فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال مقيده عفا الله عنه: ولا يتعين عندي في الآية والبيت كون البدل بدل كل من بعض، بل يجوز أن يكون بدل الشيء من الشيء، لأن الألف واللام في قوله: {فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة} [مريم: 60] للجنس، وإذا كان للجنس جاز أن يراد بها جميع الجنات، فيكون قوله: {جنات عدن} بدلًا من {الجنة} بدل الشي من الشي، لأن المراد بالأول الجمع كما تقدم كثير من أمثلة ذلك. والعظم في البيت كناية عن الشخص المذكور جميعه، أعظمه وغيرها من بدنه، وعبر هو عنه بالأعظم.
{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المؤمنين إذا أدخلهم ربهم جنات عدن التي وعدهم {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا} أي في الجنات المذكورة {لَغْوًا} أي كلامًا تافهًا ساقطًا كما يسمع في الدنيا. واللغو: هو فضول الكلام، وما لا طائل تحته. ويدخل فيه فحش الكلام وباطله، ومنه قول رؤبة وقيل العجاج:
ورب أسراب حجيج كظم ** عن اللغا ورفث التكلم

كما تقدم في سورة (المائدة).
والظاهر أن قوله: {إِلاَّ سَلاَمًا} استثناء منقطع، أي لكن يسمعون فيها سلامًا، لأنهم يسلم بعضهم على بعض، وتسلم عليهم الملائكة، كما يدل على ذلك قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} [إبراهيم: 23] الآية، وقوله: {جوَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد23-24] الآية. كما تقدم مستوفى.
وهذا المعنى الذي أشار له هنا جاء في غير هذا الموضع أيضًا كقوله في (الواقعة): {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا إِلاَّ قِيلًا سَلاَمًا سَلاَمًا} [الواقعة: 25-26]، وقد جاء هذا الاستثناء المنقطع في آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى: {ما لهم من علم إلا اتباع الظن} الآية: وقوله: {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى} [الليل: 19-20]، وقوله: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56]، وكقوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} [النساء: 29] الآية، إلى غير ذلك من الآيات. فكل الاستثناءات المذكورة في هذه الآيات منقطعة. نظير ذلك من كلام العرب في الاستثناء المنقطع قول نابغة ذبيان:
وقفت فيها أصيلالًا أسائلها ** عيت جوابًا وما بالربع من أحد

إلا الأواري لأباَ ما أبينها ** والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد

(فالأواري) التي هي مرابط الخيل ليست من جنس (الأحد). وقول الفرزدق:
وبنت كريم قد نكحنا ولم يكن ** لها خاطب إلا السنان وعامله

وقول جران العود:
وبلدة ليس بها أنيس ** إلا اليعافير وإلا العيس

(فالسنان) ليس من جمس (الخاطب) و(اليعافير والعيس) ليس واحد منهما من جنس (الأنيس). وقول ضرار بن الأزور:
أجاهد إذ كان الجهاد غنيمة ** ولله بالعبد المجاهد أعلم

عيشة لا تغني الرماح مكانها ** ولا النيل إلا الممرفي المصمم

وبهذا ذكرنا تعلم صحة وقوع الاستثناء المنقطع كما عليه جماهير الأصولين خلافًا للإمام أحمد بن حنبل وبعض الشافعية القائلين: بأن الاستثناء المنقطع لا يصح، لأن الاستثناء إخراج ما دخل في اللفظ، وغير جنس المستثنى منه لم يدخل في اللفظ أصلًا حتى يخرج بالاستثناء.
تنبيهات:
الأول- اعلم أن تحقيق الفرق بين الاستثناء المتصل والمنقطع يحصل بأمرين يتحقق بوجودهما أن الاستثناء متصل.
وإن اختل واحد منهما فهو منقطع: الأول- أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، نحو: جاء القوم إلا زيدًا. إن كان من غير جنسه فهو منقطع، نحو: جاء القوم إلا حمارًا. والثاني- أن يكون الحكم على المستثنى بنقيض الحكم على المستثنى منه. ومعلوم أن نقيض الإثبات النفي كالعكس. ومن هنا كان الاستثناء من النفي إثباتًا، ومن الإثبات نفيًا. فإن كان الحكم على المستثنى ليس نقيض الحكم على المستثنى منه فهو منقطع ولو كان المستثنى من جنس المستثنى منه. فقوله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] استثناء منقطع على التحقيق، مع أن المستثنى من جنس المستثنى منه. وكذلك قوله: {لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} [النساء: 29] وإنما كان منقطعًا في الآيتين لأنه لم يحكم على المستثنى بنقيض الحكم على المستثنى منه. فنقيض: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت}: هو يذوقون فيها الموت. وهذا النقيض الذي هو ذوق الموت في الآخرة لم يحكم به على المستثنى بل حكم بالذوق في الدنيا. ونقيض {لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} كلوها بالباطل ولم يحكم به في المستثنى.
فتحصل إن انقطاع الاستثناء قسمان: أحدهما بالحكم على غير جنس المستثنى منه. كقولك: رأيت أخويك إلا ثوبًا. الثاني: بالحكم بغير النقيض. نحوك رأيت أخويك إلا زيدًا لم يسافر.
التنبيه الثاني:
اعلم أنه يبنى على الخلاف في صحة الاستثناء المنقطع بعض الفروع الفقهية. فلو اقر رجل لآخر فقال له: علي الف دينار إلا ثوبًا. فعلى القول بعدم صحة الاستثناء المنقطع يكون قوله: (إلا ثوبًا) وتسقط قيمة الثوب من الألف. والذين قالوا تسقط قيمته اختلفوا في توجيهه على القولين: أحدهما- أنه مجاز، وإنه أطلق الثوب وأراد قيمته. والثاني: أن فيه إضمارًا. أي حذف مضاف، يعني: إلا قيمة ثوب. فمن قال بقدم المجاز على الإضمار قال (إلا ثوبًا) مجاز، أطلق الثوب وأراد القيمة. كإطلاق الدم على الدية. ومن قال يقدم الإضمار على المجاز قال (إلا ثوبًا) أي غلا قيمة ثوب. واعتمد صاحب مراقي السعود تقديم المجاز على الإضمار في قوله:
وبعد تخصيص مجاز قبلي ** الإضمار فالنقل على المعول

ومعنى البيت: أن المقدم عندهم التخصيص، ثم المجاز، ثم الإضمار، ثم النقل. مثال تقديم التخصيص على المجاز إذا احتمل اللفظ كل واحد منهما- قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] يحتمل تخصيص، لأن بعض المشركين كالذميين والمعاهدين أخرجهم دليل مخصص لعموم المشركين. ويحتمل عند القائلين بالمجاز أنه مجاز مرسل، أطلق فيه الكل أراد البعض. فيقد التخصيص لأمرين: أحدهما- أن اللفظ يبقى حقيقة فيما لم يخرجه المخصص، والحقيقة مقدمة على المجاز الثاني- أن اللفظ يبقى مستصحبًا في الأفراد الباقية بعد التخصيص من غير احتياج إلى قرينة.
ومثال تقديم المجاز على الإضمار عند احتمال اللفظ لكل واحد منهما- قول السيد لعبده الذي هو أكبر منه سنًا: أنت أبي، يحتمل أنه مجاز مرسل، من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم. أي أنت عتيق. لأن الأبوة يلزمها العتق. ويحتمل الإضمار. أي أنت مثل أبي في الشفقة والتعظيم. فعلى الأول يعتق. وعلى الثاني لا يعتق. ومن أمثلته المسألة التي نحن بصددها. ومثال تقديم الإضمار على النقل عند احتمال اللفظ لكل واحد منهما قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الربا} [البقرة: 275] يحتمل الإضمار. أي أخذ الربا وهو لزيادة في بيع درهم بدرهمين مثلًا. وعلى هذا لو حذف الدرهم الزائد لصح البيع في الدرهم بالدرهم. ويحتمل نقل الربا إلى معنى العقد. فيمتنع عقد بيع الدرهم بالدرهمين. ولو حذف الزائد فلابد من عقد جديد مطلقًا.
قال مقيده عفا الله عنه: وعلى هذين الوجهين اللذين ذكروهما في (له علي ألف دينار إلا ثوبًا) وهما الإضمار والنقل يرجع الاستثناء إلى كونه متصلًا، لأن قيمة الثوب من جنس الألف التي أقر بها. سواء قلنا إن القيمة مضمرة، أو قلنا إنها مُعبر عنها بلفظ الثوب.
التنبيه الثالث:
اعلم أن الخلاف في صحة الاستثناء المنقطع هو في الحقيقة خلاف لفظي. لأن الذين منعوه لم يمنعوه بالكلية، وإنما قالوا: إنه ليس من الاستثناء الحقيقي، لأن أداة الاستثناء فيه بمعنى لكن، فهو إلى الاستدراك أقرب منه إلى الاستثناء. وبعض القائلين بالاستثناء المنقطع يقول: إن الثوب في المثال المتقدم لغو، ويعد ندمًا من المقر بالألف. والنسبة بين الاستثناء المتصل والمنقطع عند القائلين به قيل إنها نسبة تواطؤ. وقيل: إنها من قبيل الاشتراك. وإلى مسألة الاستثناء المنقطع والفرق بينه وبين المتصل أشار في مراقي السعود بقوله:
والحكم بالنقيض للحكم حصل ** لما عليه الحكم قبل متصل

وغيره منقطع ورجحا ** جوازه وهو مجاز أوضحا

فلتنم ثوبًا بعد ألف درهم ** الحذف والمجاز أو للندم

وقيل بالحذف لدى الإقرار ** والعقد معنى الواو فيه جار

بشركة وبالتواطي قالا ** بعض وأوجب فيه الاتصالا

وما ذكرنا من أن الاستثناء في قوله تعالى: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلاَمًا} منقطع هو الظاهر. وقيل: هو من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم، كقول نابغة ذبيان:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب

وقول الآخر:
فما يك في من عيب فإني ** جبان الكلب مهزول الفصيل

وعلى هذا القول فالآية كقوله: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأعراف: 126] الآية، وقوله: {وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} [التوبة: 74] ونحو ذلك من الآيات كما تقدم مستوفى في سورة (براءة).
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} فيه سؤال معروف، وهو أن يقال: ما وجه ذكر البكرة والعشين مع أن الجة ضياء دائم ولا ليل فيها.
وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة:
الأول- أن المراد بالبكرة والعشي قدر ذلك من الزمن، كقول: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12] أي قدر شهر. وروي معنى هذا عن ابن عباس، وابن جربج وغيرهما.
الجواب الثاني- أن العرب كانت في زمنها ترى أن من وجد غداءً وعشاءً فذلك الناعم، فنزلت الآية مرغبة لهم وإن كان ما في الجنة أكثر من ذلك. ويروى هذا عن قتادة، والحسن، ويحيى بن أبي كثير.
الجواب الثالث- أن العرب تعبر عم الدوام بالبكرة والعشي، والمساء والصباح، كما يقول الرجل: أنا عند فلان صباحًا ومساءً، وبكرة وعشيًا. يريد الديمومة ولا يقصد الوقتين المعلومين.
الجواب الرابع- أن تكون البكرة هو الوقت الذي قبل اشتغالهم بلذاتهم. والعشي: هو الوقت الذي بعد فراغهم من لذاتهم، لأنه يتخللها فترات انتقال من حال إلى حال. وهذا يرجع معناه إلى الجواب الأول.
الجواب الخامس- هو ما رواه الترمذي الحكيم في (نوادر الأصول) من حديث أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا: قال رجل: يا رسول الله، هل في الجنة من ليل؟ قال: «وما يهيجك على هذا؟» قال: سمعت الله تعالى يذكر {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} فقلت: الليل بين البكرة والعشي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس هناك ليل، إنما هو ضوء ونور، يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو، تأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا، وتسلم عليهم الملائكة» انتهى بواسطة نقل صاحب الدر المنثور والقرطبي في تفسيره. وقال القرطبي بعد أن نقل هذا: وهذا في غاية البيان لمعنى الآية. وقد ذكرناه في كتاب (التذكرة) ثم قال: وقال العلماء ليس في الجنة ليل ولا نهار، وإنما هو في نور أبدًا، إنما يعرفون مقدار الليل من النهار بإرخاء الحجب، وإغلاق الأبواب. ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب، وفتح الأبواب. ذكره أبو الفرج الجوزي والمهدوي وغيرهما اه منه. وهذا الجواب الأخير الذي ذكره الحكيم الترمذي عن الحسن وأبي قلابة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم راجع إلى جواب الأول. والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)}.
فرع على الثناء عليهم اعتبارٌ وتنديد بطائفة من ذرياتهم لم يقتدوا بصالح أسلافهم وهم المعني بالخَلْف.
والخلْف بسكون اللام عقب السُوء، وبفتح اللام عقب الخير.
وتقدم عند قوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب} في سورة الأعراف (169).
وهو هنا يشمل جميع الأمم التي ضلّت لأنها راجعة في النّسب إلى إدريس جدّ نوح إذ هم من ذرية نوح ومن يرجع أيضًا إلى إبراهيم، فمنهم من يدلي إليه من نسل إسماعيل وهم العرب.
ومنهم من يدلي إليْه من نسل يعقوب وهم بنو إسرائيل.
ولفظ {من بعدهم} يشمل طبقات وقرونًا كثيرة، ليس قيدًا لأنّ الخلف لا يكون إلاّ من بعد أصله وإنّما ذُكر لاستحضار ذهاب الصالحين.
والإضاعة: مجاز في التفريط بتشبيهه بإهمال العَرْض النفيس، فرطوا في عبادة الله واتبعوا شهواتهم فلم يخالفوا ما تميل إليه أنفسهم ممّا هو فساد.
وتقدم قوله تعالى: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملًا} في سورة الكهف (30).
والصلاة: عبادة الله وحده.
وهذان وصفان جامعان لأصناف الكفر والفسوق، فالشرك إضاعة للصلاة لأنّه انصراف عن الخضوع لله تعالى، فالمشركون أضاعوا الصلاة تمامًا، قال تعالى: {قالوا لم نك من المصلّين} [المدثر: 43].
والشرك: اتباع للشّهوات، لأنّ المشركين اتّبعوا عبادة الأصنام لمجرد الشهوة من غير دليل، وهؤلاء هم المقصود هنا، وغير المشركين كاليهود والنصارى فَرطوا في صلوات واتبعوا شهوات ابتدعوها، ويشمل ذلك كله اسم الغيّ. والغيّ: الضلال، ويطلق على الشرّ، كما أطلق ضده وهو الرشَد على الخير في قوله تعالى: {أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدًا} [الجنّ: 10] وقوله: {قل إني لا أملك لكم ضرًا ولا رشدًا} [الجنّ: 21]. فيجوز أن يكون المعنى فسوف يلقون جزاء غيّهم، كقوله تعالى: {ومن يفعل ذلك يلق أثامًا} [الفرقان: 68] أي جزاء الآثام. وتقدم الغيّ في قوله تعالى: {وإخوانهم يمدونهم في الغي} وقوله: {وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلًا} كلاهما في سورة الأعراف (202و 146). وقرينة ذلك مقابلته في ضدهم بقوله: {فأُولَئِكَ يدْخُلونَ الجنّة}. وحرف (سوف) دال على أن لقاءهم الغيّ متكرر في أزمنة المستقبل مبالغة في وعيدهم وتحذيرًا لهم من الإصرار على ذلك. وقوله: {فأُولَئِكَ يدْخُلونَ الجنّة} جيء في جانبهم باسم الإشارة إشادة بهم وتنبيها لهم للترغيب في توبتهم من الكفر. وجيء بالمُضارع الدّال على الحال للإشارة إلى أنهم لا يُمْطَلُون في الجزاء. والجنّة: عَلَم لدار الثواب والنّعيم. وفيها جنّات كثيرة كما ورد في الحديث: «أَو جَنَّةٌ واحدة هي إنّها لجنان كثيرة». والظلم: هنا بمعنى النقص والإجحاف والمطل. كقوله: {كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئًا} في سورة الكهف (33). وشي: اسم بمعنى ذات أو موجود وليس المراد مصدر الظلم. وذكر شيئًا في سياق النفي يفيد نفي كل فرد من أفراد النقص والإجحاف والإبطاء، فيعلم انتفاء النقص القوي بالفحوى دفعًا لما عسى أن يخالج نفوسهم من الانكسار بعد الإيمان يظن أنّ سبق الكفر يَحط من حسن مصيرهم. و {جَنَّات} بدل من {الجنّة}. جيء بصيغة جمع جنات مع أن المبدل منه مفرد لأنه يشتمل على جنات كثيرة كما علمت، وهو بدل مطابق وليس بدل اشتمال. وعَدْن: الخلد والإقامة، أي جنات خلد ووصفها ب {التي وعد الرحمان عباده} لزيادة تشريفها وتحسينها. وفي ذلك إدماج لتبشير المؤمنين السابقين في أثناء وعد المدعوين إلى الإيمان. والغيب: مصدر غاب، فكل ما غاب عن المشاهدة فهو غيب. وتقدم في قوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب} في أول البقرة. والباء في بالغيب للظرفية، أي وعدها إياهم في الأزمنة الغائبة عنهم. أي في الأزل إذ خلقها لهم. قال تعالى: {أعدت للمتقين} [آل عمران: 133]. وفيه تنبيه على أنها وإن كانت محجوبة عنهم في الدنيا فإنها مهيئة لهم. وجملة {إنه كان وعده مأتيًا} تعليل لجملة {التي وعد الرحمن عباده بالغيب} أي يدخلون الجنة وعدًا من الله واقعًا. وهذا تحقيق للبشارة. والوعد: هنا مصدر مستعمل في معنى المفعول. وهو من باب كَسا، فالله وعد المؤمنين الصالحين جنات عدن. فالجنات لهم موعودة من ربهم. والمأتِي: الذي يأتيه غيره. وقد استعير الإتيان لحصول المطلوب المترقب، تشبيهًا لمن يحصل الشيء بعد أن سعى لتحصيله بمن مشى إلى مكان حتى أتاه. وتشبيهًا للشيء المحصل بالمكان المقصود. ففي قوله: {مأتِيّا} تمثيلية اقتصر من أجزائها على إحدى الهيئتين وهي تستلزم الهيئة الأخرى لأنّ المأتي لابد له من آت وجملة {لا يسْمعُونَ فيها لغْوًا} حال من {عبَادَه}. واللغو: فضول الكلام وما لا طائل تحته. وإنفاؤه كناية عن انتفاء أقل المكدرات في الجنة، كما قال تعالى: {لا تسمع فيها لاغية} [الغاشية: 11]، وكناية عن جعل مجازاة المؤمنين في الجنة بضد ما كانوا يلاقونه في الدنيا من أذى المشركين ولغوهم.
وقوله: {إلاَّ سلاما} استثناء منقطع وهو مجاز من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه كقول النّابغة:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب

أي لكن تسمعون سلامًا. قال تعالى: {تحيتهم فيها سلام} [إبراهيم: 23] وقال: {لا يسمعون فيها لغوًا ولا تأثيمًا إلا قيلًا سلامًا سلامًا} [الواقعة: 25، 26]. والرزق: الطعام. وجيء بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات ذلك ودوامه، فيفيد التكرر المستمر وهو أخص من التكرر المفاد بالفعل المضارع وأكثر. وتقديم الظرف للاهتمام بشأنهم، وإضافة رزق إلى ضميرهم لزيادة الاختصاص. والبُكرة: النصف الأول من النهار، والعَشي: النصف الأخير، والجمع بينهما كناية عن استغراق الزمن، أي لهم رزقهم غير محصور ولا مقدّر بل كلما شاءوا فلذلك لم يذكر اللّيل. اهـ.