فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



تنبيه:
أخاه مفعول أو بدل على تقدير أن تكون من للتبعيض وقوله: {هارون} عطف بيان وقوله: {نبيًا} حال منه هي المقصودة بالهبة.
القصة الخامسة: قصة إسماعيل عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {واذكر في الكتاب إسماعيل} بن إبراهيم عليهما السلام الذين هم معترفون بنبوّته ومفتخرون برسالته وأبوّته فلزم من ذلك فساد تعليلهم إنكار نبوّتك بأنك من البشر ثم إنّ الله تعالى وصف إسماعيل بأمور:
أوّلها: قوله تعالى: {إنه كان} أي: جبلة وطبعًا {صادق الوعد} في حق الله وفي حق غيره لمعونة الله له على ذلك بسبب أنه لا يعد وعدًا إلا مقرونًا بالاستثناء كما قال لأبيه حين أخبره بأمر ذبحه: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} [الصافات]. وخصه بالمدح به وإن كان الأنبياء كلهم كذلك لقصة الذبح فلا يلزم منه تفضيله مطلقًا وروي عن ابن عباس أنه وعد صاحبًا له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة وروي أنّ عيسى عليه السلام قال له رجل انتظرني حتى آتيك فقال عليه السلام نعم وانطلق الرجل ونسي الميعاد فجاء إلى حاجته إلى ذلك المكان وعيسى عليه السلام هناك للميعاد، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه واعد رجلًا ونسي ذلك الرجل فانتظره من الضحى إلى غروب الشمس» وسئل الشعبي عن الرجل يعد ميعادًا إلى أيّ وقت ينتظره؟ قال: فإن واعده نهارًا فكل النهار وإن واعده ليلًا فكل الليل، وسئل إبراهيم بن زيد عن ذلك فقال: إذا واعدته في وقت الصلاة فانتظره إلى وقت صلاة أخرى.
ثانيها: قوله تعالى: {وكان رسولًا نبيًا} قد مرّ تفسيره. وثالثها: قوله تعالى: {وكان يأمر أهله بالصلاة} أي: التي هي طهرة البدن وقرّة العين وخير العون على جميع المآرب {والزكاة} أي: التي هي طهرة المال كما أوصى الله تعالى بذلك جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمراد بالأهل قومه، وقيل: أهله جميع أمته كان رسولًا إلى جرهم قاله الأصفهاني وإلى أهل تلك البراري بدين أبيه إبراهيم والمراد بالصلاة قال ابن عباس: يريد التي افترضها الله تعالى عليهم قال البغوي وهي الحنيفية التي افترضت علينا قيل كان يبدأ بأهله في الأمر بالعبادة ليجعلهم قدوة لمن سواهم كما قال تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء]. {وأمر أهلك بالصلاة} [طه]. {قوا أنفسكم وأهليكم نارًا} [التحريم]. وبالزكاة قال ابن عباس إنها طاعة الله والإخلاص فكأنه تأوّله على ما يزكو به الفاعل عند ربه تعالى والظاهر كما قال ابن عادل إنّ الزكاة إذا قرنت بالصلاة أن يراد بها الصدقات الواجبة.
رابعها: قوله تعالى: {وكان عند ربه} بعبادته على حسب ما أمره به {مرضيًا} وهذا في نهاية المدح لأنّ المرضي عند الله هو الفائز في كل طاعة بأعلى الدرجات فاقتد أنت به فإنه من أجلّ آبائك لتجمع بين طهارة القول والبدن والمال فتنال رتبة الرضا.
القصة السادسة: قصة إدريس عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {واذكر في الكتاب} أي: الجامع لكل ما يحتاج إليه حتى ما يحتاج إليه من قصص المتقدّمين والمتأخرين {إدريس} وهو جدّ أبي نوح عليه السلام قيل: سمي إدريس لكثرة دراسته الكتب واسمه أحنوخ بمهملة ونون وآخره خاء معجمة وصفه الله تعالى بأمور أحدها: وثانيها: قوله تعالى: {إنه كان صدّيقًا نبيًا} أي: صادقًا في أفعاله وأقواله ومصدّقًا بما آتاه الله من آياته وعلى ألسنة الملائكة، ثالثها: قوله تعالى: {ورفعناه مكانًا عليًا} وفيه قولان:
أحدهما: أنه من رفع المنزلة كقوله تعالى للنبيّ صلى الله عليه وسلم {ورفعنا لك ذكرك} [الإنشراح]. فإنّ الله تعالى شرّفه بالنبوّة وأنزل عليه ثلاثين صحيفة وهو أوّل من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب وأوّل من خاط الثياب ولبسها وكانوا من قبله يلبسون الجلود وأوّل من اتخذ السلاح وقاتل الكفار.
وثانيهما: أنه من رفعة المكان ثم اختلفوا فقال بعضهم: رفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة وهي التي رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم بها ليلة الإسراء وقيل: إلى الجنة وهو حيّ لا يموت وقالوا أربعة من الأنبياء أحياء اثنان في الأرض الخضر وإلياس واثنان في السماء عيسى وإدريس وقال وهب كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة ما يرفع لجميع أهل الأرض في زمانه فعجبت منه الملائكة واشتاق له ملك الموت فاستأذن ربه في زيارته فأذن له فأتاه في صورة بني آدم وكان إدريس يصوم الدهر فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل معه ففعل ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس وقال له الليلة الثالثة: إني أريد أن أعلم من أنت، قال أنا ملك الموت استأذنت ربي أن أصحبك فقال: لي إليك حاجة قال ما هي قال تقبض روحي فأوحى الله تعالى إليه أن اقبض روحه، فقبض روحه وردّها إليه بعد ساعة، فقال له ملك الموت: ما الفائدة في سؤالك قبض الروح؟ قال لأذوق كرب الموت وغمته فأكون أشدّ استعداد له، ثم قال له إدريس: إنّ لي إليك حاجة أخرى، قال: وما هي قال ترفعني إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنة والنار فأذن الله تعالى له في ذلك فرفعه فلما قرب من النار قال: لي إليك حاجة، قال: وما تريد؟ قال: تسأل مالكًا أن يفتح أبوابها فأردها، ففعل ثم قال: كما أريتني النار فأرني الجنة فذهب به إلى الجنة فاستفتح ففتح أبوابها فأدخله الجنة ثم قال له ملك الموت اخرج لتعود إلى مكانك فتعلق بشجرة وقال ما أخرج منها فبعث الله تعالى ملكًا حكمًا بينهما، فقال له الملك: ما لك لا تخرج؟ قال: إنّ الله تعالى قال: {كل نفس ذائقة الموت} [آل عمران]. وقد ذقته، وقال: {وإن منكم إلا واردها} [مريم]. وقد وردتها وقال: {وما هم منها بمخرجين} [الحجر]. فلست أخرج فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت بإذني دخل الجنة وبإذني لا يخرج فهو حيّ هناك، وقال آخرون: بل رفع إلى السماء وقبض روحه.
وقال كعب الأحبار: إنّ إدريس سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال يا رب إني مشيت يومًا فكيف يمشي من يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد اللهمّ خفف عنه من ثقلها وحرها فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرّها ما لا يعرفه فقال: يا رب خففت عني حرّ الشمس فما الذي قضيت فيه؟ فقال تعالى: إنّ عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرّها فأجبته قال يا رب اجعل بيني وبينه خلة، فأذن له حتى أتى إدريس فكان إدريس يسأله فكان مما سأله أن قال له: إني أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت فاشفع لي ليؤخر أجلي فازداد شكرًا وعبادة، فقال الملك: لا يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها وأنا مكلمه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس ثم أتى ملك الموت فقال لي حاجة إليك لي صديق من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله فقال ليس ذلك إليّ ولكن إن أحببت أعلمته أجله فيقدّم لنفسه قال نعم فنظر في ديوانه فقال: إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبدًا، قال: وكيف ذلك؟ قال: لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس، قال: إني أتيتك وتركته هناك، قال: فانطلق فلا أراك تجده إلا وقد مات فو الله ما بقي من أجل إدريس شيء فرجع الملك فوجده ميتًا. ولما انقضى كشف هذه الأخبار العلية المقدار الجليلة الأسرار شرع سبحانه وتعالى ينسب أهلها بأشرف نسبهم ويذكر المنن بينهم، فقال عز من قائل: {أولئك} أي: العالو الرتبة الشرفاء النسب المذكورون في هذه السورة من لدن زكريا إلى إدريس وهو مبتدأ وقوله: {الذين أنعم الله عليهم} بما خصهم به من مزيد القرب إليه وعظيم المنزلة لديه صفة له وقوله تعالى: {من النبيين} أي: المصطفين بالنبوّة الذين أنبأهم الله تعالى بدقائق الحكم ورفع محالهم بين الأمم بيان لهم وهو في معنى الصفة وما بعده إلى جملة الشرط صفة للنبيين فقوله: {من ذرية آدم} أي: إدريس لقربه منه لأنه جدّ أبي نوح {وممن حملنا مع نوح} في السفينة أي: إبراهيم ابن ابنه سام {ومن ذرية إبراهيم} أي: إسماعيل وإسحاق ويعقوب {و} من ذرية {إسرائيل} وهو يعقوب أي: موسى وهارون وزكريا ويحيى وكذا عيسى لأنّ مريم من ذريته {وممن هدينا} إلى أقوم الطرق {واجتبينا} للنبوّة والكرامة أي: من جملتهم. وخبر أولئك {إذا تتلى عليهم} من أيّ: تالٍ كان {آيات الرحمن خرّوا سجدًا} للمنعم عليهم تقرّبًا إليه لما لهم من البصائر النيرة في ذكر نعمه عليهم وإحسانه إليهم {وبكيًا} خوفًا منه وشوقًا إليه فكونوا مثلهم.
تنبيه:
سجدًا حال مقدرة قال الزجاج لأنهم وقت الخرور ليسوا سجدًا وهو جمع ساجد وبكيا جمع باك وليس بقياس بل قياس جمعه على فعلة كقاض وقضاة ولم يسمع فيه هذا الأصل وأصل بكيا بكويًا قلبت الواو ياء والضمة كسرة، واختلف في هذا السجود فقال بعضهم: إنه الصلاة وقال بعضهم: سجود التلاوة على حسب ما تعبدوا به. قال الرازي: ثم يحتمل أن يكون المراد سجود القرآن ويحتمل أنهم عند الخوف كانوا قد تعبدوا بسجود فيفعلون ذلك لأجل ذكر السجود في الآية انتهى.
وروى ابن ماجه وغيره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا» وعن صالح المزني قرأت القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: يا صالح هذه القراءة فأين البكاء؟ وعن ابن عباس: إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما غرغرت عين بماء إلا حرّم الله تعالى على النار جسدها» وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن القرآن نزل محزنًا فإذا قرأتموه فتحازنوا» وعن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «لا يلج النار من بكى من خشية الله».
وقال العلماء: يدعو في سجدة التلاوة بما يليق بآيتها فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال: اللهمّ اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المتكبرين عن أمرك، وإذا قرأ سجدة سبحان قال اللهم اجعلني من الباكين إليك الآسفين لك، وإن قرأ هذه قال: اللهمّ اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين الباكين عند تلاوة آيات كتابك وقرأ حمزة والكسائي {بكيا} بكسر الباء والباقون بضمها. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)}.
أخرج الحكم عن سمرة قال: كان إدريس أبيض طويلًا ضخم البطن عريض الصدر قليل شعر الجسد كثير شعر الرأس، وكانت إحدى عينيه أعظم من الأخرى، وكانت في صدره نكتة بيضاء من غير برص، فلما رأى الله من أهل الأرض ما رأى من جورهم واعتدائهم في أمر الله، رفعه الله إلى السماء السادسة، فهو حيث يقول: {ورفعناه مكانًا عليًا}.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن إدريس أقدم من نوح، بعثه الله إلى قومه، فأمرهم الله أن يقولوا لا إله إلا الله، ويعملوا بما شاء، فأبوا، فأهلكهم الله.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {ورفعناه مكانًا عليًا} قال: كان إدريس خياطًا. وكان لا يغرز إلا قال: سبحان الله، فكان يمسي حين يمسي وليس في الأرض أحد أفضل منه عملًا، فاستأذن ملك من الملائكة ربه، فقال يا رب ائذن لي فاهبط إلى إدريس. فأذن له، فأتى إدريس فسلم عليه، وقال: إني جئتك لأحدثك، فقال: كيف تحدثني وأنت ملك وأنا إنسان، ثم قال إدريس هل بينك وبين ملك الموت شيء؟ قال الملك: ذاك أخي من الملائكة، فقال: هل يستطيع أن ينسئني عند الموت؟ قال: أما أن يؤخر شيئًا أو يُقّدِّمَهُ فلا، ولكن سأكلمه لك، فيرفق بك عند الموت، فقال: اركب بين جناحي، فركب إدريس، فصعد إلى السماء العليا، فلقي ملك الموت إدريس بين جناحيه، فقال له الملك إن لي إليك حاجة، قال: علمت حاجتك، تكلمني في إدريس وقد محي اسمه من الصحيفة، ولم يبق من أجله إلا نصف طرفة عين، فمات إدريس بين جناحي الملك.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: سألت كعبًا عن رفع إدريس {مكانًا عليًا} فقال: كان عبدًا تقيًا رفع له من العمل الصالح ما رفع لأهل الأرض في زمانه، فعجب الملك الذي كان يصعد عليه عمله، فاستأذن ربه قال: رب، ائذن لي آتي عبدك هذا فأزوره، فأذن له، فنزل قال: يا إدريس، أبشرْ، فإنه رفع لك من العمل الصالح ما لا رفع لأهل الأرض، قال: وما علمك؟! قال إني ملك. قال: وإن كنت ملكًا؟ قال: فإني على الباب الذي يصعد عليه عملك. قال: أفلا تشفع إلى ملك الموت، فيؤخر من أجلي لأزداد شكرًا وعبادة؟ قال الملك: {لن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها} [المنافقون: 11] قال: قد علمت، ولكنه أطيب لنفسي، فحمله الملك على جناحه، فصعد به إلى السماء فقال: يا ملك الموت، هذا عبد تقي، نبي رفع له من العمل الصالح ما لا يرفع لأهل الأرض، وإني أعجبني ذلك، فاستأذنت ربي عليه، فلما بشرته بذلك، سألني لأشفع له إليك لتؤخر له من أجله؛ ليزداد شكرًا وعبادة. قال: ومن هذا؟ قال: إدريس، فنظر في كتاب معه حتى مر باسمه، فقال: والله ما بقي من أجل إدريس شيء، فمحاه، فمات مكانه.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، عن ابن عباس في قوله: {ورفعناه مكانًا عليًا} قال: رفع إلى السماء السادسة فمات فيها.
وأخرج الترمذي وصححه وابن المنذر وابن مردويه، عن قتادة في قوله: {ورفعناه مكانًا عليًا} قال: حدثنا أنس بن مالك، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما عرج بي رأيت إدريس في السماء الرابعة».
وأخرج ابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم {ورفعناه مكانًا عليًا} قال: «في السماء الرابعة».
وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد رضي الله عنه، والربيع مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد في الآية قال: رفع إدريس كما رفع عيسى ولم يمت.
وأخرج ابن أبي حاتم بسند حسن، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إدريس هو إلياس.
وأخرج ابن المنذر، عن عمر مولى غفرة يرفع الحديث إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: إن إدريس كان نبيًا تقيًا زكيًا، وكان يقسم دهره على نصفين: ثلاثة أيام يعلم الناس الخير، وأربعة أيام يسيح في الأرض، ويعبد الله مجتهدًا. وكان يصعد من عمله وحده إلى السماء من الخير مثل ما يصعد من جميع أعمال بني آدم، وإن ملك الموت أحبه في الله، فأتاه حين خرج للسياحة فقال له: يا نبي الله، إني أريد أن تأذن لي في صحبتك. فقال له إدريس- وهو لا يعرفه- إنك لن تقوى على صحبتي. قال: بلى، إني أرجو أن يقويني الله على ذلك، فخرج معه يومه ذلك حتى إذا كان من آخر النهار مر براعي غنم، فقال ملك الموت لإدريس: يا نبي الله، إنا لا ندري حيث نمسي، فلو أخذنا جفرة من هذه الغنم فأفطرنا عليها؟ فقال له إدريس: لا تعد إلى مثل هذا، تدعوني إلى أخذ ما ليس لنا، من حيث نمسي يأتي الله برزق! فلما أمسى أتاه الله بالرزق الذي كان يأتيه، فقال لملك الموت: تقدم فكل. فقال ملك الموت: لا والذي أكرمك بالنبوة ما أشتهي. فأكل إدريس وقاما جميعًا إلى الصلاة، ففتر إدريس وكل ومل ونعس، وملك الموت لا يفتر ولا يمل ولا ينعس، فعجب منه وقال: قد كنت أظن أني أقوى الناس على العبادة فهذا أقوى مني! فصغرت عنده عبادته عندما رأى منه. ثم أصبحا فساحًا، فلما كان آخر النهار مرا بحديقة عنب فقال ملك الموت لإدريس: يا نبي الله، لو أخذنا قطفًا من هذا العنب لأنا لا ندري حيث نمسي. فقال إدريس: ألم أنهك عن هذا وأنت حيث تمسي يأتينا الله برزق! فلما أمسى أتاه الله الرزق الذي كان يأتيه فأكل إدريس، فقال لملك الموت هلم فكل. فقال: لا والذي أكرمك بالنبوة يا نبي الله، لا أشتهي. فعجب! ثم قاما إلى الصلاة ففتر إدريس أيضًا، وكل ومل، وملك الموت لا يكلّ ولا يفتر ولا ينعس. فقال له عند ذلك إدريس: لا والذي نفسي بيده ما أنت من بني آدم! فقال له ملك الموت عنده ذلك: أجل لست من بني آدم. فقال له إدريس: فمن أنت؟ قال: أنا ملك الموت. فقال له إدريس: أمرتَ فيَّ بأمر؟ فقال له: لو أمرت فيك بأمر ما ناظرتك، ولكني أحبك في الله، وصحبتك له. فقال له إدريس: يا ملك الموت، إنك معي ثلاثة أيام بلياليها لم تقبض روح أحد من الخلق؟ قال: بلى والذي أكرمك بالنبوة يا نبي الله، إني معك من حين رأيت، وإني أقبض نفس من أمرت بقبض نفسه في مشارق الأرض ومغاربها، وما الدنيا عندي إلا بمنزلة المائدة بين يدي الرجل، يمد يده ليتناول منها ما شاء. فقال له إدريس: يا ملك الموت، أسألك بالذي أحببتني له وفيه ألا قضيت لي حاجة أسألكها؟ فقال له ملك الموت: سلني ما أحببت يا نبي الله. فقال: أحب أن تذيقني الموت، وتفرق بين روحي وجسدي حتى أجد طعم الموت، ثم ترد إلي روحي. فقال له ملك الموت- عليه السلام-: ما أقدر على ذلك، إلا أن استأذن فيه ربي، فقال له إدريس- عليه السلام- فاستأذنه في ذلك. فعرج ملك الموت إلى ربه، فأذن له، فقبض نفسه وفرق بين روحه وجسده، فلما سقط إدريس عليه السلام ميتًا، رد الله إليه روحه، وطفق يمسح وجهه وهو يقول: يا نبي الله، ما كنت أريد أن يكون هذا حظك من صحبتي! فلما أفاق، قال له ملك الموت: يا نبي الله، كيف وجدت؟ قال: يا ملك الموت، قد كنت أحدث وأسمع، فإذا هو أعظم مما كنت أحدث وأسمع! ثم قال: يا ملك الموت، أريد منك حاجة أخرى قال: وما هي؟ قال: تريني النار حتى أنظر إلى لمحة منها. فقال له ملك الموت: وما لك وللنار، إني لأرجو أن لا تراها، ولا تكون من أهلها، قال: بلى أريد ذلك؛ ليكون أشد لرهبتي وخوفي منها! فانطلق إلى باب من أبواب جهنم فنادى بعض خزنتها فأجابوه، وقالوا: من هذا؟ قال: أنا ملك الموت- فارتعدت فرائصهم- قالوا: أمرت فينا بأمر؟ فقال: لو أمرت فيكم بأمر ما ناظرتكم، ولكن نبي الله إدريس- عليه السلام- سألني أن تروه لمحة من النار. ففتحوا له قدر ثقب المخيط فأصابه من حرها ولهبها وزفيرها ما صعق! فقال ملك الموت: أغلقوا! فأغلقوا، فمسح ملك الموت وجهه وهو يقول: يا نبي الله، ما كنت أحب أن يكون هذا حظك من صحبتي. فلما أفاق قال له ملك الموت: يا نبي الله، كيف رأيت؟ قال: يا ملك الموت، كنت أحدث وأسمع، فإذا هو أعظم مما كنت أحدث وأسمع! فقال له: يا ملك الموت، قد بقيت لي حاجة أخرى لم يبق غيرها. قال: وما هي؟ قال: تريني لمحة من الجنة. قال له ملك الموت- عليه السلام: يا نبي الله أبشر! فإنك إن شاء الله من خيار أهلها، وأنها إن شاء الله مقيلك ومصيرك. فقال: يا ملك الموت، إني أحب أن أنظر إليها، ولعل ذلك أن يكون أشد لشوقي وحرصي وطلبي! فذهب به إلى باب من أبواب الجنة، فنادى بعض خزنتها فأجابوه، فقالوا: من هذا؟ قال: ملك الموت. فارتعدت فرائصهم، وقالوا: أمرت فينا بشيء؟ فقال: لو أمرت فيكم بشيء ما ناظرتكم، ولكن نبي الله إدريس- عليه السلام- سأل أن ينظر إلى لمحة من الجنة فافتحوا. فلما فتح أصابه من بردها وطيبها وريحانها ما أخذ بقلبه فقال: يا ملك الموت، إني أحب أن أدخل الجنة فآكل أكلة من ثمارها، وأشرب شربة من مائها، فلعل ذلك أن يكون أشد لطلبتي ورغبتي وحرصي. فقال: ادخل. فدخل فأكل من ثمارها، وشرب من مائها. فقال له ملك الموت، اخرج يا نبي الله، قد أصبت حاجتك حتى يردك الله مع الأنبياء يوم القيامة. فاحتضن بساق شجرة من شجر الجنة وقال: ما أنا بخارج منها، وإن شئت أن أخاصمك خاصمتك. فأوحى الله إلى ملك الموت، قاضه الخصومة. فقال له ملك الموت: ما الذي تخاصمني به يا نبي الله؟ فقال إدريس: قال اللّه تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} [آل عمران: 185] فقد ذقت الموت الذي كتبه الله على خلقه مرة واحدة. وقال الله: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتمًا مقضيًا} [مريم: 76] وقد وردتها، أفأردها مرة بعد مرة؟ وإنما كتب الله ورودها على خلقه مرة واحدة، وقال لأهل الجنة: {وما هم منها بمخرجين} [الحجر: 48] أفأخرج من شيء ساقه الله إليّ؟ فأوحى الله إلى ملك الموت، خصمك عبدي إدريس، وعزتي وجلالي: إن في سابق علمي قبل أن أخلقه أنه لا موت عليه إلا الموتة التي ماتها، وأنه لا يرى جهنم إلا الورد الذي وردها، وأنه يدخل الجنة في الساعة التي دخلها، وأنه ليس بخارج منها، فدعه يا ملك الموت، فقد خصمك وإنه احتج عليك بحجة قوية. فلما قر قرار إدريس في الجنة، وألزمه الله دخولها قبل الخلائق، عجب الملائكة إلى ربهم فقالوا: ربنا خلقتنا قبل إدريس بكذا وكذا، ألف سنة، ولم نعصك طرفة عين، وإنما خلقت إدريس منذ أيام قلائل، فأدخلته الجنة قبلنا؟ فأوحى الله إليهم: يا ملائكتي، إنما خلقتكم لعبادتي وتسبيحي وذكري، وجعلت فيها لذتكم، ولم أجعل لكم لذة في مطعم ولا مشرب ولا في شيء سواها، وقوّيتكم عليها، وجعلت في الأرض الزينة والشهوات واللذات والمعاصي والمحارم، وإنه اجتنب ذلك كله من أجلي، وآثر هواي على هواه، ورضاي ومحبتي على رضاه ومحبته، فمن أراد منكم أن يدخل مدخل إدريس فليهبط إلى الأرض، فليعبدني بعبادة إدريس، ويعمل بعمل إدريس، فإن عمل مثل إدريس أدخله مدخل إدريس، وإن غير أو بدل استوجب مدخل الظالمين. فقالت الملائكة: ربنا لا نطلب ثوابًا، ولا تصيبنا بعقاب، رضينا بمكاننا منك يا رب، وفضيلتك إيانا. وانتدب ثلاثة من الملائكة: هاروت وماروت، وملك آخر رضوا به، فأوحى الله إليهم: أما إذا اجتمعتم على هذا فاحذروا إن نفعكم الحذر، فإني أنذركم، اعلموا أن أكبر الكبائر عندي أربع: فما عملتم سواها غفرته لكم، وإن عملتموها لم أغفر لكم. قالوا وما هي؟ قال: أن لا تعبدوا صنمًا ولا تسفكوا دمًا ولا تشربوا خمرًا ولا تطؤوا محرمًا. فهبطوا إلى الأرض على ذلك، فكانوا في الأرض على مثل ما كان عليه إدريس: يقيمون أربعة أيام في سياحتهم، وثلاثة أيام يعلمون الناس الخير، ويدعونهم إلى عبادة الله تعالى وطاعته. حتى ابتلاهم الله بالزهرة، وكانت من أجمل النساء. فلما نظروا إليها افتتنوا بها- أراد الله ولما سبق عليهم في علمه مع خذلان الله إياهم- فنسوا ما تقدم إليهم، فسألوها نفسها. قالت لهم: نعم. ولكن لي زوج لا أقدر على ما تريدون مني إلا أن تقتلوه، وأكون لكم. فقال بعضهم لبعض: إنا قد أمرنا أن لا نسفك دمًا، ولا نطأ محرمًا، ولكن نفعل هذا مع هذا، ثم نتوب من هذا كله. فلما أحس الثالث بالفتنة، عصمه الله من ذلك كله بالسماء فدخلها فنجا، وأقام هاروت وماروت لما كتب عليهما، فنشدا على زوجها فقتلاه. فلما أراداها، قالت: لي صنم أعبده، وأنا أكره معصيته وخلافه، فإن أردتما، فاسجدا له سجدة واحدة. فدعتهما الفتنة إلى ذلك، فقال أحدهما لصاحبه: إنا قد أمرنا أن لا نسفك دمًا ولا نطأ محرمًا، ولكنا نفعله، ثم نتوب من جميعه، فسجدوا لذلك الصنم. فلما أراداها قالت لهما: قد بقيت لي حاجة أخرى قالا: وما هي؟ قالت: لي شراب لا يطيب لي من العيش إلا به. قالا: وما هو؟ قالت: الخمر. فدعتهما الفتنة إلى ذلك، فقال أحدهما لصاحبه: إنا قد أمرنا أن لا نشرب خمرًا فقال الآخر: إنا قد أمرنا أن لا نسفك دمًا، ولا نطأ محرمًا، ولكنا نفعله، ثم نتوب من جميعه. فشربا الخمر. فلما أراداها قالت: قد بقيت لي حاجة أخرى. قالا: وما هي؟ قالت: تعلماني الذي تعرجان به إلى السماء. فعلماها إياه، فلما تكلمت به عرجت إلى السماء، فلما انتهت إلى السماء مسخت نجمًا، فلما ابتليا بما ابتليا به، عرجا إلى السماء، فغلقت أبواب السماء دونهما، وقيل لهما أن السماء لا يدخلها خطاء، فلما منعا من دخول السماء، وعلما أنهما قد افتتنا وابتليا، عجا إلى الله بالدعاء والتضرع والإبتهال، فأوحى الله إليهما: حل عليكما سخطي، ووجبت فيما تعرضتما، واستوجبتما، وقد كنتما مع ملائكتي في طاعتي وعبادتي، حتى عصيتما فصرتما بذلك إلى ما صرتما إليه من معصيتي وخلاف أمري، فاختارا إن شئتما عذاب الدنيا وإن شئتما عذاب الآخرة. فعلما أن عذاب الدنيا وإن طال فمصيره إلى زوال، وأن عذاب الآخرة ليس له زوال ولا انقطاع، فاختارا عذاب الدنيا، فهما ببابل معلقين منكوسين مقرنين إلى يوم القيامة.