فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله: {تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا}.
وفيه أبحاث: الأول: قوله: {تِلْكَ الجنة} هذه الإشارة إنما صحت لأن الجنة غائبة.
وثانيها: ذكروا في نورث وجوهًا الأول: نورث استعارة أي نبقي عليه الجنة كما نبقي على الوارث مال المورث.
الثاني: أن المراد أنا ننقل تلك المنازل ممن لو أطاع لكانت له إلى عبادنا الذين اتقوا ربهم فجعل هذا النقل إرثًا قاله الحسن.
الثالث: أن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة وقد انقضت أعمالهم وثمراتها باقية وهي الجنة فإذا أدخلهم الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يرث الوارث المال من المتوفى.
ورابعها: معنى من كان تقيًا من تمسك باتقاء معاصيه وجعله عادته واتقى ترك الواجبات، قال القاضي: فيه دلالة على أن الجنة يختص بدخولها من كان متقيًا والفاسق المرتكب للكبائر لا يوصف بذلك.
والجواب: الآية تدل على أن المتقي يدخلها وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها وأيضًا فصاحب الكبيرة متق عن الكفر ومن صدق عليه أنه متق عن الكفر فقد صدق عليه أنه متق لأن المتقي جزء من مفهوم قولنا المتقي عن الكفر وإذا كان صاحب الكبيرة يصدق عليه أنه متق وجب أن يدخل تحته فالآية بأن تدل على أن صاحب الكبيرة يدخل الجنة أولى من أن تدل على أنه لا يدخلها.
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)}.
اعلم أن في الآية إشكالًا وهو أو قوله: {تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 63] كلام الله وقوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ} كلام غير الله فكيف جاز عطف هذا على ما قبله من غير فصل.
والجواب أنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح كما أن قوله سبحانه: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [البقرة: 117] هو كلام الله وقوله: {وَإِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ} [آل عمران: 51] كلام غير الله وأحدهما معطوف على الآخر، واعلم أن ظاهر قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ} خطاب جماعة لواحد وذلك لا يليق إلا بالملائكة الذين ينزلون على الرسول ويحتمل في سببه ما روي أن قريشًا بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم وهل يجدونه في كتابهم فسألوا النصارى فزعموا أنهم لا يعرفونه وقالت اليهود: نجده في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمن اليمامة عن خصال ثلاث فلم يعرف فاسألوه عنهن فإن أخبركم بخصلتين منهما فاتبعوه، فاسألوه عن فتية أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح قال فجاءوا فسألوه عن ذلك لم يدر كيف يجيب فوعدهم أن يجيبهم بعد ذلك، ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عنه أربعين يومًا وقيل خمسة عشر يومًا فشق عليه ذلك مشقة شديدة وقال المشركون ودعه ربه وقلاه، فنزل جبريل عليه السلام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «أبطأت عني حتى ساء ظني واشتقت إليك قال إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست» فأنزل الله تعالى هذه الآية وأنزل قوله: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذلك غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاء الله} [الكهف: 23، 24] وسورة الضحى ثم أكدوا ذلك بقولهم: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} أي هو المدبر لنا في كل الأوقات الماضي والمستقبل وما بينهما أو الدنيا والآخرة وما بينهما فإنه يعلم إصلاح التدبير مستقبلًا وماضيًا وما بينهما والغرض أن أمرنا موكول إلى الله تعالى يتصرف فينا بحسب مشيئته وإرادته وحكمته لا اعتراض لأحد عليه فيه وقال أبو مسلم قوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ} يجوز أن يكون قول أهل الجنة والمراد وما نتنزل الجنة إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا أي في الجنة مستقبلًا وما خلفنا مما كان في الدنيا وما بين ذلك أي ما بين الوقتين وما كان ربك نسيًا لشيء مما خلق فيترك إعادته لأنه عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} ابتداء كلام منه تعالى في مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم ويتصل به: {رَبّ السموات والأرض} أي بل هو {رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فاعبده} قال القاضي وهذا مخالف للظاهر من وجوه: أحدها: أن ظاهر التنزل نزول الملائكة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله بأمر ربك وظاهر الأمر بحال التكليف أليق، وثانيها: أنه خطاب من جماعة لواحد وذلك لا يليق بمخاطبة بعضهم لبعض في الجنة.
وثالثها: أن ما في سياقه من قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} لا يليق إلا بحال التكليف ولا يوصف به الرسول صلى الله عليه وسلم فكأنهم قالوا للرسول وما كان ربك يا محمد نسيًا يجوز عليه السهو حتى يضرك إبطاؤنا بالتنزل عليك إلى مثل ذلك ثم هاهنا أبحاث:
البحث الأول: قال صاحب (الكشاف) التنزل على معنيين: أحدهما: النزول على مهل.
والثاني: بمعنى النزول على الإطلاق والدليل عليه أنه مطاوع نزل ونزل يكون بمعنى أنزل وبمعنى التدريج واللائق بمثل هذا الموضع هو النزول على مهل والمراد أن نزولنا في الأحايين وقتًا بعد وقت ليس إلا بأمر الله تعالى.
البحث الثاني: ذكروا في قوله: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك} وجوهًا: أحدها: له ما قدامنا وما خلفنا من الجهات وما نحن فيه فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومن مكان إلى مكان إلا بأمره ومشيئته فليس لنا أن ننقلب من السماء إلى الأرض إلا بأمره.
وثانيها: له ما بين أيدينا ما سلف من أمر الدنيا وما خلفنا ما يستقبل من أمر الآخرة وما بين ذلك وما بين النفختين وهو أربعون سنة.
وثالثها: ما مضى من أعمارنا وما غبر من ذلك والحال التي نحن فيها.
ورابعها: ما قبل وجودنا وما بعد فنائنا.
وخامسها: الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا والسماء التي وراءنا وما بين السماء والأرض وعلى كل التقديرات فالمقصود أنه المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة فكيف نقدم على فعل إلا بأمره وحكمه.
البحث الثالث: قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} أي تاركًا لك كقوله: {مَا وَعْدَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الضحى: 3] أي ما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به ولم يكن ذلك عن ترك الله لك وتوديعه إياك، أما قوله: {رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} فالمراد أن من يكون ربًا لها أجمع لا يجوز عليه النسيان إذ لابد من أن يمسكها حالًا بعد حال وإلا بطل الأمر فيهما وفيمن يتصرف فيهما، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى، لأن فعل العبد حاصل بين السماء والأرض.
والآية دالة على أنه رب لكل شيء حصل بينهما، قال صاحب (الكشاف): رب السموات والأرض بدل من ربك ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السموات والأرض فاعبده واصطبر لعبادته فهو أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بالعبادة والمصابرة على مشاق التكاليف في الأداء والإبلاغ وفيما يخصه من العبادة فإن قيل لم لم يقل واصطبر على عبادته بل قال واصطبر لعبادته قلنا: لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن في قولك للمحارب اصطبر لقرنك أي اثبت له فيما يورد عليك من شداته.
والمعنى أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق فاثبت لها ولا تهن ولا يضق صدرك من إلقاء أهل الكتاب إليك الأغاليط عن احتباس الوحي عنك مدة وشماتة المشركين بك، أما قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} فالظاهر يدل على أنه تعالى جعل علة الأمر بالعبادة والأمر بالمصابرة عليها أنه لا سمي له، والأقرب هو كونه منعمًا بأصول النعم وفروعها وهي خلق الأجسام والحياة والعقل وغيرها فإنه لا يقدر على ذلك أحد سواه سبحانه، فإذا كان هو قد أنعم عليك بغاية الإنعام وجب أن تعظمه بغاية التعظيم وهي العبادة، ومن الناس من قال: المراد أنه سبحانه ليس له شريك في اسمه وبينوا ذلك من وجهين: الأول: أنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله على الوثن فما أطلقوا لفظ الله على شيء سواه وعن ابن عباس رضي الله عنهما لا يسمى بالرحمن غيره.
الثاني: هل تعلم من سمى باسمه على الحق دون الباطل؟ لأن التسمية على الباطل في كونها غير معتد بها كلا تسمية، والقول الأول هو الصواب، والله أعلم. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: (مَثَلًا وَشَبِيهًا) وقوله تعالى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (لَمْ تَلِدْ مِثْلَهُ الْعَوَاقِرُ).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ مِثْلًا).
وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: (لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ قَبْلَهُ بِاسْمِهِ).
وَقِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى إلَهًا غَيْرُهُ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ}.
فيه قولان:
أحدهما: أنه قول أهل الجنة: إننا لا ننزل موضعًا من الجنة إلا بأمر الله، قاله ابن بحر.
الثاني: أنه قول جبريل عليه السلام، لما ذكر أن جبريل أبطأ على النبي صلى الله عليه وسلم باثنتي عشرة ليلة، فلما جاءه قال: «غِبْتَ عَنِّي حَتَّى ظَنَّ المُشْرِكُونَ كلَّ ظَنٍ». فنزلت {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ ربِّكَ}.
ويحتمل وجهين:
أحدهما: إذا أُمِرْنَا نزلنا عليك.
الثاني: إذا أَمَرَكَ ربك نَزَّلَنا عليك الأمر على الوجه الأول متوجهًا إلى النزول، وعلى الثاني متوجهًا إلى التنزيل.
{لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} فيه قولان:
أحدهما: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} من الآخرة، {وَمَا خَلْفَنَا} من الدنيا.
{وَمَا بَيْنَ ذلِكَ} يعني ما بين النفختين، قاله قتادة.
والثاني: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} أي ما مضى أمامنا من الدنيا، {وَمَا خَلْفَنَا} ما يكون بعدنا من الدنيا والآخرة. {وَمَا بَيْن ذلِكَ} ما مضى من قبل وما يكون من بعد، قاله ابن جرير.
ويحتمل ثالثًا: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا}: السماء، {وَمَا خلْفَنَا}: الأرض. {وَمَا بَيْنَ ذلِكَ} ما بين السماء والأرض.
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} فيه وجهان:
أحدهما: أي ما نسيك ربك.
الثاني: وما كان ربك ذا نسيان.
قوله عز وجل: {هَل تعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} فيه أربعة أوجه:
أحدها: يعني مِثْلًا وشبيهًا، قاله ابن عباس، ومجاهد، مأخوذ من المساماة.
الثاني: أنه لا أحد يسَمى بالله غيره، قاله قتادة، والكلبي.
الثالث: أنه لا يستحق أحد أن يسمى إلهًا غيره.
الرابع: هل تعلم له من ولد، قاله الضحاك، قال أبو طالب:
أمّا المسمى فأنت منه مكثر ** لكنه ما للخلود سبيلُ

اهـ.

.قال ابن عطية:

{تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا}.
وقرأ الجمهور: {نوْرث} بسكون الواو، وقرالأعمش: {نورثها} وقرأ الحسن والأعرج وقتادة: {نوَرّث} بفتح الواو وشد الراء.
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ}.
قرأ الجمهور: {وما نتنزل} بالنون كأن جبريل عن نفسه والملائكة، وقرأ الأعرج وما {يتنزل} بالياء على أنه خبر من الله أن جبريل لا يتنزل، قال هذا التأويل بعض المفسرين، ويرده قوله: {ما بين أيدينا} لأنه لا يطرد معه وإنما يتجه أن يكون خبرًا من جبريل أن القرآن لا يتنزل إلا بأمر الله في الأوقات التي يقدرها. ورويت قراءة الأعرج بضم الياء، وقرأ ابن مسعود {إلا بقول ربك}، وقال ابن عباس وغيره: سبب هذه الآية، أن النبي عليه السلام أبطأ عنه جبريل مرة فلما جاءه قال «يا جبريل قد اشتقت اليك أفلا تزورنا أكثر مما تزورنا» فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد والضحاك: سببها أن جبريل تأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم عند قوله في السؤالات المتقدمة في سورة الكهف «غدًا أخبركم» حتى فرح بذلك المشركون واهتم رسول الله صلى عليه وسلم، ثم جاء جبريل ونزلت هذه في ذلك المعنى، فهي كالتي في الضحى، وهذه الواو التي في قوله: {وما نتنزل} هي عاطفة جملة كلام على أخرى وواصلة بين القولين وإن لم يكن معناهما واحدًا. وحكى النقاش عن قوم أن قوله: {وما نتنزل} متصل بقوله: {إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلامًا زكيًا} [مريم: 19]، وهذا قول ضعيف، وقوله: {ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك} لفظ يحتاج إلى ثلاث مراتب، واختلف المفسرون فيها، فقال أبو العالية (ما بين الأيدي) في الدنيا بأسرها الى النفخة الأولى، (وما خلف) الآخرة من وقت البعث {وما بين ذلك} ما بين النفختين. وقال ابن جريج (ما بين الأيدي) هو ما مر من الزمن قبل إيجاد من في الضمير، (وما خلف) هو ما بعد موتهم إلى استمرار الآخرة {وما بين ذلك} هو مدة الحياة.
قال القاضي أبو محمد: والآية إنما المقصد بها الإشعار بملك الله تعالى لملائكه وأن قليل تصرفهم وكثيره إنما هو بأمره وانتقالهم من مكان إلى مكان، إنما هو بحكمته إذ الأمكنة له وهم له، فلو ذهب بالآية إلى أن المراد ب (ما بين الأيدي وما خلف) الأمكنة التي فيها تصرفهم، والمراد ب {ما بين ذلك} هم أنفسهم ومقاماتهم لكان وجهها كأنه قال نحن مقيدون بالقدرة لا ننتقل ولا نتتزل إلا بأمر ربك. وقال ابن عباس وقتادة فيما روي وما أراه صحيحًا عنهما (ما بين الأيدي هي الآخرة وما خلف هو الدنيا) وهذا مختل المعنى إلا على التشبيه بالمكان لأن ما بين اليد إنما هو ما تقدم وجوده في الزمن بمثابة التوارة والإنجيل من القرآن وقول أبي العالية إنما يتصور في بني آدم وهذه المقالة هي للملائكة فتأمله.
وقوله: {وما كان ربك نسيًا} أي ممن يلحقه نسيان بعثنا إليكم في وقت المصلحة به فإنما ذلك عن قدر له أي فلا تطلب أنت يا محمد الزيارة أكثر مما شاء الله هذا ما تقتضيه قوة الكلام على التأويل الواحد أو فلا تهتم يا محمد بتأخيري ولا تلفت لفرح المشركين بذلك على التأويل الثاني و{نسيًا} فعيل من النسيان والذهول عن الأمور، وقالت فرقة {نسيًا} هنا معناه تاركًا، ع: وفي هذا ضعف لأنه إنما نفي النسيان مطلقًا فيتمكن ذلك في النسيان الذي هو نقص وأما الترك فلا ينتفي مطلقًا ألا ترى قوله تعالى: {وتركهم في ظلمات} [البقرة: 17] وقوله: {وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض} [الكهف: 99] فلو قال نسيك أو نحوه من التقييد لصح حمله على الترك، ولا حاجة لنا أن نقول إن التقييد في النية لأن المعنى الآخر أظهر. وقرأ ابن مسعود {وما بين ذلك وما نسيك ربك} وروى أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهي عافيته فاقبلوا. ثم تلا هذه الآية» وقوله: {رب} بدل من قوله: {وما كان ربك}، وقوله: {فاعبده واصطبر لعبادته} أمر بحمل تكاليف الشرع وإشعار ما بصعوبتها كالجهاد والحج والصدقات فهي شريعة تحتاج الى اصطبار أعاننا الله عليها بمنه. وقرأ الجمهور: {هل تعلم} بإظهار اللام، وقرأ بن نصر عن أبي عمرو بإدغام اللام في التاء وهي قراءة عيسى والأعمش والحسن وابن محيصن قال أبو علي: سيبويه يجيز إدغام اللام في الطاء والتاء والدال والثاء والضاد والزاي والسين، وقرأ أبو عمرو {وهل ثوب} بإدغامها في الثاء وإدغامها في التاء أحق لأنها أدخل معها في الفم ومن إدغامها في التاء ما روي من قول مزاحم العقيلي: الطويل:
فذر ذا ولكن هل تعين متيمًا ** على ضوء برق آخر الليل ناصب

وقوله: {سميًا}، قال قوم: وهو ظاهر اللفظ معناه موافقًا في الاسم وهذا يحسن فيه أن يريد بالاسم ما تقدم من قوله: {رب السماوات والأرض وما بينهما} أي هل تعلم من يسمى بهذا ويوصف بهذه الصفة؟ وذلك أن الأمم والفرق لا يسمون بهذا الأسم وثنًا ولا شيئًا سوى الله تعالى، وأما الألوهية والقدرة وغير ذلك فقد يوجه السمي فيها وذلك باشتراك لا بمعنى واحد. وقال ابن عباس وغيره: قوله: {سميًا} معناه مثيلًا أو شبيهًا أو نحو ذلك، وهذا قول حسن، وكأن السمي بمعنى المسامي والمضاهي فهو من السمو، وهذا القول يحسن في هذه الآية ولا يحسن فيما تقدم في ذكر يحيى عليه السلام. اهـ.