فصل: تفسير الآية رقم (141):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (141):

قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما حاج اليهود في هؤلاء الأنبياء عقبه بهذه الآية لوجوه:
أحدها: ليكون وعظًا لهم وزجرًا حتى لا يتكلوا على فضل الآباء فكل واحد يؤخذ بعمله. وثانيها: أنه تعالى بين أنه متى لا يستنكر أن يكون فرضكم عين فرضهم لاختلاف المصالح لم يستنكر أن تختلف المصالح فينقلكم محمد صلى الله عليه وسلم من ملة إلى ملة أخرى. وثالثها: أنه تعالى لما ذكر حسن طريقة الأنبياء الذين ذكرهم في هذه الآيات بين أن الدليل لا يتم بذلك بل كل إنسان مسئول عن عمله، ولا عذر له في ترك الحق بأن توهم أنه متمسك بطريقة من تقدم، لأنهم أصابوا أم أخطأوا لا ينفع هؤلاء ولا يضرهم لئلا يتوهم أن طريقة الدين التقليد. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما لم يدع لهم متمسكًا من جهة إبراهيم عليه السلام أتبع ذلك الإشارة على تقدير صحة دعواهم إلى أن الدين دائر مع أمره في كل زمان لا مع ما قرره لأحد من خلقه فإنه لا حجر عليه ولا اعتراض بل له أن يأمر اليوم بأمر وغدًا مثلًا بضده وأن يفعل ما يشاء من إحكام ونسخ ونسيء وإنساء فقال: {تلك أمة} أي إبراهيم وآله {قد خلت} أي فهب أنهم على ما زعمتم فقد مضوا وقدم زمانهم فلا ينفعكم إلا ما تستجدونه في وقتكم هذا بحكم ما تجدد من المنزل المعجز لكافة أهل الأرض أحمرهم وأسودهم، ويجوز أن يقال: لما كان مضمون ما سبق من إثبات الأعلمية لله وكتمانهم الشهادة بما عندهم ثبوت ما أخبر به سبحانه على لسان هذا النبي الكريم من كون أصفيائه على دينه الإسلام فهم براء منهم كان المعنى: إن ادعيتم بهتًا أن العلم جاءكم عن الله بما ادعيتموه قيل: إن من تدعون عليه ذلك من الأنبياء قد انقضت معجزته بموته، وكتابكم غير مأمون عليه التحريف والتبديل لكونه غير معجز، وهذا النبي الآتي بالقرآن قائم بين أظهركم وهو يخبركم عن الله بكذب دعواكم، ويؤيد قوله بالمعجزات التي منها هذا القرآن الذي عجزت العرب كلها عن الإتيان بسورة من مثله وأنتم كذلك مع مشاركتكم لهم في الفصاحة نظمًا ونثرًا واختصاصكم عنهم بالعلم فلزمكم قبوله، لأنكم لا تستندون في ترويج كذبكم بعد الجهد إلا إلى من ثبت صدقه بثبوت رسالته، وثبتت رسالته بظهور معجزته، فوجب عليكم قبول أمره، وذلك ينتج قطعًا أنه يجب عليكم قبول هذا الداعي بهذا القرآن لمثل ذلك سواء، وإلا كان قبول بعض من ثبت له هذا الوصف دون البعض تحكمًا واتباعًا للهوى المذموم في كل شرعة المنعي عليكم بقوله تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم} [البقرة: 87] هذا مع أن رد قولكم هذا فيهم أظهر ظاهر من حيث إنه لا يعقل أن يكون السابق على نسبة اللاحق ما حدثت به إلا بعده بمُدد متطاولة، وسيأتي النص الصريح بإبطال ذلك في آل عمران إن شاء الله تعالى والإشارة إلى منابذته للعقل بقوله: {أفلا تعقلون} [آل عمران: 65] ليتطابق على إبطاله صادق النقل وحاكم العقل، وإلى هذا كله الإشارة بقوله: {تلك أمة قد خلت} أي من قبلكم بدهور ولا يقبل الإخبار عنهم بعدها إلا بقاطع، ولا سبيل لكم إليه وقد قام القاطع على مخالفتكم لهم بهذا القرآن المقطوع بصدقه بإعجازه بما تقدم وبما أشار إليه قوله تعالى: {لها ما كسبت} أي من أعمالها {ولكم ما كسبتم} أي من أعمالكم، فلا يسألون هم عن أعمالكم {ولا تسألون} أي أنتم {عما كانوا يعملون}. اهـ.
سؤال: فإن قيل: لم كررت هذه الآية؟
فالجواب من وجهين:
الأول: قال الجُبَّائي: إنه عني بالآية الأولى إبراهيم، ومن ذكر معه، والثانية أسلاف اليهود.
قال القاضي: هذا بعيد؛ لأن أسلاف اليهود والنصارى لم يَجْرِ لهم ذلك مصرح، وموضع الشبهة في هذا القول أن القوم لما قالوا في إبراهيم وبينه: إنهم كانوا هودًا، فكأنهم قالوا: إنهم كانوا على مثل طريقة أسلافنا من اليهود، فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أن يقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} ويعنيهم ولكن ذلك كالتعسُّف، بل المذكور السابق هو إبراهيم وبنوه، فقوله: {تلك أمة} يجب أن يكون عائدًا إليهم.
الوجه الثاني: أنه متى اختلفت الأوقات والأحوال والمواطن لم يكن التَّكْرار عبثًا، فكأنه تعالى قال: ما هذا إلا بشر، فوصف هؤلاء الأنبياء فيما أنتم عليه من الدين لا يسوغ التقليد في هذا الجنس، فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة، فلها ما كسبت، وانظر فيما دعاكم إليه محمد صلى الله عليه وسلم فإن ذلك أنفع لكم، وأعود عليكم، ولا تُسألون إلا عن عملكم. اهـ.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى: كررها، لأها تضمّنت معنى التهديد والتخويف، أي: إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بكسبهم، فأنتم أحرى، فوجب التأكيد فلذلك كررها. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة البقرة: الآية 135]:

{وَقالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)}.
{بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ} بل تكون ملة إبراهيم أى أهل ملته كقول عديّ بن حاتم. إنى من دين يريد من أهل دين. وقيل: بل نتبع ملة إبراهيم. وقرئ: {ملة إبراهيم} بالرفع، أى ملته ملتنا، أو أمرنا ملته، أو نحن ملته بمعنى أهل ملته. وحَنِيفًا حال من المضاف إليه، كقولك:
رأيت وجه هند قائمة. والحنيف: المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق. والحنف: الميل في القدمين. وتحنف إذا مال. وأنشد:
وَلكِنّا خُلِقْنَا إذْ خُلِقْنَا ** حَنِيفًا دِينُنَا عَنْ كُلِّ دِينِ

وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تعريض بأهل الكتاب وغيرهم لأن كلا منهم يدعى اتباع إبراهيم وهو على الشرك قُولُوا خطاب للمؤمنين. ويجوز أن يكون خطابا للكافرين، أى قولوا لتكونوا على الحق، وإلا فأنتم على الباطل وكذلك قوله: {بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ} يجوز أن يكون على: بل اتبعوا أنتم ملة إبراهيم، أو كونوا أهل ملته.

.[سورة البقرة: الآيات 136- 137]:

{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)}.
والسبط: الحافد.
وكان الحسن والحسين سبطي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم {وَالْأَسْباطِ} حفدة يعقوب ذراريّ أبنائه الاثني عشر.
{لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى.
و{أَحَدٍ} في معنى الجماعة. ولذلك صح دخول {بين} عليه {بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ} من باب التبكيت، لأن دين الحق واحد لا مثل له وهو دين الإسلام {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} فلا يوجد إذًا دين آخر يماثل دين الإسلام في كونه حقًا، حتى إن آمنوا بذلك الدين المماثل له كانوا مهتدين، فقيل: فإن آمنوا بكلمة الشك على سبيل الفرض والتقدير، أى: فإن حصلوا دينًا آخر مثل دينكم مساويًا له في الصحة والسداد فقد اهتدوا. وفيه أنّ دينهم الذي هم عليه وكل دين سواه مغاير له غير مماثل، لأنه حق وهدى وما سواه باطل وضلال. ونحو هذا قولك للرجل الذي تشير عليه. هذا هو الرأى الصواب، فإن كان عندك رأى أصوب منه فاعمل به، وقد علمت أن لا أصوب من رأيك. ولكنك تريد تبكيت صاحبك، وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأى وراءه.
ويجوز أن لا تكون الباء صلة وتكون باء الاستعانة، كقولك: كتبت بالقلم، وعملت بالقدوم أى فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم التي آمنتم بها. وقرأ ابن عباس وابن مسعود: بما آمنتم به، وقرأ أبى: {بالذي آمنتم به}.
{وَإِنْ تَوَلَّوْا} عما تقولون لهم ولم ينصفوا فما هم إلا فِي شِقاقٍ أى في مناوأة ومعاندة لا غير، وليسوا من طلب الحق في شيء. أو: وإن تولوا عن الشهادة والدخول في الإيمان بها {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} ضمان من اللَّه لإظهار رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عليهم، وقد أنجز وعده بقتل قريظة وسبيهم وإجلاء بنى النضير. ومعنى السين أنّ ذلك كائن لا محالة وإن تأخر إلى حين.
{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وعيد لهم، أى يسمع ما ينطقون به، ويعلم ما يضمرون من الحسد والغل وهو معاقبهم عليه. أو وعد لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بمعنى: يسمع ما تدعو به ويعلم نيتك وما تريده من إظهار دين الحق، وهو مستجيب لك وموصلك إلى مرادك.

.[سورة البقرة: آية 138]:

{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)}.
{صِبْغَةَ اللَّهِ} مصدر مؤكد منتصب على قوله: {آمَنَّا بِاللَّهِ} كما انتصب {وعد اللَّه} عما تقدمه، وهي فعلة من صبغ، كالجلسة من جلس، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ والمعنى: تطهير اللَّه، لأن الإيمان يطهر النفوس. والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية، ويقولون: هو تطهير لهم، وإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال: الآن صار نصرانيا حقا، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم: قولوا آمنا باللَّه، وصبغنا اللَّه بالإيمان صبغة لا مثل صبغتنا، وطهرنا به تطهيرًا لا مثل تطهيرنا. أو يقول المسلمون. صبغنا اللَّه بالإيمان صبغته ولم نصبغ صبغتكم. وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريقة المشاكلة، كما تقول لمن يغرس الأشجار: اغرس كما يغرس فلان، تريد رجلا يصطنع الكرم.
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} يعنى أنه يصبغ عباده بالإيمان، ويطهرهم به من أو ضار الكفر فلا صبغة أحسن من صبغته.
وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ} عطف على {آمنا باللَّه}، وهذا العطف يردّ قول من زعم أن {صِبْغَةَ اللَّهِ} بدل من {مِلَّةَ إِبْراهِيمَ} أو نصب على الإغراء بمعنى: عليكم صبغة اللَّه، لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه، وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه، والقول ما قالت حذام.

.[سورة البقرة: الآيات 139- 141]:

{قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُودًا أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)}.
قرأ زيد بن ثابت: {أتحاجونا} بإدغام النون.
والمعنى: أتجادلوننا في شأن اللَّه واصطفائه النبي من العرب دونكم، وتقولون: لو أنزل اللَّه على أحد لأنزل علينا، وترونكم أحق بالنبوّة منا {وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ} نشترك جميعا في أننا عباده، وهو ربنا، وهو يصيب برحمته وكرامته من يشاء من عباده، هم فوضى في ذلك لا يختص به عجمى دون عربى إذا كان أهلا للكرامة.
{وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ} يعنى أن العمل هو أساس الأمر وبه العبرة، وكما أن لكم أعمالا يعتبرها اللَّه في إعطاء الكرامة ومنعها فنحن كذلك.
ثم قال: {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} فجاء بما هو سبب الكرامة، أى ونحن له موحدون نخلصه بالإيمان فلا تستبعدوا أن يؤهل أهل إخلاصه لكرامته بالنبوّة، وكانوا يقولون: نحن أحق بأن تكون النبوة فينا، لأنا أهل كتاب والعرب عبدة أو ثان {أَمْ تَقُولُونَ} يحتمل فيمن قرأ بالتاء أن تكون أم معادلة للهمزة في: {أَتُحَاجُّونَنا} بمعنى أيّ الأمرين تأتون: ألمحاجة في حكمة اللَّه أم ادّعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء؟ والمراد بالاستفهام عنهما إنكارهما معًا، وأن تكون منقطعة بمعنى: بل أتقولون، والهمزة للإنكار أيضا، وفيمن قرأ بالياء لا تكون إلا منقطعة.
{قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} يعنى أن اللَّه شهد لهم بملة الإسلام في قوله: {ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا}.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} أى كتم شهادة اللَّه التي عنده أنه شهد بها وهي شهادته لإبراهيم بالحنيفية.
ويحتمل معنيين:
أحدهما أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم، لأنهم كتموا هذه الشهادة وهم عالمون بها.
والثاني: أنا لو كتمنا هذه الشهادة لم يكن أحد أظلم منا فلا نكتمها. وفيه تعريض بكتمانهم شهادة اللَّه لمحمد صلى اللَّه عليه وسلم بالنبوّة في كتبهم وسائر شهاداته.
{ومن} في قوله: {شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} مثلها في قولك: هذه شهادة منى لفلان إذا شهدت له، ومثله {بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)}.
التفسير:
إنه تعالى لما بين بالدلائل المتقدمة صحة دين الإسلام، ذكر أنواعًا من شبه الطاعنين منها: أن اليهود قالوا {كونوا هودًا} تهتدوا، والنصارى قالوا كذلك، لما علم من التعادي بين الفريقين كما بين كل منهما وبين المسلمين وقد مر مثل هذا في قوله تعالى: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى} [البقرة: 111] فأجابهم الله بقوله: {قل بل ملة إبراهيم} أي نكون أهل ملته مثل {واسئل القرية} [يوسف: 82] أي أهلها، أو بل نتبع ملة إبراهيم وقرئ بالرفع أي ملتنا أو أمرنا ملته أو نحن أهل ملته، وحنيفًا حال من المضاف إليه كقولك رأيت وجه هند قائمة وذلك أن المضاف إليه متضمن للحرف فيقتضي متعلقًا هو الفعل أو شبهه، وحينئذ يشتمل على فاعل ومفعول. فالحال عن المضاف إليه ترجع في التحقيق إلى الحال عن أحدهما وعند الكوفيين نصب على القطع أراد ملة إبراهيم الحنيف، فلما سقطت الألف واللام لم تتبع النكرة المعرفة فانقطع منها فانتصب، والحنيف المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق، وتحنف إذا مال وحاصل الجواب أن المعّول في الدين إن كان النظر والاستدلال فقد قدمنا الدلائل، وإن كان التقليد فالمتفق أولى من المختلف. وقد اتفق الكل على صحة دين إبراهيم فاتباعه أولى وهذا جواب إلزامي، ثم لما كان من المحتمل أن يزعم اليهود والنصارى أنهم على دين إبراهيم أزيحت علتهم بقوله: {وما كان من المشركين} لكون النصارى قائلين بالتثليث واليهود بالتشبيه، وأيضًا قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله، فليسوا من ملة إبراهيم التي هي محض التوحيد وخالص الإسلام في شيء {قولوا} خطاب للمؤمنين، ويجوز أن يكون للكافرين أي قولوا لتكونوا على الحق وإلا فأنتم على الباطل، وكذلك قوله: {بل ملة إبراهيم} يجوز أن يكون أمرًا لهم أي اتبعوا ملة إبراهيم أو كونوا أهل ملته، وهذا جواب آخر برهاني، وذلك أن طريق معرفة نبوة الأنبياء ظهور المعجز على أيديهم، ولما ظهر المعجز على يد محمد صلى الله عليه وسلم وجب الاعتراف بنبوته والإيمان به وبما أنزل عليه كما اعترفوا بنبوة إبراهيم وموسى وعيسى، فإن تخصيص البعض بالقبول وتخصيص البعض بالرد يوجب المناقضة في الدليل وعن الحسن أن قوله: {قل بل ملة إبراهيم} خطاب للنبي وقوله: {قولوا} خطاب لأمته والظاهر العموم وإنما قدم الإيمان بالله لأن معرفة النبي والكتاب متوقفة على معرفته وفيه إبطال ما ذهب إليه التعليمية والمقلدة من أن طريق معرفة الله الكتاب والسنة، قال الخليل: الأسباط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب.
وقيل: السبط الحافد، وكان الحسن والحسين سبطي النبي صلى الله عليه وسلم فهم حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر، عدّد بعض الأنبياء لتقدمهم وشرفهم ثم عمم لتعذر التفصيل.
{لا نفرق بين أحد منهم} لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كأهل الكتاب. ومعنى الإيمان بجميعهم أن كلا منهم حق في زمانه أولا نقول إنهم متفرقون في أصول الديانة {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا} [الشورى: 13] وأحد في معنى الجماعة ولذلك صح دخول بين عليه {ونحن له مسلمون} إذعانًا وإخلاصًا فلا جرم لا نخص بالقبول بعض عبيده المؤيدين بالمعجزات خلاف من كان إسلامه تقليدًا أو هوى. ولما بين الطريق الواضح في الدين وهو أن يعترف الإنسان بنبوة كل من قامت الدلالة على نبوته من غير مناقضة، رغبهم في مثل هذا الإيمان، وههنا سؤال وهو أن دين الإسلام وهو الحق واحد فما معنى المثل في قوله: {بمثل ما آمنتم به}؟ والجواب أن قوله: {فإن آمنوا} بكلمة الشك دليل على أن الأمر مبني على الفرض، والتقدير أي فإن حصلوا دينًا آخر مثل دينكم ومساويًا له في الصحة والسداد {فقد اهتدوا} لكن لا دين صحيحًا سوى هذا لسلامته عن التناقض بخلاف غيره فلا اهتداء إلا بهذا، ونظيره قولك للرجل الذي تشير عليه هذا هو الرأي الصواب فإن كان عندك رأي أصوب منه فاعمل به وقد علمت أن لا أصوب من رأيك، ولكنك تريد تبكيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه وقيل: الباء للاستعانة لا للإلصاق والتمثيل بين التصديقين أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم. وقيل: المثل صلة ويؤيده قراءة ابن عباس وابن مسعود {فإن آمنوا بما آمنتم به} وقيل: معناه إنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف وتحريف، فإن آمنوا هم بمثل ذلك في التوراة فقد اهتدوا لأنهم يتوسلون به إلى معرفة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي الآية دليل على أن الهداية كانت موجودة قبل هذا الاهتداء وهي الدلائل التي نصبها الله تعالى وكشف عن وجوهها، والاهتداء قبولها والعمل بها ليفوزوا بالسعادة العظمى. وإن تولوا عما قيل لهم ولم ينصفوا فما هم إلا في شقاق خلاف وعداوة وهو مأخوذ من الشق كأنه صار في شق غير شق صاحبه، أو من الشق لأنه فارق الجماعة وشق عصاهم، أو من المشقة لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه ويؤذيه، وفي وصف القوم بذلك دليل على معاداتهم الرسول وإضمارهم له كل سوء وتربصهم به الإيقاع في المحن، فلا جرم آمنه الله تعالى والمؤمنين من كيدهم وقال: {فسيكفيكهم الله} وناهيك به من كاف كافل. ومعنى السين أن ذلك كائن لا محالة وإن تأخر إلى حين وذلك أن فيها معنى التوكيد لوقوعها في مقابلة لن قال سيبويه: لن أفعل نفى سأفعل، ولقد أنجز وعده عما قريب بقتل قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير وضرب الجزية عليهم، وهذا إخبار بالغيب وكم من مثله في القرآن وكل ذلك مما يتأكد به إعجاز التنزيل العزيز وحصوله بطريق الوحي الصراح {وهو السميع العليم} وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي يسمع دعاءك ويعلم نيتك في أعلاء كلمة الحق وإعلانها فهو يستجيب لك لا محالة، ووعيد لأعدائه أي هو منهم بمرأى ومسمع يعلم ما يسرون من الحسد والحقد والغل فيكافئهم على ذلك {صبغة الله} مصدر مؤكد منتصب عن قوله: {آمنا بالله} مثل وعد الله قاله سيبويه وقيل: بدل من {ملة إبراهيم} أو نصب على الإغراء أي عليكم صبغة الله، وفيما فك لنظم الكلام وإخراج له عن الالتئام. والصبغة فعلة من صبغ للحالة التي يقع عليها الصبغ كالجلسة. والمعنى تطهير الله لأن الإيمان يطهر النفس. وأصله أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه بالمعمودية ويقولون هو تطهير لهم وبه يصير الواحد منهم نصرانيًا حقًا، فأمر المسلمون أن يقولوا لهم آمنا وصبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتكم، وذلك على طريق المشاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار اغرس كما يغرس فلان تريد رجلًا يصطنع الكرام، ونظيره قوله: {إنما نحن مستهزءون الله يستهزئ بهم} [البقرة: 15] وقيل: اللفظة من قولهم فلان يصبغ فلانًا في الشر أي يدخله فيه ويلزمه إياه كما يجعل الصبغ لازمًا للثوب. وقيل: سمي الدين صبغة لظهور هيئته عند صاحبه.
{سيماهم في وجوههم من أثر السجود} [الفتح: 29] من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار وقيل: وصف هذا الإيمان منهم بأنه صبغة الله ليبين أن المباينة بينه وبين غيره ظاهرة جلية يدركها كل ذي حس سليم كما يدرك الألوان.
وقيل: صبغة الله فطرته. أقول: وذلك أن آثار النقص الإمكاني لازمة للإنسان لزوم الصبغ للثوب، فيمكنه أن يتدرج منها إلى وجود الصانع والإيمان به. وقيل: صبغة الله الختان. وقيل: حجة الله. وقيل: سنة الله.
{ومن أحسن من الله صبغة} معنى الاستفهام الإنكار وصبغة تمييز أي لا صبغة أحسن من الإيمان بالله والدين الذي شرع لكم ليطهركم به من أوضار الكفر وأوزار الشرك.
{ونحن له عابدون} عبارة عن كمال الإيمان كما تقدم مرارًا.
{قل أتحاجوننا} أما المحاجة فهي إما قولهم نحن أحق بأن تكون النبوة فينا لأنا أهل الكتاب والعرب عبدة أوثان، وإما قولهم: {نحن أبناء الله وأحباؤه} [المائدة: 18] وقولهم: {كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا} وأما الخطاب فإما لأهل الكتاب وإما لمشركي العرب حيث قالوا {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31] وإما للكل والمعنى، أتجادلون في شأن الله أو في دينه وهو ربنا وربكم وللرب أن يفعل بمربوبه ما يعلم فيه مصلحته ويعرفه أهلًا له، عبيده كلهم فوضى في ذلك لا يختص به عجمي دون عربي {ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم} فكما أن لكم أعمالًا ترجون نيل الكرامة بها فنحن كذلك، فالعمل هو الأساس وبه الاعتبار ولكن {نحن له مخلصون} موحدون لا نقصد بالعبادة أحدًا سواه، فلا يبعد أن يؤهل أهل إخلاصه بمزيد الكرامة من عنده.
{أم تقولون} من قرأ بتاء الخطاب احتمل أن تكون {أم} منقطعة بمعنى استئناف استفهام آخر أي بل أتقولون والهمزة للإنكار كما في {أتحاجوننا} واحتمل أن تكون متصلة بمعنى أي الأمرين تأتون المحاجة في حكمة الله أم ادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء إنكارًا عليهم واستجهالًا لهم بما كان منهم. وعن الزجاج: بأي الحجتين تتعلقون في أمرنا، أبالتوحيد فنحن موحدون، أم باتباع دين الأنبياء فنحن متبعون؟ ومن قرأ بياء الغيبة فلا تكون إلا منقطعة لانقطاع الاستفهام الأول بسبب الالتفات.
{قل أأنتم أعلم أم الله} بل الله أعلم وخبره أصدق، وقد أخبر في التوراة والإنجيل والقرآن بأن إبراهيم ما كان يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا، وكيف لا وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده؟ ولأنهم مقرون بأن الله أعلم، وقد أخبر بنقيض ما ادعوه فإن قالوا ذلك عن ظن فقد بان لهم خطؤه، وإن قالوا ذلك عن جحود وعناد فما أجهلهم وأشقاهم، فإذن فائدة الكلام إما التنبيه وإما التجهيل.
{ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله} قوله: {من الله} إما أن يتعلق بأظلم والمعنى لو كان إبراهيم وبنوه هودًا أو نصارى، ثم إن الله كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم شهادة أظلم منه لأن الظلم من الأعدل أشنع، وإما أن يتعلق بكتم أي لا أحد أظلم ممن عنده شهادة، ثم إنه لم يقمها عند الله وكتمها وأخفاها منه وأما أن يتعلق بشهادة كقولك عندي شهادة من فلان ومثله {براءة من الله ورسوله} والمعنى ليس أحد أظلم ممن كتم شهادة عنده جاءته من الله، وفيه إشارة إلى أن المؤمنين لم يكتموا ما عندهم من الحق وشهدوا لإبراهيم بالحنيفية، وتعريض بأن أهل الكتاب قد كتموا شهادات الله فأنكروا نبوة محمد وحنيفية إبراهيم وغير ذلك من تحريفاتهم.
{وما الله بغافل عما تعملون} كلام جامع لكل وعيد لهم ولأضرابهم، ولو أن أحدًا كان عليه رقيب من قبل ملك مجازي لكان دائم الحذر والوجل، فكيف بالرقيب القريب الذي يعلم أسراره ويعد عليه أنفاسه وأفكاره ثم هو يقدر على أن يدخله جنته أو ناره؟ {تلك أمة} إشارة إلى إبراهيم وبنيه، كما مر، وإنما أعيدت الآية هاهنا لغرض آخر وهو زجرهم عن الاشتغال بوصف ما عليه الأمم السالفة من الدين فإن أديانهم لا تنفع إلا إياهم لاندراس آثارها وانطماس أنوارها، وأما الآن فالدين هو الإسلام الثابت بالدليل القاطع والبرهان البين فيجب اتباع المعلوم واقتفاؤه وإلقاء المظنون وإلغاؤه، ولا يسأل المتأخر عن المتقدم ولا المحسن عن المسيء وكل بعمله مجزي. اهـ.