فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الوجه الثاني- أن صيغة الطلب في قوله: {فليمدد} يراد بها الإخبار عن سنة الله في الضالين. وعليه فالمعنى: أن الله أجرى العادة بأنه يمهل الضال ويملي له فيستدرجه بذلك حتى يرى ما يوعده، وهو في غفلة وكفر وضلال.
وتشهد لهذا الوجه آيات كثيرة، كقوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمًَا} [آل عمران: 178] الآية، وقوله: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] الآية، كما قدمنا قريبًا بعض الآيات الدالة عليه. ومما يؤيد هذا الوجه ما أخرجه ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن حبيب بن أبي ثابت قال في حرف أبي: (قل من كان في الضلالة فإنه يزيده الله ضلالة) اهـ. قاله صاحب الدر المنثور.
ومثل هذا من جنس التفسير لا من جنس القراءة. فإن قيل على هذا الوجه. ما النكتة في إطلاق صيغة الطلب في معنى الخبر؟ فالجواب- أن الزمخشري أجاب في كشافه عن ذلك. قال في تفسير قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدًّا} أي مد له الرحمن، يعنى أمهله وأملى له في العمر. فأخرج على لفظ الأمر إيذانًا بوجوب ذلك، وأنه مفعول لا محالة، كالمأمور به الممتثل لتنقطع معاذير الضال، ويقال له يوم القيامة: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] اه محل الغرض منه. وأظهر الأقوال عندي في قوله: {حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} أنه متعلق بما قبله يليه، والمعنى: فليمدد له الرحمن مدًا حتى إذا رأى ما يوعد علم أن الأمر على خلاف ما كان يظنز وقال الزمخشري: إن {حتى} في هذه الآية التب تحكي بعدها الجمل. واستدل على ذلك بمجيء الجملة الشرطية بعدها.
وقوله: {ما يوعدون} لفظة {ما} مفعول به ل {إِذَا رَأَوْاْ}. وقوله. {إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة} بدل من المفعول به الذي هو {ما} ولفظة {من} من قوله: {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ} الآية، قال بعض العلماء: هي موصوله في محل نصب علىلمفعول به ليعلمون. وعليه فعلم هنا عرفانية تتعدى إلى مفعول واحد. وقال بعض أهل العلم: {من} استفهامية والفعل القلبي الذي هو يعلمون معلق بالاستفهام. وهذا أظهر عندي.
وقوله: {شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا} في مقابلة قولهم: {خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم: 73] لأن مقامهم هو مكانهم ومسكنهم. والندي: المجلس الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم وأنصارهم. والجند هو الأنصار والأعوان، فالمقابلة المذكورة ظاهرة. وقد دلت آية من كتاب الله على إطلاق {شَرٌّ مَّكَانًا}. والمراد اتصاف الشخص بالشر لا المكان. وهو قوله تعالى: {قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا} [يوسف: 77] فتفضيل المكان في الشر هاهنا الظاهر أن المراج به تفضيله إخوته في الشر على نفسه فيما نسبوا إليه من شر السرقة لا نفس المكان. اللهم إلا أن يراد بذلك المكان المعنوي: اي أنتم شر منزلة عند الله تعالى.
وقوله في هذه الآيات المذكورة {مقامًا}، و{ندِيًا}، و{أثاثًا}، و{مكانًا} و{جُندًا} كل واحد منها تمييز محول عن الفاعل، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
والفاعل المعنى انصبن بافعلا ** مفضلًا كأنت أعلى منزلا

قوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: {وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى} دليل على رجحان القول الثَّاني في الآية المتقدمة. وأن المعنى: أن من كان في الضلالة زاده الله ضلالة، ومن اهتدى زاده الله هدى. والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة، كقوله في الضلال {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقوله: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ} [المنافقون: 3]، وقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] الآية، كما قدمنا كثيرًا من الآيات الدالة على هذا المعنى.
وقال في الهدى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17]، وقال: {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين ليزدادوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]، وقال: {والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] الآية: وقد جمع بينهما في آيات أخر. كقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: 82] وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَاءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44] الآية، وقوله تعالى: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَانًا فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124-125] كما تقدم إيضاحه.
وقوله: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدّا} تقدم إضاحه في سورة (الكهف).
فإن قيل: ظاهر الآية أن لفظة {خير} في قوله: {ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدّا} صيغة تفضيل، والظاهر أن المفضل عليه هو جزاء الكافرين. ويدل لذلك ما قاله صاحب الدر المنثور، قال: وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا}. يعني خير جزاء من جزاء المشركين. {وخير مردًا} يعني مرجعًا من مرجعهم إلى النار. والمعروف في العربية أن صيغة التفضيل تقتضي مشاركة المفضل عليه. في أصل المصدر، مع أن المفضل يزيد فيه على المفضل عليه. والخيرية منفية بتاتًا عن جزاء المشركين وعن مردهم، فلم يشاركوا في ذلك المسلمين حتى يفضلوا عليهم.
فالجواب- أن الزمخشري في كشَّافه حاول الجواب عن هذا السؤال بما حاصله: أنه كأنه قيل ثوابهم النار، والجنة خير منها على طريقة قول بشر بن أبي حازم:
غضبت تميم أن تقتل عامر ** يوم النسار فأعتبوا بالصليم

فقوله: (أعتبوا بالصلين) يعني أرضوا بالسيف، أي لا رضى لهم عندنا إلا السيف لقتلهم به. ونظيره قول عمرو بن معدي كرب:
وخيلٍ قد دلفت لها بخيل ** تحية بينهم ضرب وجيع

أي لا تحية بينهم إلا الضرب الوجيع. وقول الآخر:
شجاء جرتها الذميل تلوكه ** أصلًا إذا راح المطي غراثا

يعني أن هذه الناقة لا جرة لها تخرجها من كرشها فتمضغها إلا السير، وعلى هذا المعنى فالمراد: لا ثواب لهم إلا النار. وباعتبار جعلها ثوابًا بهذا المعنى فضل عليها ثواب المؤمنين. هذا هو حاصل جواب الزمخشري مع أيضاحنا له.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ويظهر لي في الآية جواب آخر أقرب من هذا، وهو أنا قدمنا أن القرآن والسنة الصحيحة دلا على أن الكافر يجازي بعمله الصالح في الدنيا، فإذا بر والديه ونفس عن المكروب، وقرى الضيف، ووصل الرحم مثلًا يبتغي بذلك وجه الله فإن الله يثيبه في الدنيا، كما قدمنا دلالة الآيات عليه، وحديث أنس عند مسلم. فثوابه هذا الراجع إليه من عمله في الدنيا، هو الذي فضل الله عليه في الآية ثواب المؤمنين. وهذا واضح لا إشكال فيه. والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ}.
عطف على قوله: {ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيًا} [مريم: 66] وهذا صنف آخر من غرور المشركين بالدنيا وإناطتهم دلالة على السعادة بأحوال طيب العيش في الدنيا فكان المشركون يتشففون على المؤمنين ويرون أنفسهم أسعد منهم. والتّلاوة: القراءة. وقد تقدمت عند قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلو الشياطين على مُلك سليمان} في البقرة (102)، وقوله: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا} في أول الأنفال (2). كان النبي يقرأ على المشركين القرآن فيسمعون آيات النعي عليهم وإنذارهم بسوء المصير، وآيات البشارة للمؤمنين بحسن العاقبة، فكان المشركون يكذّبون بذلك ويقولون: لو كان للمؤمنين خير لعُجل لهم، فنحن في نعمة وأهل سيادة، وأتباع محمّد من عامة الناس، وكيف يفوقوننا بل كيف يستوون معنا، ولو كنا عند الله كما يقول محمد لمنّ على المؤمنين برفاهية العيش فإنّهم في حالة ضنك ولا يساووننا فلو أقصاهم محمد عن مجلسه لاتّبعناه، قال تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين} [الأنعام: 52، 53]، وقال تعالى: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرًا ما سبقونا إليه} [الأحقاف: 11].
فلأجل كون المشركين كانوا يقيسون هذا القياس الفاسد ويغالطون به جعل قولهم به معلّقًا بزمان تلاوة آيات القرآن عليهم. فالمراد بالآيات البيّنات: آيات القرآن، ومعنى كونها بيّنات: أنّها واضحات الحجّة عليهم ومفعمة بالأدلّة المقنعة. واللاّم في قوله: {للّذين آمنوا} يجوز كونها للتّعليل، أي قالوا لأجل الذين آمنوا، أي من أجل شأنهم، فيكون هذا قول المشركين فيما بينهم. ويجوز كونها متعلقة بفعل {قَالَ} لتعديته إلى متعلّقه، فيكون قولهم خطابًا منهم للمؤمنين. والاستفهام في قولهم {أيُّ الفريقين} تقريريّ. وقرأ من عدا ابن كثير {مَقامًا} بفتح الميم على أنه اسم مكان مِن قام، أطلق مجازًا على الحظ والرفعة، كما في قوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربّه جنتان} [الرحمن: 46]، فهو مأخوذ من القيام المستعمل مجازًا في الظهور والمقدرة. وقرأه ابن كثير بضم الميم من أقام بالمكان، وهو مستعمل في الكون في الدنيا. والمعنى: خيرٌ حياةً. وجملة {وكم أهلكنا قبلهم من قرن} خطاب من الله لرسوله. وقد أهلك الله أهل قرون كثيرة كانوا أرفه من مشركي العرب متاعًا وأجمل منهم منظرًا. فهذه الجملة معترضة بين حكاية قولهم وبين تلقين النبي صلى الله عليه وسلم ما يجيبهم به عن قولهم، وموقعها التهديد وما بعدها هو الجواب. والأثاث: متاع البيوت الذي يُتزين به، و{رئيًا} قرأه الجمهور بهمزة بعد الراء وبعد الهمزة ياء على وزن فِعْل بمعنى مفعول كذبِح، من الرؤية، أي أحسن مَرِئيًّا، أي منظرًا وهيئة.
وقرأه قالون عن نافع وابن ذكوان عن ابن عامر {رِيًّا} بتشديد الياء بلا همزة إما على أنّه من قلب الهمزة ياء وإدغامها في الياء الأخرى، وإما على أنّه من الرِيّ الذي هو النعمة والترفه، من قولهم: ريّان من النّعيم. وأصله من الريّ ضد العطش، لأنّ الريّ يستعار للتنعم كما يستعار التلهّف للتألّم.
{قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا}.
هذا جواب قولهم {أي الفريقين خير مقامًا وأحسن نَدِيًّا} [مريم: 73].
لقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم كشف مغالطتهم أو شبهتهم؛ فأعلمهم بأن ما هم فيه من نعمة الدنيا إنما هو إمهال من الله إيّاهم، لأنّ ملاذ الكافر استدراج. فمعيار التفرقة بين النّعمة الناشئة عن رضى الله تعالى على عبده وبين النعمة التي هي استدراج لمن كفر به هو النظر إلى حال من هو في نعمة بين حال هدى وحال ضلال.
قال تعالى في شأن الأولين: {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]. وقال في شأن الآخرين {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} [المؤمنون: 55، 56].
والمعنى: أن من كان منغمسًا في الضلالة اغترّ بإمهال الله له فركبه الغرور كما ركبهم إذ قالوا {أي الفريقين خير مقامًا وأحسن نديًا}. واللاّم في قوله: {فليمدد له الرحمان مدًا} لام الأمر أو الدعاء، استعملت مجازًا في لازم معنى الأمر، أي التحقيق، أي فسيمد له الرحمان مدًا، أي إن ذلك واقع لا محالة على سنّة الله في إمهال الضُّلال، إعذارًا لهم، كما قال تعالى: {أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} [فاطر: 37]، وتنبيها للمسلمين أن لا يغتروا بإنعام الله على الضُّلال حتى أنّ المؤمنين يَدْعُون الله به لعدم اكتراثهم بطول مدة نعيم الكفّار.
فإن كان المقصود من {قُل} أن يقول النبي ذلك للكفّار فلام الأمر مجرد مجاز في التحقيق، وإن كان المقصود أن يبلّغ النبيءُ ذلك عَن الله أنه قال ذلك فلامُ الأمر مجاز أيضًا وتجريد بحيث إنّ الله تعالى يأمر نفسه بأن يمد لهم. والمدّ: حقيقته إرخاء الحبل وإطالته، ويستعمل مجازًا في الإمهال كما هنا، وفي الإطالة كما في قولهم: مدّ الله في عمرك. و{مَدًّا} مفعول مطلق مؤكد لعامله، أي فليمدد له المدّ الشديد، فيسينتهي ذلك. و{حتى} لغاية المد، وهي ابتدائية، أي يمدّ له الرحمان إني أن يَروا ما يوعدون، أي لا محيص لهم عن رؤية ما أوعدوا من العذاب ولا يدفعه عنه طول مدّتهم في النّعمة. فتكون الغاية مضمون الجملة التي بعدها {حتى} لا لفظًا مفردًا. والتقدير: يمدّ لهم الرحمان حتى يروا العذاب فيعلموا من هو أسعد ومن هو أشقى. وحرف الاستقبال لتوكيد حصول العلم لهم حينئذ وليس للدّلالة على الاستقبال لأنّ الاستقبال استفيد من الغاية. و{إمّا} حرف تفصيل ل {ما يوعدون}، أي ما أوعدوا من العذاب إما عذاب الدنيا وإما عذاب الآخرة، فإن كلّ واحد منهم لا يعدو أن يرى أحد العذابين أو كليهما. وانتصب لفظ {العذاب} على المفعولية ل {يَروْا}. وحرف {إما} غير عاطف، وهو معترض بين العامل ومعموله، كما في قول تأبّط شرًا:
هما خطتّا إمّا إسارٍ ومِنّةٍ ** وإما دممٍ والموت بالحر أجدر

بجرّ (إسار، ومنّة، ودم).
وقوله: {شرّ مكانًا وأضعف جندًا} مقابل قولهم {خيرٌ مقامًا وأحسن نديًّا} [مريم: 73] فالمكان يرادف المقام، والجند الأعوان، لأنّ الندي أريد به أهله كما تقدم، فقوبل {خيرٌ نديًّا} ب {أضعفُ جندًا}. وجملة {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} معطوفة على جملة {من كان في الضلالة فليمدد له الرحمان مدًّا} لما تضمنه ذلك من الإمهال المفضي إلى الاستمرار في الضلال، والاستمرار: الزيادة. فالمعنى على الاحتباك، أي فليمدد له الرحمان مدًا فيزدَدْ ضلالًا، ويمدّ للذين اهتدوا فيزدادوا هدىً. وجملة {والباقيات الصالحات خير} عطف على جملة {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى}. وهو ارتقاء من بشارتهم بالنجاة إلى بشارتهم برفع الدرجات، أي الباقيات الصالحات خير من السلامة من العذاب التي اقتضاها قوله تعالى: {فسيعلمون من هو شرّ مكانًا وأضعفُ جندًا}، أي فسيظهر أن ما كان فيه الكفرة من النعمة والعزّة هو أقلّ مما كان عليه المسلمون من الشظف والضعف باعتبار المآلين، إذ كان مآل الكفرة العذاب ومَآل المؤمنين السلامة من العذاب وبعدُ فللمؤمنين الثواب. والباقيات الصالحات: صفتان لمحذوف معلوم من المقام، أي الأعمال الباقي نعيمها وخيرها، والصالحات لأصحابها هي خير عند الله من نعمة النجاة من العذاب. وقد تقدّم وجه تقديم الباقيات على الصالحات عند الكلام على نظيره في أثناء سورة الكهف. والمردّ، المرجع. والمراد به عاقبة الأمر. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ}.
هذا حوار دار بين المؤمنين والكافرين، المؤمنين وكانوا عادةً هم الضعفاء الذين لا يقدرون حتى على حماية أنفسهم، وليس لهم جاه ولا سيادة يحافظون عليها، وجاء منهج الله في صالحهم يُسوِّي بين الناس جميعًا: السادة والعبيد، والقوي والضعيف. فطبيعي أنْ يُقابلَ هذا الدين بالتكذيب من كفار مكة، أهل الجاه والسيادة، وأهل القوة الذين يأخذون خَيْر الناس من حولهم، أما الضعفاء فقد آمنُوا بدين الله في وقت لم يكن لديهم القوة الكافية لحماية أنفسهم، فعندما نزل قَوْل الحق تبارك وتعالى: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45]. قال عمر رضي الله عنه وما أدراك مَنْ هو عمر؟ قال: أيّ جمع هذا؟ وأيُّ هزيمة، ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا؟ وفي هذه الآونة، يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين المستضعفين بالهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة. فلما جاء نصر الله للمؤمنين، وتأييده لهم في بدر. قال عمر: صدق الله: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45]. وفي هذا الحوار يُعيِّر الكفار المؤمنين بالله: ماذا أفادكم الإيمان بالله وها أنتم على حال من الضعف والهوان والذِّلَّة وضيق العيش؟ أيرضي رَبٌّ أن يكون المؤمنون به على هذه الحال، وأعداؤه والكافرون به هم أهل الجاه والسيادة وسَعة الرزق؟ وهكذا فتَن الله بعضهم ببعض، كما قال سبحانه: {وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53]. فالمؤمن والكافر، والغني والفقير، والصحيح والمريض، كُلٌّ منهم فتنة للآخر لِيُمحِّص الله الإيمان، ويختبر اليقين في قلوب المؤمنين؛ لأن الله تعالى يعدهم لحمل رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا كلها في جميع أزمنتها وأماكنها، فلابد أن يختار لهذه المهمة أقوياء الإيمان الذين يدخلون في الإسلام، ليس لمغنم دنيوي، بل لحمل رسالته والقيام بأعبائه، فهذا هو المؤمن المؤتمن على حَمْل منهج الله.