فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فهذا صريح قول اللّه تعالى، فيما يلقى المؤمنون الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى، من كرامة، وتكريم، في هذا اليوم، إنهم مبعدون عن جهنم، لا يسمعون حسيسها.. فكيف يردونها؟ ثم كيف يدخلونها؟ إنه على أي حال دخول في محيط هذا البلاء العظيم، وإن خرجوا منه من غير أن يصيبهم من لظاها أذى! والمثل يقول: (حسبك من شرّ سماعه) فكيف بلقائه، والانغماس فيه؟
ـ أما قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا}.. فهو معطوف على قوله تعالى: {فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا}.. فهذه الآيات تصور موقف الضالين والكافرين يوم القيامة، وما يلقون من بلاء وهوان، وأنهم جميعا واردون جهنم على دفعات.. الرؤساء أولا.. ثم المرءوسون.
ثانيا.. وفى قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا} بيان لما يكون للمتقين، ولعباد اللّه المكرمين في هذا اليوم من تكريم، حيث يفوزون بالنجاة من هول هذا اليوم، ومن عذابه الأليم.. كما يقول سبحانه: {فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11]..
أما أهل الشّقوة فيتركون على ما هم فيه من بلاء وضنك، ونكال، حيث يشهدون بأعينهم هذا الركب الميمون، تزفه ملائكة الرحمن، إلى جنات النعيم، وإلى ما يرزقون فيها من كل طيب وكريم..
وتقديم الفصل هنا في أمر أصحاب النار، على الفصل في أصحاب الجنة، هو الذي تجىء عليه أحداث القيامة يومئذ، حيث يؤتى بالمجرمين أولا. ثم يقضى فيهم بدخول النار.. ثم يجاء بالمؤمنين فيقضى فيهم بدخول الجنة..
وحكمة هذا، هي أن يعجل لأهل النار بالنار، حتى تنقطع آمالهم من أول الأمر، بأن لا مكان لهم في الجنة، وأن لا مطمع لهم في أن يكونوا من الناجين، وذلك مما لا يتحقق، لو بدىء بالفصل في أصحاب الجنة، حيث يعيش المجرمون لحظات تداعبهم فيها الآمال، وتتحرك في نفوسهم الأطماع أنهم قد يكونون في هؤلاء الآخذين طريقهم إلى الجنة، وأن دورهم لم يأت بعد، كما يقول سبحانه: {وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ} (46: الأعراف).
وفى تقديم الفصل في أصحاب النار على الفصل في أصحاب الجنة، جاء قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} (69- 73: الزمر).
وجاء قوله تعالى أيضا: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (105- 108: هود).
هذا ويمكن أن تؤوّل الآية الكريمة على وجه آخر، وهو أن قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها} يراد به أهل النار جميعا، على اختلاف حظوظهم السيئة منها.. سواء في هذا من يخلدون في النار من الكافرين والمشركين والمنافقين، أو من كان من المؤمنين، أصحاب الكبائر والصغائر.. ثم يجىء قوله تعالى بعد ذلك: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} محتملا أن يراد به بعض أهل النار، وهم أولئك المؤمنون من أصحاب المنكرات.. فهؤلاء- لا شك- غير مخلدين في النار، وإنما هم فيها أشبه بالمسجونين سجنا مؤقتا، سيخرجون منه حتما بعد استيفاء المدة المحكوم على كل واحد منهم بها.. ثم بعد هذا قوله تعالى: {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا} مبينا المصير الذي يعيش فيه الظالمون من الكافرين، والمشركين، والمنافقين، بعد أن انكشف المصير الذي صار إليه من كانوا معهم في النار من عصاة المؤمنين.. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)}.
لما تضمن قوله: {فاعبده واصطبر لعبادته} [مريم: 65] إبطالَ عقيدة الإشراك به ناسب الانتقالُ إلى إبطال أثر من آثار الشرك وهو نفي المشركين وقوع البعث بعد الموت حتى يتمّ انتقاض أصلي الكفر. فالواو عاطفة قصة على قصة، والإتيان بفعل {يَقول} مضارعًا لاستحضار حالة هذا القول للتعجيب من قائله تعجيب إنكار. والمراد بالإنسان جَمع من الناس بقرينة قوله بعده {فوربك لنحشرنهم} [مريم: 68]، فيراد من كانت هاته مقالتَه وهم معظم المخاطبين بالقرآن في أوّل نزوله. ويجوز أن يكون وصفٌ حُذف، أي الإنسان الكافر، كما حذف الوصفُ في قوله تعالى: {يأخذ كل سفينة غصبًا} [الكهف: 79]، أي كلّ سفينة صالحة، فتكون كقوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه} [القيامى: 3، 4]. وكذلك إطلاق الناس على خصوص المشركين منهم في آيات كثيرة كقوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} [البقرة: 21] إلى قوله: {فأتوا بسورة من مثله} [البقرة: 23] فإن ذلك خطاب للمشركين.
وقيل تعريف {الإنسان} للعهد لإنسان معين. فقيل، قائل هذا أُبَي بن خلف، وقيل: الوليد بن المغيرة. والاستفهام في {أإذا ما متّ لسوف أخرج حيًا} إنكار لتحقيق وقوع البعث، فلذلك أتي بالجملة المسلّطِ عليها الإنكار مقترنةً بلام الابتداء الدالة على توكيد الجملة الواقعة هي فيها، أي يقول لا يكون ما حققتموه من إحيائي في المستقبل. ومتعلق {أُخرَجُ} محذوف أي أُخرج من القبر. وقد دخلت لام الابتداء في قوله: {لسَوفَ أُخرَجُ حيًّا} على المضارع المستقبل بصريح وجود حرف الاستقبال، وذلك حجّة لقول ابن مالك بأن لام الابتداء تدخل على المضارع المراد به الاستقبال ولا تخلصه للحال. ويظهر أنه مع القرينة الصريحة لا ينبغي الاختلاف في عدم تخليصها المضارع للحال، وإن صمّم الزمخشري على منعه، وتأول ما هنا بأنّ اللام مزيدة للتوكيد وليست لام الابتداء، وتأوله في قوله تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى: 5] بتقدير مبتدأ محذوف، أي ولأنت سوف يعطيك ربّك فترضى، فلا تكون اللام داخلة على المضارع، وكلّ ذلك تكلّف لا مُلجىء إليه. وجملة {أو لا يذكر الإنسان} معطوفة على جملة {يقول الإنسان}، أي يقول ذلك ومن النكير عليه أنّه لا يتذكّر أنا خلقناه من قبل وجوده. والاستفهام إنكار وتعجيب من ذهول الإنسان المنكر البعث عن خلقه الأول. وقرأ الجمهور: {أو لا يذْكُر} بسكون الذال وضمّ الكاف من الذُكر بضم الذال.
وقرأه أبو جعفر بفتح الذال وتشديد الكاف على أن أصله يتَذكر فقلبت التاء الثانية ذالًا لقرب مخرجيهما. والشيء: هو الموجود، أي إنا خلقناه ولم يك موجودًا. و(قَبْلُ) من الأسماء الملازمة للإضافة. ولما حذف المضاف إليه واعتبر مضافًا إليه مجملًا ولم يراع له لفظ مخصوص تقدّم ذكره بنيت (قبلُ) على الضمّ، كقوله تعالى: {لله الأمر من قبل ومن بعد} [الروم: 40]. والتقدير: إنا خلقناه من قبل كلّ حالة هو عليها، والتقدير في آية سورة الروم: لله الأمر من قبللِ كل حَدث ومِن بعده. والمعنى: الإنكار على الكافرين أن يقولوا ذلك ولا يتذكروا حال النشأة الأولى فإنها أعجب عند الذين يَجرون في مداركهم على أحكام العادة، فإن الإيجاد عن عدم من غير سبق مثال أعجبُ وأدعى إلى الاستبعاد من إعادة موجودات كانت لها أمثلة. ولكنها فسدت هياكلها وتغيرت تراكيبها. وهذا قياس على الشاهد وإن كان القادر سواءً عليه الأمران.
{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ}.
الفاء تفريع على جملة {أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل} [مريم: 67]، باعتبار ما تضمنته من التهديد. وواو القسم لتحقيق الوعيد، والقسم بالرب مضافًا إلى ضمير المخاطب وهو النبي صلى الله عليه وسلم إدماج لتشريف قدره. وضمير {لنحشرنهم} عائد إلى {الإنسان} [مريم: 66] المراد به الجنس المفيد للاستغراق العرفي كما تقدم، أي لنحشرن المشركين. وعطف (الشياطين) على ضمير المشركين لقصد تحقيرهم بأنهم يحشرون مع أحقر جنس وأفسده، وللإشارة إلى أن الشياطين هم سبب ضلالهم الموجب لهم هذه الحالة، فحشرهم مع الشياطين إنذار لهم بأن مصيرهم هو مصير الشياطين وهو محقق عندالناس كلهم. فلذلك عطف عليه جملة {ثم لنُحضِرنّهم حول جهنّم جثيًّا}، والضميرُ للجميع، وهذا إعداد آخر للتقريب من العذاب فهو إنذار على إنذار وتدرج في إلقاء الرّعب في قلوبهم. فحرف {ثم} للترتيب الرتبي لا للمهلة إذ ليست المهلة مقصودة وإنما المقصود أنهم ينقلون من حالة عذاب إلى أشد. و{جثيًّا} حال من ضمير {لنحضرنهم}، والجُثيّ: جمع جَاثثٍ. ووزنه فُعول مثل: قاعد وقُعود وجالس وجُلوس، وهو وزن سماعيّ في جمع فاعل. وتقدّم نظيره {خروا سجدًا وبكيًا} [مريم: 58]، فأصل جُثي جُثُور بواوَين لأن فعله واوي، يقال: جثا يَجثو إذا بَرك على ركبتيه وهي هيئة الخاضع الذليل، فلمّا اجتمع في جثووٌ واوان استثقلا بعد ضمّة الثاء فصير إلى تخفيفه بإزالة سبب الثقل السابق وهو الضمة فعوضت بكسر الثاء، فلمّا كسرت الثاء تعين قلب الواو الموالية لها ياءً للمناسبة فاجتمع الواو والياء وسبق أحدهما بالسكون فقلبت الواو الأخرى ياء وأدغمتا فصار جثي.
وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف بكسر الجيم وهو كسر إتباع لحركة الثاء، وهذا الجثو هو غير جثوّ الناس في الحشر المحكيّ بقوله تعالى: {وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها} [الجاثية: 28] فإن ذلك جثوّ خضوع لله، وهذا الجثوّ حول جهنّم جثوّ مذلّة. والقول في عطف جملة {ثمّ لننزعنّ من كلّ شيعة} كالقول في جملة {ثمّ لنحضرنهم}. وهذه حالة أخرى من الرّعب أشدّ من اللتين قبلها وهي حالة تمييزهم للإلقاء في دركات الجحيم على حسب مراتب غلوّهم في الكفر. والنزع: إخراج شيء من غيره، ومنه نزع الماء من البئر. والشيعة: الطائفة التي شاعت أحدًا، أي اتّبعته، فهي على رأي واحد. وتقدم في قوله تعالى: {ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين} في سورة الحِجر (10). والمراد هنا شيع أهل الكفر، أي من كلّ شيعة منهم. أي ممن أحضرناهم حول جهنّم. والعُتِيّ: العصيان والتجبّر، فهو مصدر بوزن فُعول مثل: خروج وجلوس، فقلبت الواو ياء.
وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف بكسر العين إتباعًا لحركة التاء كما تقدّم في {جثيًا}.
والمعنى: لنميزنّ من كلّ فرقة تجمعها محلة خاصة من دين الضلال من هو من تلك الشيعة أشدّ عصيانًا لله وتجبّرًا عليه. وهذا تهديد لعظماء المشركين مثل أبي جهل وأميّة بن خلف ونظرائهم. و أي اسم موصول بمعنى ما و من . والغالب أن يحذف صدر صلتها فتبنى على الضم. وأصل التركيب: أيّهم هو أشدّ عتيًا على الرحمان. وذكر صفة الرحمان هنا لتفظيع عتوّهم، لأنّ شديد الرّحمة بالخلق حقيق بالشكر له والإحسان لا بالكفر به والطغيان. ولمّا كان هذا النّزع والتمييز مجملًا، فقد يزعم كل فريق أن غيره أشدّ عصيانًا، أعلم الله تعالى أنّه يعلم من هو أولى منهم بمقدار صُلي النّار فإنّها دركات متفاوتة. والصُلْيُ: مصدر صَلِيَ النار كرضي، وهو مصدر سماعي بوزن فعول.
وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف بكسر الصاد اتباعًا لحركة اللاّم، كما تقدم في {جثيًّا}. وحرفا الجر يتعلقان بأفعلي التفضيل.
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}.
لمّا ذكر انتزاع الذين هم أولى بالنّار من بقية طوائف الكفر عطف عليه أنّ جميع طوائف الشرك يدخلون النار، دفعًا لتوهم أنّ انتزاع من هو أشد على الرحمان عتيًا هو قصارى ما ينال تلك الطوائف من العذاب؛ بأن يحسبوا أنّ كبراءهم يكونون فداء لهم من النّار أو نحو ذلك، أي وذلك الانتزاع لا يصرف بقية الشيع عن النّار فإن الله أوجب على جميعهم النّار. وهذه الجملة معترضة بين جملة {فوربك لنحشرنهم} [مريم: 68].. إلخ. وجملة {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا} [مريم: 73].. إلخ. فالخطاب في {وإن منكم} التفات عن الغيبة في قوله: {لنحشرنّهم ولنحضرنّهم} [مريم: 68]؛ عدل عن الغيبة إلى الخطاب ارتقاء في المواجهة بالتهديد حتى لا يبقى مجال للالتباس المراد من ضمير الغيبة فإن ضمير الخطاب أعرَف من ضمير الغيبة. ومقتضى الظاهر أن يقال: وإن منهم إلا واردها. وعن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ {وإن منهم}. وكذلك قرأ عِكرمة وجماعة.
فالمعنى: وما منكم أحد ممن نُزع من كلّ شيعة وغيرِه إلاّ واردُ جهنّم حتمًا قضاه الله فلا مبدل لكلماته، أي فلا تحسبوا أن تنفعكم شفاعتهم أو تمنعكم عزّة شِيعكم، أو تُلقون التبعة على سادتكم وعظماء أهل ضلالكم، أو يكونون فداء عنكم من النّار. وهذا نظير قوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين} [الحجر: 42، 43]، أي الغاوين وغيرهم. وحرف إنْ للنفي. والورود: حقيقته الوصول إلى الماء للاستقاء. ويطلق على الوصول مطلقًا مجازًا شائعًا، وأما إطلاق الورود على الدخول فلا يُعرف إلا أن يكون مجازًا غير مشهور فلابد له من قرينة. وجملة {ثمّ ننجي الذين اتّقوا} زيادة في الارتقاء بالوعيد بأنّهم خالدون في العذاب، فليس ورودهم النّار بموقّت بأجل. و{ثمّ} للترتيب الرتبي تنويهًا بإنجاء الذين اتّقوا وتشويهًا بحال الذين يبقون في جهنم جُثيًّا. فالمعنى: وعلاوة على ذلك ننجي الذين اتّقوا من ورود جهنم. وليس المعنى: ثمّ ينجي المتقين من بينهم بل المعنى أنهم نَجَوْا من الورود إلى النّار. وذكر إنجاء المتقين: أي المؤمنين، إدماج ببشارة المؤمنين في أثناء وعيد المشركين. وجملة {ونذر الظالمين فيها جثيًا} عطف على جملة {وإن منكم إلاّ واردها}. والظالمون: المشركون. والتعبير بالّذين ظلموا إظهار في مقام الإضمار. والأصل: ونذركم أيها الظالمون. ونذر: نترك، وهو مضارع ليس له ماض من لفظه، أمات العرب ماضي (نذر) استغناء عنه بماضي (ترك)، كما تقدّم عند قوله تعالى: {ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} في سورة الأنعام (91).
فليس الخطاب في قوله: {وإن منكم إلاّ واردها} لجميع النّاس مؤمنهم وكافِرِهم على معنى ابتداء كلام؛ بحيث يقتضي أن المؤمنين يردون النّار مع الكافرين ثم يُنْجوَن من عذابها، لأنّ هذا معنى ثقيل ينبو عنه السياق، إذ لا مناسبة بينه وبين سياق الآيات السابقة، ولأنّ فضل الله على المؤمنين بالجنّة وتشريفهم بالمنازل الرفيعة ينافي أن يسوقهم مع المشركين مَساقًا واحدًا، كيف وقد صُدّر الكلام بقوله: {فوربك لنحشرنهم والشياطين} [مريم: 68] وقال تعالى: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدًا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردًا} [مريم: 85، 86]، وهو صريح في اختلاف حشر الفريقين. فموقع هذه الآية هنا كموقع قوله تعالى: {وإن جهنم لموعدهم أجمعين} [الحجر: 43] عقب قوله: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر: 42]. فلا يتوهم أن جهنّم موعد عباد الله المخلصين مع تقدّم ذكره لأنّه ينبو عنه مقام الثناء. وهذه الآية مثار إشكال ومحطّ قيل وقال؛ واتفق جميع المفسرين على أن المتّقين لا تنالهم نار جهنّم، واختلفوا في محل الآية فمنهم من جعل ضمير {منكُم} لجميع المخاطبين بالقرآن، ورووه عن بعض السلف فصدمَهم فساد المعنى ومنافاة حكمة الله والأدلّة الدالة على سلامة المؤمنين يومئذ من لقاء أدنى عذاب، فسلكوا مسالك من التّأويل، فمنهم من تأوّل الورود بالمرور المجرد دون أن يمس المؤمنين أذى، وهذا بُعد عن الاستعمال، فإن الورود إنما يراد به حصول ما هو مودع في المَورد لأنّ أصله من وُرود الحوض.
وفي آي القرآن ما جاء إلاّ لمعنى المصير إلى النّار كقوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها} [الأنبياء: 98، 99] وقوله: {يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود} [هود: 98] وقوله: {ونسوق المجرمين إلى جهنم وِردًا} [مريم: 86]. على أن إيراد المؤمنين إلى النّار لا جدوى له فيكون عبثًا، ولا اعتداد بما ذكره له الفخر ممّا سمّاه فوائد. ومنهم من تأوّل ورود جهنّم بمرورالصراط، وهو جسر على جهنّم، فساقوا الأخبار المروية في مرور الناس على الصراط متفاوتين في سُرعة الاجتياز. وهذا أقل بُعدًا من الذي قبله.
وروى الطبري وابن كثير في هذين المحملين أحاديث لا تخرج عن مرتبة الضعف مما رواه أحمد في (مسنده) والحكيمُ التّرمذي في (نوادر الأصول).
وأصح ما في الباب ما رواه أبو عيسى الترمذي قال: «يرد النّاس النّار ثمّ يصدرون عنها بأعمالهم» الحديث في مرور الصراط. ومن النّاس من لفق تعضيدًا لذلك بالحديث الصحيح: أنه «لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النّار إلاّ تَحلة القسم» فتأول تحلة القسم بأنها ما في هذه الآية من قوله تعالى: {وإن منكم إلاَّ واردها} وهذا محمل باطل، إذ ليس في هذه الآية قسم يتحلل، وإنّما معنى الحديث: إن من استحق عذابًا من المؤمنين لأجل معاص فإذا كان قد مات له ثلاثة من الولد كانوا كفارة له فلا يلج النّار إلاّ ولوجًا قليلًا يشبه ما يفعل لأجل تحلة القسم، أي التحلل منه. وذلك أن المقسم على شيء إذا صعب عليه بر قسمه أخذ بأقل ما يتحقق فيه ما حلف عليه، فقوله «تحلة القسم» تمثيل.
ويروى عن بعض السلف روايات أنّهم تخوفوا من ظاهر هذه الآية، من ذلك ما نقل عن عبد الله بن رواحة، وعن الحسن البصري، وهو من الوقوف في موقف الخوف من شيء محتمل. وذكر فعل {نَذَرُ} هنا دون غيره للإشعار بالتحقير، أي نتركهم في النار لا نعبأ بهم، لأن في فعل الترك معنى الإهمال. والحتم: أصله مصدر حتمه إذ جعله لازمًا، وهو هنا بمعنى المفعول، أي محتومًا على الكافرين، والمقضي: المحكوم به. وجُثِيّ تقدم.
وقرأ الجمهور: {ثمّ تنَجِّي} بِفَتح النون الثانية وتشديد الجيم، وقرأه الكسائي بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم. اهـ.