قرّبه بعض العظماء للمناجاة، حيث كلمه بغير واسطة ملك. وعن أبى العالية قرّبه حتى سمع صريف القلم الذي كتبت به التوراة.

. [سورة مريم: آية 53].

{وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53)}.
{مِنْ رَحْمَتِنا} من أجل رحمتنا له وترأفنا عليه: وهبنا له هرون. أو بعض رحمتنا، كما في قوله: {وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا}. وأَخاهُ على هذا الوجه بدل. وهارُونَ عطف بيان، كقولك: رأيت رجلا أخاك زيدا. وكان هرون أكبر من موسى، فوقعت الهبة على معاضدته وموازرته كذا عن ابن عباس رضى اللّه عنه.

. [سورة مريم: الآيات 54- 55].

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)}.
ذكر إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد وإن كان ذلك موجودا في غيره من الأنبياء، تشريفا له وإكراما، كالتلقيب بنحو: الحليم، والأوّاه، والصدّيق، ولأنه المشهور المتواصف من خصاله. عن ابن عباس رضى اللّه عنه: أنه وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان، فانتظره سنة. وناهيك أنه وعد في نفسه الصبر على الذبح فوفى، حيث قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم، ولأنهم أولى من سائر الناس {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ}، {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نارًا} ألا ترى أنهم أحق بالتصدّق عليهم، فالإحسان الديني أولى. وقيل أَهْلَهُ أمته كلهم من القرابة وغيرهم، لأنّ أمم النبيين في عداد أهاليهم. وفيه أنّ من حق الصالح أن لا يألو نصحا للأجانب فضلا عن الأقارب والمتصلين به، وأن يحظيهم بالفوائد الدينية ولا يفرط في شيء من ذلك.

. [سورة مريم: الآيات 56- 57].

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكانًا عَلِيًّا (57)}.
قيل: سمى إدريس لكثرة دراسته كتاب اللّه عزّ وجل، وكان اسمه أخنوخ، وهو غير صحيح، لأنه لو كان أفعيلا من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية، فكان منصرفا، فامتناعه من الصرف دليل العجمة. وكذلك إبليس أعجمى، وليس من الإبلاس كما يزعمون، ولا يعقوب من العقب، ولا إسرائيل بإسرال كما زعم ابن السكيت، ومن لم يحقق ولم يتدرّب بالصناعة كثرت منه أمثال هذه الهنات. ويجوز أن يكون معنى إِدْرِيسَ في تلك اللغة قريبا من ذلك، فحسبه الراوي مشتقا من الدرس. المكان العلى: شرف النبوّة والزلفى عند اللّه وقد أنزل اللّه عليه ثلاثين صحيفة، وهو أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب، وأوّل من خاط الثياب ولبسها، وكانوا يلبسون الجلود. وعن أنس بن مالك رضى اللّه عنه يرفعه إنه رفع إلى السماء الرابعة. وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما: إلى السماء السادسة. وعن الحسن رضى اللّه عنه. إلى الجنة لا شيء أعلى من الجنة. وعن النابغة الجعدي: أنه لما أنشد عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الشعر الذي آخره:
بلغنا السّماء مجدنا وسناؤنا ** وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «إلى أين يا أبا ليلى» قال: إلى الجنة.