فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 59-60]، وفي سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 68-70]، للسائل أن يسأل عن قوله في الأولى: {وَعَمِلَ صَالِحًا} وفي الثانية {وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا}؟ وعن قوله في الأولى في جزائهم {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} وفي الجزاء في الثانية: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)؟
والجواب: أن الآية الأولى ورد قبلها بعد ذكر المنعم عليهم ومن اهتدى بهديهم قوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]، وهذا قول موجز مجمل، فناسبه الإيجاز في قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} الآية، فتناسبا في التقابل الإيجازي كما تناسبا أيضًا في الفواصل ومقاطع الآي، وذلك قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} وقوله: {وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا}، والمسهل من القراء يقول: شيئًا فيقف الياء المشددة. وأما قوله في آية الفرقان: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] فإطناب يناسب التفصيل الواقع قبله في قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68]، ثم قال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ)، يريد ما ذكر المتصف بتقوى الله بتركه والتنزه عن مواقعة شيء منه- {يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68]، ثم فسر ما يلقاه (بقوله): (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، أي يكثر عليه ويزداد {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 69-70]، فحصل بإزاء مضاعفة العذاب لفاعل ذلك تبديل السيئات بالحسنات إلى الغفران والرحمة، فإيجاز بإيجاز وإطناب بإطناب مناسبة بين الجواب وما جووب به، وكل على ما يجب، ولا يسوغ العكس على ما تمهد، والله أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)}.
الذين حادوا عن طريقهم، وضيعَّوا حقَّ الشرع، وتخطوا واجبَ الأمر، وزاغوا عن طريق الرشد، وأخلوا بآداب الشرع، وانخرطوا في سِلْكِ متابعة الشهوات- سيلقون عن قريبٍ ما يستوجبونه، ويُعَامَلُون بما يستحقونه، ويُعَاملون بما يستحقونه.
قوله جلّ ذكره: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلاَمًا}.
فأولئك الذين تداركتهْم الرحمةُ الأزليةُ، وسيبقون في النعم السرمدية. يستنجز الحقُّ لهم عِدَاتِهِم، ويُوَصِّلُهم إلى درجاتهم، ويُحَقِّق لهم ما وعدهم.
{إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا}: لأن ما أُتِيتَه فقد أتاك أو ما أَتَاكَ فقد أتيته.
{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا}: فإِن أسماعَهم مصونةٌ عن سماعِ الأغيارِ، لا يسمعون إلا من اللَّهِ وبالله، فإن لم يكن ذلك فلا يسمعون إلا الله.
قوله جلّ ذكره: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}.
كانوا يعدون مَنْ عنده طعام البكرة والعشية مِنْ جملة المياسيرِ والأغنياءِ لكونهم فقراءَ؛ إنْ وجدوا غَداءَهم ففي الغالب يَعْدِمُونَ عشاءَهم، وإِنْ وجدوا عشاءَهم فَقَلَّما كانوا يجدون غداءَهم. ويقال في: {وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ فيها} [النحل: 57]: بمقدار الغدو والعشي من الزمان في الجنة أي كالوقت. ثم إن الأرزاق تختلف في الجنة؛ فللأشباحِ رِزْقٌ من مطعومِ ومشروب، وللأرواحِ رزقٌ من سماعٍ وشهود، ولكلٍ- على قَدْرِ استحقاقه- قِسْطٌ معلوم. اهـ.

.قال التستري:

قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب} [61] يعني معاينة الحق بمعنى القرب الذي جعله بينه وبينهم، فيرى العبد قلبه في قرب الحق مشهودًا في غيب الغيب، وغيب الغيب هو نفس الروح وفهم العقل وفطنة المراد بالقلب، فإن نفس الروح موضع العقل، وهو موضع القدس، والقدس متصل بالعرش، وهو اسم من أسماء العرش، وجعل الله تعالى للنفس جزءًا من ألف جزء من الروح، بل أقل من ذلك، فإذا صارت إرادة الروح إرادة النفس أعطيا فيما بينهما الفطنة والذهن، والفطنة إمام الذهن، والفهم إمام الذهن، والفطنة حياة، والفهم عيش، وإنما يفهم الكلام رجلان: واحد يحب أن يفهم لكي يتكلم به في موضع، فليس له حظ منه إذ ذاك، وآخر يسمعه فيشغله العمل به عن غيره، وهذا أعز من الكبريت الأحمر، وأعز من كل عزيز، وهو في المتحابين في الله.
والتفهم بكلف والفطنة لا تنال بالتكلف، وهو العمل بالإخلاص له، فإن لله تعالى عبادًا في الجنة لو حجبوا عن اللقاء طرفة عين لاستغاثوا فيها كما يستغيث أهل النار في النار، لأنهم عرفوه، أفلا ترون إلى الكليم عليه السلام حيث لم يصبر عن رؤيته لما وجد حلاوة مناجاته حتى قال: «إلهي، ما هذا الصوت العيراني الذي غلب على قلبي منك؟ قد سمعت صوت الوالدة الشفيقة، وصوت الطير في الهواء، فما سمعت صوتًا أجلب لقلبي من هذا الصوت».
وكان موسى عليه السلام بعد ذلك كلما رأى جبلًا أسرع إليه، وصعد عليه؛ شوقًا إلى كلامه جل جلاله. وقد كان رجل من بني إسرائيل لا يذهب موسى إلى مكان إلا مشى بحذائه، ولا يجلس مجلسًا إلا جلس بحذائه، حتى تأذى موسى عليه السلام منه، قيل له: إنك أذيت نبي الله. قال: إنما أريد أن أنظر إلى الفم الذي كلّم الله به. فقال: {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] فقال: يا موسى، إنه لن يراني خليقة في الأرض إلا مات. فقال: «رب أرني أنظر إليك وأموت، أحب إلي من أن لا أنظر إليك وأحيى». فمن أخلص لله قلبه له فاشتاق إليه وصل إليه.
وقد كان أبو عبيد الله الخواص يصيح ببغداد فيقول: أنا من ذكرك جائع لم أشبع، أنا من ذكرك عطشان لم أرو، واشوقاه إلى من يراني ولا أره، ثم يأتي دجلة وعليه ثياب فيرمي نفسه فيها، فيغوص في موضع ويخرج من موضع آخر وهو يقول: أنا من ذكرك جائع لم أشبع، أنا من ذكرك عطشان لم أرو، واشوقاه إلى من يراني ولا أراه، والناس على الشط يبكون.
وجاء رجل إلى سهل يومًا والناس مجتمعون عليه فقال: يا أبا محمد انظر إيش عمل بك وإيش يوقع لك، فلم يؤثر ذلك على سهل، وقال: هو المقصود هو المقصود. اهـ.

.تفسير الآيات (63- 65):

قوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما باينت بهذه الأوصاف دار الباطل، أشار إلى علو رتبتها وما هو سببها بقوله: {تلك الجنة} بأداة البعد لعلو قدرها، وعظم أمرها {التي نورث} أي نعطي عطاء الإرث الذي لا نكد فيه من حين التأهل له بالموت ولا كد ولا استرجاع {من عبادنا} الذين أخلصناهم لنا، فخلصوا عن الشرك نية وعملًا {من كان} أي جبلة وطبعًا {تقيًا} أي مبالغًا في التقوى، فهو في غاية الخوف منا لاستحضاره أنه عبد؛ قال الرازي في اللوامع: وما تقرب أحد إلى ربه بشيء أزين عليه من ملازمة العبودية وإظهار الافتقار، والعبد يكون ذليلًا بأوصافه، عزيزًا بأوصاف الحق تعالى- انتهى.
وذلك إشارة إلى سبب إيراثها التقوى.
ولما كرر سبحانه الوصف بالتقى في هذه السورة ثلاث مرات، وختمه بأنه سبب للمقصود بالذات، وهو الراحة الدائمة بالوراثة لدار الخلد على وجه الإقامة المستمرة، وصفة الملك الذي لا كدر فيه بوجه ولا تخلف عن مراد، أتبعه ما بعده إشارة إلى ما تنال به التقوى، وهو الوقوف مع الأمر مراقبة للأمر على {وبالحق أنزلناه} [الإسراء: 105] لأنه لما كان العلم واقعًا بأن جميع سورة الكهف شارحة لمسألتين من مسائل قريش، وبعض سورة سبحان شارح للثالثة، ولطول الفصل صدرت قصة ذي القرنين بقوله: {ويسألونك} إعلامًا بعطفها على مسألة الروح المصدرة بمثل ذلك، وجاءت سورة مريم كاشفة- تبكيتًا لأهل الكتاب الكاتمين للحق- عن أغرب من تلك القصص وأقدم زمانًا وأعظم شأنًا من أخبار الأنبياء المذكورين ومن أسرع التبديل بعدهم بإضاعة الصلاة واتباع الشهوات، فثبت بذلك أن هذا كله مرتب لإجابة سؤالهم وأنه كلام الله قطعًا، إذ لو كان من عند النبي- صلى الله عليه وسلم- ما وعدهم الإجابة في الغد إلا وهو قادر عليها، لما هو معلوم قطعًا من رزانة عقله، وغزارة فطنته، ومتانة رأيه، ولو قدر على ذلك ما تركهم يتكلمون في عرضه بما الموت أسهل منه، لما علم منه من الشهامة والأنفة والبعد عما يقارب الشين، وبان بذلك أن الله سبحانه وعز شأنه ما أجمل أمر الروح ولا أخر الإجابة خمس عشرة ليلة أو أقل أو أكثر من عجز ولا جهل، وثبت بذلك كله وبما بين من صنعه لأهل الكهف ولذي القرنين وفي ولادة يحيى وعيسى وإسحاق عليهم الصلاة والسلام تمام قدرته المستلزم لكمال علمه، وكان الإخبار عن ذلك مطابقًا للواقع الذي ثبت بعضه بالنقل الصحيح وبعضه بأدلة العقل القاطعة، ثبت مضمون قوله تعالى: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل} وأن هذا الكتاب قيم لا عوج فيه، فعطف عليه الجواب عن قول النبي- صلى الله عليه وسلم- لجبرئيل عليه الصلاة والسلام «لقد أبطات عليّ يا جبرئيل حتى سؤت ظنًا» ونحوه مما ذكر في أسباب النزول، فقال على لسان جبرئيل عليه الصلاة والسلام: {وما نتنزل} أي أنا ولا أحد من الملائكة بإنزال الكتاب ولا غيره {إلا بأمر ربك} المحسن إليك في جميع الأمر في التقديم والتأخير لئلا يقع في بعض الأوهام أنه حق في نفسه، ولكنه نزل بغير أمره سبحانه، ووقع الخطاب مقترنًا بالوصف المفهم لمزيد الإكرام تطييبًا لقلبه- صلى الله عليه وسلم- وإشارة إلى أنه محسن إليه، ولفظ التنزل مشير إلى الإكرام، وهو التردد مرة بعد مرة ووقتًا غب وقت، ولا يكون إلا لذلك لأن النزول للعذاب يقتضي به الأمر في مثل لمح البصر، وكان هذا عقب ذكر القيامة بذكر الجنة كما كان المعطوف عليه عقب {فإذا جاء وعد الآخرة} [الإسراء: 7] وكما كان ختام مسائلهم بذكر الآخرة في قوله: {فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء} [الكهف: 98] - إلى آخر السورة ليكون ذلك أشد تثبيتًا للبعث وأعظم تأكيدًا، وإن استطلت هذا العطف مع بعد ما بين المعطوف والمعطوف عليه واستعظمته واستنكرته لذلك واستبعدته فقل: لما كشفت هذه السورة عن هذه القصص الغريبة، وكان المتعنتون ربما قالوا: نريد أن يخبرنا هذا الذي ينزل عليك بجميع أنباء الأقدمين وأخبار الماضين، قال جوابًا عن ذلك أن قيل: ما أنزلنا عليك بأخبار هؤلاء إلا بأمر ربك، وما نتنزل فيما يأتي أيضًا إلا بأمر ربك؛ ثم علل ذلك بقوله: {له ما بين أيدينا} أي من المكان والزمان وما فيهما {وما خلفنا} من ذلك {وما بين ذلك} وهو نحن والمكان والزمان اللذان نحن بهما وما فوقه وتحته، ونحن نعلم ذلك ونعمل على حسب ما نعلم، فلا نتصرف في ملكه إلا بأمره {وما كان} على تقدير من التقادير {ربك نسيًا} أي ذا نسيان لشيء من الأشياء فيترك تفصيل أمر الروح، ويؤخر الجواب عن الوقت الذي وعدتهم فيه لخفاء شيء من ذلك عليه، ولا ينسى ما يصلحك فيحتاج إلى مذكر به، ولا ينسى أحدًا منا فينزل في وقت نسيانه له بل هو دائم الاطلاع على حركتنا وسكناتنا، فنحن له في غاية المراقبة، وهو سبحانه يصرفنا بحسب الحكمة في كل وقت تقتضيه حكمته، لا يكون شيء من ذلك إلا في الوقت الذي حده له وأراده فيه، ولا يخرج شيء من الأشياء وإن دق عن مراده.
ويجوز أن يقال في التعبير بصيغة فعيل أنه لا يتمكن العبد من الغيبة عن السيد بغير إذنه إلا أن كان بحيث يمكن أن يغفل وأن تطول غفلته وتعظم لكونه مجبولًا عليها، أو أنه لما استلبث الوحي في أمر الأسئلة التي سألوا عنها من الروح وما معها خمس عشرة ليلة أو أكثر أو أقل- على اختلاف الروايات، فكان ذلك موهمًا للأغبياء أنه نسيان، وكان مثل ذلك لا يفعله إلا كثير النسيان، نفى هذا الوهم بما اقتضاه من الصيغة ونفى قليل ذلك وكثيرة في السورة التي بعدها ضمًا لدليل العقل بقوله: {لا يضل ربي ولا ينسى} [طه: 52] لما اقتضاه السياق، فأتى في كل أسلوب بما يناسبه مع الوفاء بما يجب من حق الاعتقاد، وهذه الآية مع {وبالحق أنزلناه} و{قل لئن اجتمعت الإنس والجن} [الإسراء: 88] مثل {قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} [هود: 3] - الآيتين في سورة هود عليه السلام، على ما قدمت في بيانه غير أن ما جمع هناك فصل هنا في أول الجواب على أسئلتهم بآية {قل لئن اجتمعت} وأثنائه بآية {وبالحق أنزلناه} وآخره بهذه الآية، لتكون الآيات رابطة على هذه الأجوبة وتوابعها وضابطة لها كالشهب والحرس الشديد بالنسبة إلى السماء، فلا يبغيها متعنت من جهة من جهاتها كيدًا إلا رد خاسئًا، ولا يرميها بقادح ألا كان رميه خاطئًا.
ولما وصف سبحانه وتعالى بنفوذ الأمر واتساع العلم على وجه ثبت به ما أخبر به عن الجنة، فثبت أمر البعث، أتبع ذلك ما يقرره على وجه أصرح منه وأعم فقال مبدلًا من {ربك}: {رب السماوات والأرض} اللتين نحن من جملة ما فيهما من عباده {وما بينهما} منا ومن غيرنا من الأحياء وغيرها {فاعبده} بالمراقبة الدائمة على ما ينبغي له من مثلك {واصطبر} أي اصبر صبرًا عظيمًا بغاية جهدك على كل ما ينبغي الاصطبار عليه كذلك {لعبادته} أي لأجلها فإنها لا تكون إلا عن مجاهدة شديدة؛ ثم علل ذلك بقوله: {هل تعلم له سميًا} أي متصفًا بوصف من أوصافه اتصافًا حقيقيًا، أو مسمى باسمه، العلمَ الواقع موقع لأنه لا مماثل له حتى ولا في مجرد الاسم، وإيراده بصورة الاستفهام كالدعوى بدليلها. اهـ.