فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قلت: لعل المراد بآيات الله ما خصهم الله تعالى به من الكتب المنزلة، لأن القرآن حينئذ لم يكن منزلًا واختلفوا في السجود. فقيل: هو الخشوع والخضوع. وقيل: الصلاة. وقيل: سجدة التلاوة على حسب ما تعبدنا به. ويحتمل أنهم عند الخوف كانوا يتعبدون بالسجود. قال الزجاج: الإنسان في حال خروره لا يكون ساجدًا فالمراد خروا متهيئين للسجود. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرؤا القرآن بحزن فإنه نزل بحزن» وعن ابن عباس: إذا قرأتم سجدة (سبحان) فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه. وقالت العلماء: يدعو في سجدة التلاوة بما يليق بها فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال: اللَّهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك. وإن قرأ سجدة (سبحان) قال: اللَّهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك. وإن قرأ ما في هذه السورة قال: اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهديين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك.
ولما مدح هؤلاء الأنبياء ترغيبًا لغيرهم من سيرتهم وصف أضدادهم لتنفير الناس عن طريقتهم قائلًا {فخلف من بعدهم خلف} وهو عقب السوء كما مر في آخر (الأعراف) فإضاعة الصلاة في مقابلة الخرور سجدًا، واتباع الشهوات بإزاء البكاء. عن بان عباس: هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمر واستحلوا نكاح الأخت من الأب. وعن إبراهيم النخعي ومجاهد: أضاعوها بالتأخير. وعن علي رضي الله عنه في قوله: {واتبعوا الشهوات} من بني الشديد وركب المنظور ولبس المشهور. وعن قتادة: هو في هذه الأمة {فسوف يلقون غيًا} قال جار الله: كل شر عند العرب غي وكل خير رشاد. وقال الزجاج: هو على حذف المضاف أي جزاء غي كقوله: {ويلق أثامًا} [الفرقان: 68] أي مجازاة أثام. وقيل: غيًا من طريق الجنة. وقيل: هو وادٍ في جهنم تستعيذ منه أوديتها احتج بعضهم بقوله: {إلا من تاب وآمن} على أن تارك الصلاة كافر وإلا لم يحتج إلى تجديد الإيمان. والجواب أنه إذا كان المذكورون هم الكفرة أو اليهود- كما رويناه عن ابن عباس- سقط الاستدلال. واحتجت الأشاعرة في أن العمل ليس من الإيمان لأن العطف دليل التغاير. وأجاب الكعبي بأنه عطف الإيمان على التوبة مع أنها من الإيمان، ومنع من أن التوبة من الإيمان ولكنها شرطه لأنها العزم على الترك والإيمان إقرار باللسان، وإنما حذف الموصوف هاهنا وقال في الفرقان {وعمل عملًا صالحًا} [الفرقان: 70] لأنه أوجز في ذكر المعاصي فأوجز في التوبة وأطال هناك فأطال هناك. وهذا الاستثناء بحسب الغالب فقد يتوب عن كفره ويؤمن ولم يدخل بعد وقت الصلاة، أو كانت المرأة حائضًا ثم مات فهو من أهل النجاة مع أنه لم يعمل صالحًا.
ومعنى {لا يظلمون شيئًا} لا ينقصون شيئًا من جزاء أعمالهم بل يضاعف لهم تفضلًا تنبيها على أن تقدم الكفر لا يضرهم بعد أن يتوبوا، ويحتمل أن ينتصب {شيئًا} على المصدر أي شيئًا من الظلم. ومعنى {جنات عدن} قد مر في سورة التوبة في قوله: {ومساكن طيبة في جنات عدن} [التوبة: 72] وصفها الله تعالى بالإقامة والدوام خلاف ما عليه جنان الدنيا. ولما كانت الجنة مشتملة على جنات عدن أبدلت منها، ويحتمل انتصابها عل الاختصاص وكذا انتصاب {التي}. قال جار الله: عدن علم بمعنى العدن وهو الإقامة وهو علم لأرض الجنة لكونها مكان إقامة ولولا ذلك لما ساغ الإبدال، لأن النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة. ولما ساغ وصفها ب {التي} ومعنى {بالغيب} مع الغيبة أي وعدوها وهي غائبة عنهم غير حاضرة، أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها، أو الباء للسببية أي وعدها عباده بسبب تصديق الغيب والإيمان به خلاف حال المنافقين. وقوله: {إنه كان وعده مأتيًا} بالأول أنسب وهو مفعول بمعنى (فاعل)، أو على أصله لأن ما أتاك فقد أتيته. وجوز في الكشاف أن يكون من قولك: (أتى إليك إحسانًا) أي كان وعده مفعولًا منجزًا. قوله: {إلا سلامًا} استثناء متصل على التأويل لأن اللغو فضول الكلام وما لا طائل تحته كما تقدم في يمين اللغو في (البقرة) وفي (المائدة) أي إن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم لغوًا فلا يسمعون لغوًا إلا ذلك كقولهم (عتابك السيف). أو استثناء منقطع أي لا يسمعون فيها إلا قولًا يسلمون فيه من العيب والنقيصة، ويجوز أن يكون متصلًا بتأويل آخر وهو أن معنى السلام الدعاء بالسلامة وأهل دار السلام عن الدعاء بالسلامة أغنياء، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام. وفي الآية تنبيه ظاهر على وجوب اتقاء اللغو حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها. ثم إنه سبحانه من عادته ترغيب كل قوم بما أحبوه في الدنيا فلذلك ذكر أساور من الذهب والفضة لبس الحرير التي كانت للعجم والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرة، وكانت من عادة أشراف اليمن ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء لأنها العادة الوسطى المحمودة لمتنعمين منهم فوعدهم بذلك قائلًا: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعيشًا} هذا قول الحسن. ولا يكون ثم ليل ولا نهار ولكن على التقدير أي يأكلون على مقدار الغداة على العشي. وقيل: أراد دوام الرزق كما تقول: أنا عند فلان صباحًا ومساء تريد الدوام ولا تقصد الوقتين المعلومين.
وقوله: {تلك الجنة التي نورت} كقوله في (الأعراف) {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها} [الأعراف: 43] وهي استعارة أي تبقى عليهم الجنة كما يبقى على الوارث مال الموروث منه. قال القاضي: في الآية دلالة على أن الجنة يختص بدخولها من كان متقيًا غير مرتكب للكبائر. وأجيب بمنع الاختصاص وبأنه يصدق على صاحب الكبيرة. أنه اتقى الكفر.
سئل هاهنا أن قوله تعالى: {تلك الجنة التي نورث} كلام الله وقوله بعده: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} خطاب ليس من كلام الله فما وجه العطف بينهما: وأجيب بأنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح، فظاهر قوله: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} خطاب جماعة لواحد وإنه لا يليق إلا بالملائكة الذين ينزلون على الرسول كما روي أن قريشًا بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم وهل يجدونه في كتابهم. فسألوا النصارى فزعموا أنهم لا يعرفونه، وقالت اليهود: نجده في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمان اليمامة عن خصال ثلاث فلم يعرف فاسألوه عنهن، فإن أخبركم بخصلتين منها فاتبعوه، فاسألوه عن فئة أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فلم يدر كيف يجيب، فوعدهم الجواب ولم يقل: إن شاء الله. فاحتبس الوحي عليه أربعين يومًا- وقيل خمسة عشر يومًا- فشق عليه ذلك مشقة شديدة. وقال المشركون: ودعه ربه وقلاه. فنزل جبرائيل عليه السلام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أبطأت عني حتى ساء ظني واشتقت إليك» قال: كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذ حبست احتبست. فأنزل الله الآية وأنزل قوله: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا} [الكهف: 23] وسورة الضحى. ومعنى التنزل على ما يليق بهذا الموضع هو النزول على مهل أي نزلنا في الأحايين وقتًا غب وقت ليس إلا بأمر الله عزوجل. ثم أكد جبرائيل ما ذكره بقوله: {له ما بين أيدينا وما خلفنا} من الجهات والأماكن أو من الأزمنة الماضية والمستقبلة وما بينهما من المكان والزمان الذي نحن فيه فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة، أو من زمان إلى زمان إلا بأمر ربك ومشيئته. وقيل: له ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة {وما بين ذلك} وهو ما بين النفختين أربعون سنة. وقيل: ما مضى. من أعمارنا وما غبر منها والحال التي نحن فيها أو ما قبل وجودنا وبعد فنائنا. وقيل: الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا. والسماء التي وراءنا، وما بين السماء والأرض وعلى الأقوال فالمراد أنه الميحط بكل شيء لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة فكيف يقدم على فعل إلا بأمره!
وقال أبو مسلم: في وجه النظم إن قوله: {وما نتنزل} من قول أهل الجنة لمن بحضرتهم أي ما ننزل الجنة إلا بأمر ربك.
أما قوله: {وما كان ربك نسيًا} فعلى القول الأول معناه أنه ما كان امتناع النزول إلا لعدم الإذن ولم يكن لترك الله إياكم لقوله: {ما ودّعك ربك وما قلى} [الضحى: 3] وعلى قول غير أبي مسلم هو تأكيد لإحاطته تعالى بجميع الأشياء، وأنه لا يجوز عليه أن يسهو عن شيء ما ألبته. وعلى قول أبي مسلم المراد أنه ليس ناسيًا لأعمال العاملين فيثيب كلًا منهم بحسب عمله فيكون من تتمة حكاية قول أهل الجنة، أو ابتداء كلام من الله تعالى خطابًا لرسوله ويتصل به قوله: {رب السموات والأرض} أي بل هو ربهما {وما بينهما فاعبده} الفاء للسببية لأن كونه رب العالمين سبب موجب لأن يعبد {واصطبر لعبادته} لم يقل (على عبادته) لأنه جعل العبادة بمنزلة القرن في قولك للمحارب (اصطبر لقرنك) أي أوجد الاصطبار لأجل مقاومته. ثم أكد وجوب عبادته بقوله: {هل تعلم له سميًا} أي ليس له مثل ونظير حتى لا تخلص العبادة له، وإن عديم النظير لابد أن يصبر على مواجب إرادته وتكاليفه خصوصًا إذا كانت فائدتها راجعة إلى المكلف. وقيل: أراد أنه لا شريك له في اسمه وبيانه في وجهين: أحدهما أنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله عى الوثن إلا أنهم لم يطلقوا لفظ الله على من سواه. وعن ابن عباس: أراد لا يسمى بالرحمن غيره. قلت: وهذا صحيح ولعله هو السر في أنه لم يكرر لفظ {الرحمن} في سورة تكريره في هذه السورة. وثانيهما هل تعلم من سمي باسمه على الحق دون الباطل أن التسمية على الباطل كلا تسمية. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)}.
قفّى سبحانه قصة إبراهيم بقصة موسى لأنه تلاه في الشرف. وقدّمه على إسماعيل لئلا يفصل بينه وبين ذكر يعقوب، أي واقرأ عليهم من القرآن قصة موسى {إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا} قرأ أهل الكوفة بفتح اللام، أي جعلناه مختارًا وأخلصناه، وقرأ الباقون بكسرها، أي أخلص العبادة والتوحيد لله غير مراء للعباد {إِنَّهُ كَانَ رَسُولًا نبيًا} أي أرسله الله إلى عباده فأنبأهم عن الله بشرائعه التي شرعها لهم، فهذا وجه ذكر النبيّ بعد الرسول مع استلزام الرسالة للنبوّة، فكأنه أراد بالرسول معناه اللغوي لا الشرعي، والله أعلم.
وقال النيسابوري: الرسول الذي معه كتاب من الأنبياء، والنبيّ الذي ينبىء عن الله عزّ وجلّ وإن لم يكن معه كتاب، وكان المناسب ذكر الأعمّ قبل الأخص، إلا أن رعاية الفاصلة اقتضت عكس ذلك كقوله في طه: {رَبّ موسى وهارون} [طه: 70] انتهى.
{وناديناه مِن جَانِبِ الطور الأيمن} أي كلمناه من جانب الطور، وهو جبل بين مصر ومدين اسمه زبير، ومعنى الأيمن: أنه كان ذلك الجانب عن يمين موسى، فإن الشجرة كانت في ذلك الجانب والنداء وقع منها، وليس المراد: يمين الجبل نفسه. فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال؛ وقيل: معنى الأيمن: الميمون، ومعنى النداء: أنه تمثل له الكلام من ذلك الجانب {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} أي أدنيناه بتقريب المنزلة حتى كلمناه، والنجيّ بمعنى المناجي كالجليس والنديم، فالتقريب هنا هو تقريب التشريف والإكرام، مثلت حاله بحال من قرّبه الملك لمناجاته.
قال الزجاج: قربه منه في المنزلة حتى سمع مناجاته وقيل: إن الله سبحانه رفعه حتى سمع صريف القلم. روي هذا عن بعض السلف.
{وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا} أي من نعمتنا، وقيل: من أجل رحمتنا، و{هارون} عطف بيان، و{نَبِيًّا} حال منه، وذلك حين سأل ربه قال: {واجعل لّي وَزِيرًا مّنْ أَهْلِى هارون أَخِي} [طه: 29- 30].
ووصف الله سبحانه إسماعيل بصدق الوعد مع كونه جميع الأنبياء كذلك، لأنه كان مشهورًا بذلك مبالغًا فيه، وناهيك بأنه وعد الصبر من نفسه على الذبح فوفى بذلك، وكان ينتظر لمن وعده بوعد الأيام والليالي، حتى قيل: إنه انتظر لبعض من وعده حولًا. والمراد بإسماعيل هنا: هو إسماعيل بن إبراهيم، ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتدّ به فقال: هو إسماعيل بن حزقيل، بعثه الله إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه، فخيره الله فيما شاء من عذابهم، فاستعفاه ورضي بثوابه، وقد استدل بقوله تعالى في إسماعيل: {وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا} على أن الرسول لا يجب أن يكون صاحب شريعة فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته. وقيل: إنه وصفه بالرسالة لكون إبراهيم أرسله إلى جرهم {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكواة} قيل: المراد بأهله هنا أمته. وقيل: جرهم، وقيل: عشيرته كما في قوله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214] والمراد بالصلاة والزكاة هنا: هما العبادتان الشرعيتان ويجوز أن يراد معناهما اللغوي {وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيًّا} أي رضيًا زاكيًا صالحًا. قال الكسائي والفراء: من قال مرضيّ بنى على رضيت، قالا: وأهل الحجاز يقولون. مرضوّ.
{واذكر فِي الكتاب إِدْرِيسَ} اسم إدريس أخنوخ، قيل: هو جدّ نوح، فإن نوحًا هو ابن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ، وعلى هذا فيكون جد أبي نوح.
ذكره الثعلبي وغيره، وقد قيل: إن هذا خطأ، وامتناع إدريس للعجمة والعلمية.
وهو أوّل من خط بالقلم ونظر في النجوم والحساب، وأوّل من خاط الثياب.
قيل: وهو أوّل من أعطي النبوّة من بني آدم.
وقد اختلف في معنى قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} فقيل: إن الله رفعه إلى السماء الرابعة.
وقيل: إلى السادسة.
وقيل: إلى الثانية.
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث الإسراء وفيه: «ومنهم إدريس في الثانية»، وهو غلط من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر. والصحيح أنه في السماء الرابعة كما رواه مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن المراد برفعه مكانًا عليًا: ما أعطيه من شرف النبوّة. وقيل: إنه رفع إلى الجنة.
{أُولَئِكَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين} الإشارة إلى المذكورين من أوّل السورة إلى هنا، والموصول صفته، و{من النبيين} بيان للموصول، و{مِن ذُرّيَّةِ ءادَمَ} بدل منه بإعادة الخافض.
وقيل: إن {من} في {من ذرية} آدم للتبعيض {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} أي: من ذرية من حملنا معه وهم من عدا إدريس، فإن إبراهيم كان من ذرية سام بن نوح {وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم} وهم الباقون {وإسراءيل} أي ومن ذرية إسرائيل، ومنهم موسى وهارون ويحيى وعيسى.
وقيل: إنه أراد بقوله: {مِن ذُرّيَّةِ ءادَمَ} إدريس وحده، وأراد بقوله: {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} إبراهيم وحده، وأراد بقوله: {وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم} إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وأراد بقوله: {وَمِن ذُرّيَّةِ إسراءيل} موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا} أي: من جملة من هدينا إلى الإسلام {واجتبينا} بالإيمان {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدًا} وهذا خبر لأولئك، ويجوز أن يكون الخبر هو {الذين أنعم الله عليهم} وهذا استئناف لبيان خشوعهم لله وخشيتهم منه.
وقد تقدّم في سبحان بيان معنى خرّوا سجدًا: يقال: بكى يبكي بكاءً وبكيًا.
قال الخليل: إذا قصرت البكاء فهو مثل الحزن، أي ليس معه صوت، ومنه قول الشاعر:
بكت عيني وحقّ لها بكاها ** وما يغني البكاء ولا العويل

و{سجدا} منصوب على الحال.
قال الزجاج: قد بيّن الله أن الأنبياء كانوا إذا سمعوا آيات الله بكوا وسجدوا، وقد استدلّ بهذه الآية على مشروعية سجود التلاوة.
ولما مدح هؤلاء الأنبياء بهذه الأوصاف ترغيبًا لغيرهم في الاقتداء بهم وسلوك طريقتهم ذكر أضدادهم تنفيرًا للناس عن طريقتهم فقال: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} أي عقب سوء.
قال أهل اللغة: يقال لعقب الخير: خلف بفتح اللام، ولعقب الشر خلف بسكون اللام، وقد قدّمنا الكلام على هذا في آخر الأعراف {أضاعوا الصلاة} قال الأكثر: معنى ذلك أنهم أخروها عن وقتها وقيل: أضاعوا الوقت وقيل: كفروا بها وجحدوا وجوبها وقيل: لم يأتوا بها على الوجه المشروع.