فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قلت: وفي صحيح مسلم: «ثم يُضرَبُ الجسر على جهنم وتَحُلُّ الشفاعة فيقولون اللَّهُمَّ سَلِّم سَلِّم» قيل: يا رسول الله وما الجِسرُ؟ قال: «دَحْضٌ مَزِلّةٌ فيه خَطَاطيفُ وكَلاَليبُ وحَسَكٌ تكون بنجد فيها شُوَيْكَة يقال لها السَّعْدان فيمرُّ المؤمنون كطرْف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والرّكاب فناجٍ مُسلَّمْ ومخدوشٌ مُرْسَل ومَكْدُوس في نار جهنم» الحديث.
وبه احتج من قال: إن الجواز على الصراط هو الورود الذي تضمنته هذه الآية لا الدخول فيها.
وقالت فرقة: بل هو ورود إشراف واطلاع وقرب.
وذلك أنهم يحضرون موضع الحساب وهو بقرب جهنم، فيرونها وينظرون إليها في حالة الحساب، ثم ينجي الله الذين اتقوا مما نظروا إليه، ويصار بهم إلى الجنة.
{وَّنَذَرُ الظالمين} أي يؤمر بهم إلى النار قال الله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} أي أشرف عليه لا أنه دخله.
وقال زهير:
فَلَمَّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقًا جِمَامُهُ ** وَضَعْنَ عِصِيَّ الحاضِرِ المُتَخيِّم

وروت حفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل النار أحدٌ من أهل بدر والحديبية» قالت فقلت: يا رسول الله وأين قول الله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَمَه {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيًّا}». أخرجه مسلم من حديث أم مُبَشِّر؛ قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة. الحديث.
ورجح الزجاج هذا القول بقوله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101].
وقال مجاهد: ورود المؤمنين النار هو الحمى التي تصيب المؤمن في دار الدنيا، وهي حظ المؤمن من النار فلا يردها. روى أبو هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد مريضًا من وعك به، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: أبشر فإن الله تبارك وتعالى يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظّه من النار». أسنده أبو عمر قال: حدّثنا عبد الوارث بن سفيان قال: حدّثنا قاسم بن أصبغ قال: حدّثنا محمد بن إسماعيل الصائغ قال: حدّثنا أبو أسامة قال: حدّثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله (عن أبي صالح) الأشعري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم عاد مريضًا فذكره. وفي الحديث: «الحُمَّى حَظُّ المؤمن من النار» وقالت فرقة: الورود النظر إليها في القبر، فينجّي منها الفائز، ويصلاها من قدر عليه دخولها، ثم يخرج منها بالشفاعة أو بغيرها من رحمة الله تعالى. واحتجوا بحديث ابن عمر: «إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ» الحديث.
وروى وكيع عن شعبة عن عبد الله بن السائب عن رجل عن ابن عباس أنه قال: في قول الله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قال: هذا خطاب للكفار.
وروي عنه أنه كان يقرأ: {وإن مِنهم} ردًا على الآيات التي قبلها في الكفار: قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيًّا وَإِن مِّنكُمْ} وكذلك قرأ عكرمة وجماعة؛ وعليها فلا شغْب في هذه القراءة.
وقالت فرقة: المراد ب {منكم} الكفرة؛ والمعنى: قل لهم يا محمد.
وهذا التأويل أيضًا سهل التناول؛ والكاف في {منكم} راجعة إلى الهاء في {لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا} فلا ينكر رجوع الكاف إلى الهاء؛ فقد عرف ذلك في قوله عز وجل: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا} [الإنسان: 21] معناه كان لهم، فرجعت الكاف إلى الهاء.
وقال الأكثر: المخاطب العالم كله، ولابد من ورود الجميع، وعليه نشأ الخلاف في الورود.
وقد بينا أقوال العلماء فيه.
وظاهر الورود الدخول؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «فتمسّه النار» لأن المسيس حقيقته في اللغة المماسة، إلا أنها تكون بردًا وسلامًا على المؤمنين، وينجون منها سالمين.
قال خالد بن معدان: إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا: ألم يقل ربنا: إنا نرد النار؟ فيقال: لقد وردتموها فألفيتموها رمادًا.
قلت: وهذا القول يجمع شتات الأقوال؛ فإن من وردها ولم تؤذه بلهبها وحرها فقد أبعد عنها ونُجِّي منها.
نجانا الله تعالى منها بفضله وكرمه، وجعلنا ممن وردها فدخلها سالمًا، وخرج منها غانمًا.
فإن قيل: فهل يدخل الأنبياء النار؟ قلنا: لا نطلق هذا، ولكن نقول: إن الخلق جميعًا يردونها كما دل عليه حديث جابر أوّل الباب؛ فالعصاة يدخلونها بجرائمهم، والأولياء والسعداء لشفاعتهم فبين الدخولين بَوْنٌ.
وقال ابن الأنباري محتجًا لمصحف عثمان وقراءة العامة: جائز في اللغة أن يرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب؛ كما قال: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا} [الإنسان: 21 22] فأبدل الكاف من الهاء.
وقد تقدم هذا المعنى في (يونس).
الثالثة: الاستثناء في قوله عليه السلام: «إلا تَحِلَّة القَسَم» يحتمل أن يكون استثناء منقطعًا: لكن تحلة القسم؛ وهذا معروف في كلام العرب؛ والمعنى ألا تمسه النار أصلًا؛ وتم الكلام هنا ثم ابتدأ «إلا تحلة القسم» أي لكن تحلة القسم لابد منها في قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} وهو الجواز على الصراط أو الرؤية أو الدخول دخول سلامة، فلا يكون في ذلك شيء من مسيس؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يموت لأحدكم ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جُنَّة من النار» والجُنَّة الوقاية والستر، ومن وُقي النار وسُتر عنها فلن تمسّه أصلًا، ولو مسّته لما كان موقى.
الرابعة: هذا الحديث يفسر الأوّل لأن فيه ذكر الحِسْبة؛ ولذلك جعله مالك بأثره مفسرًا له.
ويقيد هذا الحديث الثاني أيضًا ما رواه البخاريّ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحِنْث كان له حجابًا من النار أو دخل الجنة» فقوله عليه السلام: «لم يبلغوا الحِنْث» ومعناه عند أهل العلم لم يبلغوا الحُلُم ولم يبلغوا أن يلزمهم حِنْث دليل على أن أطفال المسلمين في الجنة والله أعلم لأن الرحمة إذا نزلت بآبائهم استحال أن يُرحَموا من أجل من ليس بمرحوم.
وهذا إجماع من العلماء في أن أطفال المسلمين في الجنة، ولم يخالف في ذلك إلا فرقة شذت من الجبرية فجعلتهم في المشيئة؛ وهو قول مهجور مردود بإجماع الحجة الذين لا تجوز مخالفتهم، ولا يجوز على مثلهم الغلط، إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الآحاد الثقات العدول؛ وأن قوله عليه الصلاة والسلام: «الشقيّ من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه وأن الملك ينزل فيكتب أجله وعمله ورزقه» الحديث مخصوص، وأن من مات من أطفال المسلمين قبل الاكتساب فهو ممن سعد في بطن أمه ولم يشقَ بدليل الأحاديث والإجماع.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله تعالى عنها: «يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلًا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلًا وهم في أصلاب آبائهم» ساقط ضعيف مردود بالإجماع والآثار، وطلحة بن يحيى الذي يرويه ضعيف لا يحتج به.
وهذا الحديث مما انفرد به فلا يعرّج عليه وقد روى شعبة عن معاوية بن قرة بن إياس المزني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن رجلًا من الأنصار مات له ابن صغير فَوَجد عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما يَسرك ألا تأتي بابًا من أبواب الجنة إلا وجدتَه يَستفتح لك. فقالوا: يا رسول الله أله خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال: بل للمسلمين عامة» قال أبو عمر: هذا حديث ثابت صحيح؛ بمعنى ما ذكرناه مع إجماع الجمهور؛ وهو يعارض حديث يحيى ويدفعه.
قال أبو عمر: والوجه عندي في هذا الحديث وما أشبهه من الآثار أنها لمن حافظ على أداء فرائضه، واجتنب الكبائر، وصبر واحتسب في مصيبته؛ فإن الخطاب لم يتوجه في ذلك العصر إلا إلى قوم الأغلب من أمرهم ما وصفنا، وهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وذكر النقاش عن بعضهم أنه قال: نسخ قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قولُه: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] وهذا ضعيف، وهذا ليس موضع نسخ. وقد بينا أنه إذا لم تمسه النار فقد أبعد عنها. وفي الخبر: «تقول النار للمؤمن يوم القيامة جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي».
الخامسة: قوله تعالى: {كَانَ على رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} الحتم إيجاب القضاء؛ أي كان ذلك حتمًا. {مقضيا} أي قضاه الله تعالى عليكم. وقال ابن مسعود: أي قسمًا واجبًا.
قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا} أي نخلصهم {وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيًّا} وهذا مما يدل على أن الورود الدخول؛ لأنه لم يقل: وندخل الظالمين. وقد مضى هذا المعنى مستوفى. والمذهب أن صاحب الكبيرة وإن دخلها فإنه يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو. وقالت المرجئة: لا يدخل. وقالت الوعيدية: يخلّد. وقد مضى بيان هذا في غير موضع.
وقرأ عاصم الجحدريّ ومعاوية بن قرة {ثُمَّ نُنْجِي} مخففة من أنجى. وهي قراءة حميد ويعقوب والكسائي. وثَقَّل الباقون. وقرأ ابن أبي ليلى {ثَمَّهْ} بفتح الثاء أي هناك. و{ثَمَّ} ظرف إلا أنه مبني لأنه غير محصّل فبنى كما بنى ذا؛ والهاء يجوز أن تكون لبيان الحركة فتحذف في الوصل، ويجوز أن تكون لتأنيث البقعة فتثبت في الوصل تاء. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)}.
قيل: سبب النزول أن رجلًا من قريش قيل هو أُبَيّ بن خلف جاء بعظم رفات فنفخ فيه، وقال للرسول: أيبعث هذا؟ وكذب وسخر، وإسناد هذه المقالة للجنس بما صدر من بعضهم.
كقول الفرزدق:
فسيف بني عبس وقد ضربوا به ** نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد

أسند الضرب إلى بني عبس مع قوله نبا بيدي، ورقاء وهو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي، أو للجنس الكافر المنكر للبعث أو المعنى أُبَيّ بن خلف، أو العاصي بن وائل، أو أبو جهل، أو الوليد بن المغيرة أقوال.
وقرأ الجمهور: {أئذا} بهمزة الاستفهام. وقرأت فرقة منهم ابن ذكوان بخلاف عنه إذا بدون همزة الاستفهام. وقرأ الجمهور: {لسوف} باللام. وقرأ طلحة بن مصرف سأخرج بغير لام وسين الاستقبال عوض سوف، فعلى قراءته تكون إذًا معمولًا لقوله سأخرج لأن حرف التنفيس لا يمنع من عمل ما بعده من الفعل فيما قبله، على أن فيه خلافًا شاذًا وصاحبه محجوج بالسماع. قال الشاعر:
فلما رأته آمنًا هان وجدها ** وقالت أبونا هكذا سوف يفعل

فهكذا منصوب بفعل وهو بحرف الاستقبال.
وحكى الزمخشري أن طلحة بن مصرف قرأ لسأخرج، وأما على قراءة الجمهور وما نقله الزمخشري من قراءة طلحة فاللام لام الابتداء فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها، فيقدر العالمل محذوفًا من معنى {لسوف أخرج} تقديره إذا ما مت أبعث.
وقال الزمخشري: فإن قلت لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال، فكيف جامعت حرف الاستقبال؟ قلت: لم تجامعها إلاّ مخلصة للتوكيد كما أخلصت الهمزة في يا الله للتعويض، واضمحل عنها معنى التعريف انتهى.
وما ذكر من أن اللام تعطي معنى الحال مخالف فيه، فعلى مذهب من لا يقول ذلك يسقط السؤال، وأما قوله كما أخلصت الهمزة إلى آخره فليس ذلك إلاّ على مذهب من يزعم أن الأصل فيه إله، وأما من يزعم أن أصله لاه فلا تكون الهمزة فيه للتعويض إذ لم يحذف منه شيء، ولو قلنا إن أصله إله وحذفت فاء الكلمة لم يتعين أن الهمزة فيه في النداء للتعويض، إذ لو كانت للعوض من المحذوف لثبتت دائمًا في النداء وغيره، ولما جاز حذفها في النداء قالوا: يا الله بحذفها وقد نصوا على أن قطع همزة الوصل في النداء شاذ.
وقال ابن عطية: واللام في قوله: {لسوف} مجلوبة على الحكاية لكلام تقدم بهذا المعنى كأن قائلًا قال للكافر: إذا مت يا فلان لسوف تخرج حيًا، فقرر الكلام على الكلام على جهة الاستبعاد، وكرر اللام حكاية للقول الأول انتهى.
ولا يحتاج إلى هذا التقدير ولا أن هذا حكاية لقول تقدم، بل هذا من الكافر استفهام فيه معنى الجحد والإنكار، ومن قرأ إذا ما أن تكون حذفت الهمزة لدلالة المعنى عليه، وإما أن يكون إخبارًا على سبيل الهزء والسخرية بمن يقول ذلك إذ لم يرد به مطابقة اللفظ للمعنى.
وقرأ الجمهور: {أُخرج} مبنيًا للمفعول. وقرأ الحسن وأبو حيوة مبنيًا للفاعل.
وقال الزمخشري: وإيلاؤه أي وإيلاء الظرف حرف الإنكار من قبل أن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة، ومنه جاء إنكارهم فهو كقولك للمسيء إلى المحسن أحين تمت عليك نعمة فلأن أسأت إليه.
وقرأ أبو بحرية والحسن وشيبة وابن أبي ليلى وابن مناذر وأبو حاتم ومن السبعة عاصم وابن عامر ونافع {أو لا يذكر} خفيفًا مضارع ذكر. وقرأ باقي السبعة بفتح الذال والكاف وتشديدهما أصله يتذكر أدغم التاء في الذال. وقرأ أُبَيّ {يتذكر} على الأصل.
قال الزمخشري: الواو عاطفة لا يذكر على يقول، ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف انتهى.
وهذا رجوع منه إلى مذهب الجماعة من أن حرف العطف إذا تقدمته الهمزة فإنما عطف ما بعدها على ما قبلها، وقدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام، وكان مذهبه أن يقدر بين الهمزة والحرف ما يصلح أن يعطف عليه ما بعد الواو فيقر الهمزة على حالها، وليست مقدمة من تأخير وقد رددنا عليه هذه المقالة.
{أنّا خلقناه من قبل} أي أنشأناه واخترعناه من العدم الصرف إلى الوجود، فكيف ينكر النشأة الثانية وهذه الحجة في غاية الاختصار والإلزام للخصم، ويسمى هذا النوع الاحتجاج النظري وبعضهم يسميه المذهب الكلامي، وقد تكرر هذا الاحتجاج في القرآن: {ولم يك شيئًا} إشارة إلى العدم الصرف وانتفاء الشيئية عنه يدل على أن المعدوم لا يسمى شيئًا.
وقال أبو علي الفارسي: {ولم يك شيئًا} موجود أو هي نزعة اعتزالية والمحذوف المضاف إليه {قبل} في التقدير قدره بعضهم {من قبل} بعثه، وقدره الزمخشري {من قبل} الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه انتهى.
ولما أقام تعالى الحجة الدامغة على حقية البعث أقسم على ذلك باسمه مضافًا إلى رسوله تشريفًا له وتفخيمًا، وقد تكرر هذا القسم في القرآن تعظيمًا لحقه ورفعًا منه كما رفع من شأن السماء والأرض بقوله: {فورب السماء والأرض إنه لحق} والواو في {والشياطين} للعطف أو بمعنى مع يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم، يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة وهذا إذا كان الضمير في {لنحشرنهم} للكفرة وهو قول ابن عطية وما جاء بعد ذلك فهو من الإخبار عنهم وبدأ به الزمخشري، والظاهر أنه عام للخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم ولم يفرق بين المؤمنين والكافرين كما فرق في الجزاء، وأحضروا جميعًا وأوردوا النار ليعاين المؤمنون الأهوال التي نجوا منها فيسروا بذلك ويشمتوا بأعدائهم الكفار، وإذا كان الضمير عامًا فالمعنى يتجاثون عند موافاة شاطىء جهنم كما كانوا في الموقف متجاثين لأنه من توابع التوافق للحساب قبل الوصول إلى الثواب والعقاب.