فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لذلك يقول الحق تبارك وتعالى عن هؤلاء: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5].
إذن: ما ظنَّه الكفار عِزًّا ومَنَعة صار عليهم ضِدًّا وعداوة، كالفتاة التي قالتْ لأبيها: يا أبتِ ما حملك على أنْ تقبلني مخطوبة لابن فلان؟ أي: ماذا أعجبك فيه؟ قال: يا بُنيّتي إنهم أهل عِزٍّ وأهل جاهٍ وشرف وأهل قوة ومنعة، فقالت: يا أبتِ لقد قدَّرْتَ أن يكون بيني وبين ابنهم وُدٌّ، ولم تٌقدِّر أن يكون بيني وبينه كراهية، فإن حدثتْ الكراهية سيكون ما قلته ضدك، وستشْقى أنت بهذا العزّ وبهذا الجاه.
ومن الناس من اتخذ من المال إلهًا، على حَدِّ قَوْل الشاعر:
وَللمالِ قَوْمٌ إنْ بَدا المالُ قَائِلًا ** أنَا المالُ قالَ القومُ إيَّاكَ نعبُدُ

وهؤلاء الذين يعبدون المال، ويروْن فيه القوة، ويعتزُّون به لا يدرون أنه سيكون وَبَالًا ونَكالًا عليهم يوم القيامة: {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35].
وهكذا، كلما زاد حرصه على المال زاد كَيُّه. وتلحظ في الآية الترتيب الطبيعي لموقف السؤال حين يقف السائلُ الفقير أمام الغني اللئيم، فأوَّل ما يطالع السائل يتغيّر وجهه، ثم يُشيح عنه بوجهه، فيعطيه جَنْبه، ثم يُدير له ظهره مُعْرِضًا عنه، وبنفسِ هذا الترتيب يكون العذاب ويكون الكيُّ والعياذ بالله. وينقلب المال الذي ظَنّ العزة فيه إلى نكَالٍ ووبَالٍ.
يقول تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 6].
حتى الجوارح التي تمتعتْ بمعصيتك في الدنيا ستشهد عليك: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النور: 24].
ذلك لأنك غفلتَ عمَّنْ كان يجب ألاَّ تغفل عنه، وذكرت مَنْ كان يجب ألاَّ تذكره، فالإله الحق الذي غفلْتَ عنه يطلبك الآن ويحاسبك، والإله الباطل الذي اتخذته يتخلى عنك ويُسلمِك للهلاك.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا}.
الأزُّ: هو الهزُّ الشديد بعنف أي: تُزعجهم وتُهيجهم، ومثْلُه النزغ في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله} [الأعراف: 200].
والأَزّ أو النَّزْغ يكون بالوسوسة والتسويل ليهيجه على المعصية والشر، كما يأتي هذا المعنى أيضًا بلفظ الطائف، كما في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
وهذه الآية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين} [مريم: 83] تثير سؤالًا: إذا كان الحق تبارك وتعالى يكره ما تفعله الشياطين بالإنسان المؤمن أو الكافر، فلماذا أرسلهم الله عليه؟
أرسل الله الشياطين على الإنسان لمهمة يؤدونها، هذه المهمة هي الابتلاء والاختبار، كما قال تعالى: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2].
إذن: فهم يُؤدُّون مهمتهم التي خُلِقوا من أجلها، فيقفوا للمؤمن ليصرفوه عن الإيمان فيُمحص الله المؤمنين بذلك، ويُظهر صلابة مَنْ يثبت أمام كيد الشيطان.
وقلنا: إن للشيطان تاريخًا مع الإنسان، بداية من آدم عليه السلام حين أَبَى أن يطيع أمر الله له بالسجود لآدم، فطرده الله تعالى وأبعده من رحمته، فأراد الشيطان أنْ ينتقمَ من ذرية آدم بسبب ما ناله من آدم، فقال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82].
وقال: {قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16].
وهكذا أعلن عن منهجه وطريقته، فهو يتربص لأصحاب الاستقامة، أما أصحاب الطريق الأعوج فليسوا في حاجة إلى إضلاله وغوايته.
لذلك نراه يتهدد المؤمنين: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} [الأعراف: 17].
ومعلوم أن الجهات ست، يأتي منها الشيطان إلا فوق وتحت؛ لأنهما مرتبطتان بعزِّ الألوهية من أعلى، وذُلّ العبودية من أسفل، حين يرفع العبد يديه لله ضارعًا وحين يخِرُّ لله ساجدًا؛ لذلك أُغلِقَتْ دونه هاتان الجهتان؛ لأنهما جهتا طاعة وعبادة وهو لا يعمل إلا في الغفلة ينتهزها من الإنسان.
والمتأمل في مسألة الشيطان يجد أن هذه المعركة وهذا الصراع ليس بين الشيطان وربه تبارك وتعالى، بل بين الشيطان والإنسان؛ لأنه حين قال لربه تعالى: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] التزم الأدب مع الله.
فالغواية ليست مهارة مني، ولكن إغويهم بعزتك عن خَلْقك، وترْكِكَ لهم الخيارَ ليؤمن مَنْ يؤمن، ويكفر مَنْ يكفر، هذه هي النافذة التي أنفذ منها إليهم، بدليل أنه لا سلطانَ لي على أهلك وأوليائك الذين تستخلصهم وتصطفيهم: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 83].
وهنا أيضًا يثار سؤال: إذا كان الشيطان لا يقعد إلا على الصراط المستقيم لِيُضلَّ أهله، فلماذا يتعرَّض للكافر؟
نقول: لأن الكافر بطبعه وفطرته يميل إلى الإيمان وإلى الصراط المستقيم، وها هو الكون يآياته أمامه يتأمله، فربما قاده التأمل في كَوْن الله إلى الإيمان بالله؛ لذلك يقعد له الشيطان على هذا المسلْك مسلْك الفكر والتأمل لِيحُول بينه وبين الإيمان بالخالق عز وجل.
فالشيطان ينزغك، إما ليحرك فيك شهوة، أو ليُنسِيك طاعة، كما قال تعالى: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان} [الكهف: 63].
وقال: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين} [الأنعام: 68].
وكثير من الإخوان يسألون: لماذا في الصلاة بالذات تُلِحُّ علينا مشاكل الحياة ومشاغل الدنيا؟
نقول: هذه ظاهرة صحية في الإيمان، لأن الشيطان لولا علمه بأهمية الصلاة، وأنها ستُقبل منك ويُغفر لك بها الذنوب ما أفسدها عليك، لكن مشكلتنا الحقيقية أننا إذا أعطانا الشيطان طرفَ الخيط نتبعه ونغفل عن قَوْل ربنا تبارك وتعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله} [فصلت: 36].
فما عليك ساعةَ أنْ تشعر أنك ستخرج عن خطِّ العبادة والإقامة بين يدي الله إلاَّ أنْ تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حتى وإنْ كنت تقرأ القرآن، لك أنْ تقطعَ القراءة وتستعيذ بالله منه، وساعةَ أن يعلم منك الانتباه لكيده وألاعيبه مرة بعد أخرى سينصرف عنك وييأس من الإيقاع بك.
وسبق أن ضربنا لذلك مثلًا باللص؛ لأنه لا يحوم حول البيت الخرب، إنما يحوم حول البيت العامر، فإذا ما اقترب منه تنبّه صاحب البيت وزجره، فإذا به يلوذ بالفرار، وربما قال اللص في نفسه: لعل صاحب البيت صاح مصادفة فيعاود مرة أخرى، لكن صاحب الدار يقظٌ منتبه، وعندها يفرُّ ولا يعود مرة أخرى.
ويجب أن نعلم أن من حيل الشيطان ومكائده أنه إذا عَزَّ عليه إغواؤك في باب، أتاك من باب آخر؛ لأنه يعلم جيدًا أن للناس مفاتيح، ولكل منا نقطة ضعف يُؤتَى من ناحيتها، فمن الناس مَنْ لا تستميله بقناطير الذهب، إنما تستميله بكلمة مدح وثناء. وهذا اللعين لديه (طفاشات) مختلفة باختلاف الشخصيات.
لذلك من السهل عليك أنْ تُميِّز بين المعصية إنْ كانت من النفس أم من الشيطان: النفس تقف بك أمام شهوة واحدة تريدها بعينها ولا تقبل سواها، فإنْ حاولتَ زحزحتها إلى شهوة أخرى أبتْ إلا ما تريد، أما الشيطان فإنْ عزَّتْ عليك معصية دعاك إلى غيرها، المهم أن يُوقِع بك.
فالحق تبارك وتعالى يُحذرنا الشيطان؛ لأنه يحارب في الإنسان فطرته الإيمانية التي تُلح عليه بأن للكون خالقًا قادرًا، والدليل على الوجود الإلهي دليل فطري لا يحتاج إلى فلسفة، كما قال العربي قديمًا: البعرة تدل على البعير، والقدم تدل على المسير.. سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟!
وكذلك، فكل صاحب صنعة عالم بصنعته وخبير بدقائقها ومواطن العطب فيها، فما بالك بالخالق سبحانه: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 14].
إذن: فالأدلة الإيمانية أدلة فطرية يشترك فيها الفيلسوف وراعي الشاة، بل ربما جاءت الفلسفة فعقَّدتْ الأدلة.
ولنا وقفة مع قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين} [مريم: 83] ومعلوم أن عمل الشيطان عمل مستتر، كما قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27].
فكيف يخاطب الحق تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة بقوله: {أَلَمْ تَرَ} [مريم: 83] وهي مسألة لا يراها الإنسان؟
نقول: {أَلَمْ تَرَ} [مريم: 83] بمعنى ألم تعلم؟ فعدَل عن العلم إلى الرؤيا، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1] والنبي صلى الله عليه وسلم لم يَرَ هذه الحادثة، فكيف يخاطبه ربه عنها بقوله: {أَلَمْ تَرَ} [الفيل: 1]؟
ذلك، ليدلك على أن إخبار الله لك أصحُّ من إخبار عينك لك؛ لأن رؤية العين بما تخدعك، أمّا إعلام الله فهو صادق لا يخدعك أبدًا. فعلمك من إخبار الله لك أَوْلَى وأوثق من علمك بحواسِّك.
والشياطين: جمعه شيطان، وهو العاصي من الجنّ، والجن خَلْق مقابل للإنسان قال الله عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَدًا} [الجن: 11] فَمنْ هم دون الصالحين، هم الشياطين.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ}.
تمنّى النبي صلى الله عليه وسلم لو أن الله أراحه من رؤوس الكفر وأعداء الدعوة، فقال تعالى: {فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 84] فالله يريد أنْ تطول أعمارهم، وتسوء فعالهم، وتكثر ذنوبهم، فالكتبة يعدُّون عليهم ويُحْصُون ذنوبهم.
ومعنى: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 84] أنها مسألة ستنتهي؛ لأن كل ما يُعَدّ ينتهي، إنما الشيء الذي لا يُحصَى ولا يَعُدُّ فلا ينتهي، كما في قول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34].
لأن نِعَم الله لا تُحصَى ولا تُعَدُّ ولا تنتهي؛ لذلك سُبِقَتْ بإن التي تفيد الشكِّ، فهي مسألة لا يجرؤ أحد عليها؛ لأن: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96].
وها نحن نرى علم الإحصاء وما وصل إليه من تقدّم حتى أصبح له جامعات وعلماء متخصصون أدخلوا الإحصاء في كل شيء، لكن لم يفكر أحد منهم أنْ يُحصِي نِعَم الله في كَوْنه، لماذا؟ لأن الإقبال على العَدِّ معناه ظن أنك تستطيع أنْ تنتهي، وهم يعلمون تمامًا أنهم مهما عَدُّوا ومهما أَحْصَوا فلن يصِلُّوا إلى نهاية.
إذن: {نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 84] نُحصي سيئاتهم ونَعدُّ ذنوبهم قبل أن تنتهي أعمارهم، وكلما طالت الأعمار كثرتْ الذنوب، وكل ما ينتهي بالعدد ينتهي بالمُدد. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)}.
الضمير في {عَلَيْهِمْ} راجع إلى الكفار الذين سبق ذكرهم في قوله: {أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} أي: هؤلاء إذا قرىء عليهم القرآن تعذروا بالدنيا، وقالوا: لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أطيب من حالنا، ولم يكن بالعكس، لأن الحكيم لا يليق به أن يهين أولياءه ويعزّ أعداءه، ومعنى البينات: الواضحات التي لا تلتبس معانيها.
وقيل: ظاهرات الإعجاز.
وقيل: إنها حجج وبراهين، والأوّل أولى.
وهي حال مؤكدة لأن آيات الله لا تكون إلا واضحة، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {قَالَ الذين كَفَرُواْ} للإشعار بأن كفرهم هو السبب لصدور هذا القول عنهم.
وقيل: المراد بالذين كفروا هنا: هم المتمردّون المصرّون منهم، ومعنى قالوا {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} قالوا: لأجلهم.
وقيل: هذه اللام هي لام التبليغ كما في قوله: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ} [البقرة: 247] أي خاطبوهم بذلك وبلغوا القول إليهم {أَىُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَامًا} المراد بالفريقين: المؤمنون والكافرون، كأنهم قالوا: أفريقنا خير أم فريقكم؟ قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد {مقامًا} بضم الميم، وهو موضع الإقامة، ويجوز أن يكون مصدرًا بمعنى الإقامة، وقرأ الباقون بالفتح أي منزلًا ومسكنًا.
وقيل: المقام: الموضع الذي يقام فيه بالأمور الجليلة، والمعنى: أي الفريقين أكبر جاهًا وأكثر أنصارًا وأعوانًا، والنديّ والنادي: مجلس القوم ومجتمعهم، ومنه قوله تعالى: {وَتَأْتُونَ في نَادِيكُمُ المنكر} [العنكبوت: 29]. وناداه جالسه في النادي، ومنه دار الندوة، لأن المشركين كانوا يتشاورون فيها في أمورهم، ومنه أيضًا قول الشاعر:
أنادي به آل الوليد جعفرا

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ} القرن: الأمة والجماعة {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا ورئيا} الأثاث: المال أجمع، الإبل والغنم والبقر والعبيد والمتاع. وقيل: هو متاع البيت خاصة. وقيل: هو الجديد من الفرش. وقيل: اللباس خاصة. واختلفت القراءات في: {ورئيًا} فقرأ أهل المدينة وابن ذكوان {وريًا} بياء مشدّدة، وفي ذلك وجهان: أحدهما: أن يكون من رأيت ثم خففت الهمزة فأبدل منها ياء وأدغمت الياء في الياء والمعنى على هذه القراءة: هم أحسن منظرًا وبه قول جمهور المفسرين، وحسن المنظر يكون من جهة حسن اللباس، أو حسن الأبدان وتنعمها، أو مجموع الأمرين.
وقرأ أهل الكوفة وأبو عمرو وابن كثير: {ورئيًا} بالهمز، وحكاها ورش عن نافع، وهشام عن ابن عامر، ومعناها معنى القراءة الأولى.
قال الجوهري: من همز جعله من المنظر من رأيت، وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة، وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي:
أشاقتك الظعائن يوم بانوا ** بذي الرئي الجميل من الأثاث

ومن لم يهمز: إما أن يكون من تخفيف الهمزة، أو يكون من رويت ألوانهم أو جلودهم ريًا، أي امتلأت وحسنت. وقد ذكر الزجاج معنى هذا كما حكاه عنه الواحدي.
وحكى يعقوب أن طلحة بن مصرف قرأ بياء واحدة خفيفة، فقيل: إن هذه القراءة غلط، ووجهها بعض النحويين أنه كان أصلها الهمزة فقلبت ياء ثم حذفت إحدى الياءين، وروي عن ابن عباس أنه قرأ بالزاي مكان الراء، وروي مثل ذلك عن أبيّ بن كعب وسعيد بن جبير والأعصم المكي واليزيدي.
والزيّ: الهيئة والحسن.
قيل: ويجوز أن يكون من زويت أي: جمعت، فيكون أصلها زويًا فقلبت الواو ياء، والزيّ محاسن مجموعة.
{قُلْ مَن كَانَ في الضلالة} أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب على هؤلاء المفتخرين بحظوظهم الدنيوية، أي من كان مستقرًّا في الضلالة {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدًّا} هذا وإن كان على صيغة الأمر، فالمراد به الخبر، وإنما خرج مخرج الأمر لبيان الإمهال منه سبحانه للعصاة، وأن ذلك كائن لا محالة لتنقطع معاذير أهل الضلال، ويقال لهم يوم القيامة: {أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} [فاطر: 37].