فصل: قال الشوكاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروى الإمامية خبر نزولها في علي كرم الله تعالى وجهه عن ابن عباس والباقر وأيدوا ذلك بما صح عندهم أنه كرم الله تعالى وجهه قال: لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني ولو صببت الدنيا بجملتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني ما أحبني وذلك أنه قضى فانقضي على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق» والمراد المحبة الشرعية التي لا غلو فيه، وزعم بعض النصارى حبه كرم الله تعالى وجهه، فقد أنشد الإمام اللغوي رضي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي لابن إسحاق النصراني الرسغني:
عدي وتيم لا أحاول ذكرهم ** بسوء ولكني محب لهاشم

وما تعتريني في علي ورهطه ** إذا ذكروا في الله لومة لائم

يقولون ما بال النصارى تحبهم ** وأهل النهي من أعرب وأعاجم

فقلت لهم إني لأحسب حبهم ** سرى في قلوب الخلق حتى البهائم

وأنت تعلم أنه إذا صح الحديث ثبت كذبك، وأظن أن نسبة هذه الأبيات للنصراني لا أصل لها وهي من أبيات الشيعة بيت الكذب، وكم لهم مثل هذه المكايد كما بين في التحفة الإثني عشرية، والظاهر أن الآية على هذا مدنية أيضًا.
ثم العبرة على سائر الروايات في سبب النزول بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وذهب الجبائي إلى أن ذلك في الآخرة فقيل في الجنة إذ يكونون إخوانًا على سرر متقابلين، وقيل: حين تعرض حسناتهم على رؤس الأشهاد وأمر السين على ذلك ظاهر.
ولعل أفراد هذا الوعد من بين ما سيولون يوم القيامة من الكرامات السنية لما أن الكفرة سيقع بينهم يومئذ تباغض وتضاد وتقاطع وتلاعن، وذكر في وجه الربط أنه لما فصلت قبائح أحوال الكفرة عقب ذلك بذكر محاسن أحوال المؤمنين، وقد يقال فيه بناء على أن ذلك في الآخرة: إنه جل شأنه لما أخبر بإتيان كل من أهل السموات والأرض إليه سبحانه يوم القيامة فردًا آنس المؤمنين بأنه جل وعلا يجعل لهم ذلك اليوم ودًا، وفسره ابن عطية على هذا الوجه بمحبته تعالى إياهم وأراد منها إكرامه تعالى إياهم ومغفرته سبحانه وتعالى ذنوبهم، وجوز أن يكون الوعد يجعل الود في الدنيا والآخرة ولا أراه بعيدًا عن الصواب.
ولا يأبى هذا ولا ما قبله التعرض لعنوان الرحمانية لجواز أن يدعى العموم فقد جاء يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.
وقرأ أبو الحرث الحنفي {وُدًّا} بفتح الواو وقرأ جناح بن حبيش {وُدًّا} بكسرها وكل ذلك لغة فيه وكذا في الوداد.
{فَإِنَّمَا يسرناه} أي القرآن بأن أنزلناه {بِلَسَانِكَ} أي بلغتك وهو في ذلك مجاز مشهور والباء بمعنى على أو على أصله وهو الإلصاق لتضمين {يَسَّرْنَا} معنى أنزلنا أي يسرناه منزلين له بلغتك، والفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم كأنه قيل: بعد إيحاء هذه السورة الكريمة بلغ هذا المنزل وأبر به وأنذر فإنما يسرناه بلسانك العرب المبين {لِتُبَشّرَ بِهِ المتقين} المتصفين بالتقوى لامتثال ما فيه من الأمر والنهي أو الصائرين إليها على أنه من مجاز الأول {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} لا يؤمنون به لجاجًا وعنادًا، واللد جمع الألد وهو كما قال الراغب: الخصم الشديد التأبي، وأصله الشديد اللديد أي صفحة العنق وذلك إذا لم يمكن صرفه عما يريده.
وعن قتادة اللذ ذو الجدل بالباطل الآخذون في كل لديد أي جانب بالمراء، وعن ابن عباس تفسير اللديا بالظلمة، وعن مجاهد تفسيره بالفجار، وعن الحسن تفسيره بالصم، وعن أبي صالح تفسيره بالعوج وكل ذلك تفسير باللازم؛ والمراد بهم أهل مكة كما روى عن قتادة.
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ}.
وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ضمن وعيد هؤلاء القوم بالإهلاك وحث له عليه الصلاة والسلام على الإنذار أي قرنًا كثيرًا أهلكنا قبل هؤلاء المعاندي {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ} استئناف مقرر لمضمون ما قبله، والاستفهام في معنى النفي أي ما تشعر بأحد منهم.
وقرأ أبو حيولا وأبو حرية وابن أبي عبلة وأبو جعفر المدني {تُحِسُّ} بفتح التاء وضم الحاء {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} أي صوتًا خفيًا وأصل التركيب هو الخفاء ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض والركاز للمال المدفون، وخص بعضهم الركز بالصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم، والأكثرون على الأول، وخص الصوت الخفي لأنه الأصل الأكثر ولأن الأثر الخفي إذا زال فزوال غيره بطريق الأولى.
والمعنى أهلكناهم بالكلية واستأصلناهم بحيث لا ترى منهم أحدًا ولا تسمع منهم صوتًا خفيًا فضلًا عن غيره، وقيل: المعنى أهلكناهم بالكلية بحيث لا ترى منهم أحدًا ولا تسمع من يخبر عنهم ويذكرهم بصوت خفي، والحاصل أهلكناهم فلا عين ولا خبر، والخطاب إما لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للخطاب.
وقرأ حنظلة {تسمع} مضارع اسمعت مبنيًا للمفعول والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال الشوكاني:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)}.
ذكر سبحانه من أحوال المؤمنين بعض ما خصهم به بعد ذكره لقبائح الكافرين فقال: {إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدًّا} أي حبًا في قلوب عباده، يجعله لهم من دون أن يطلبوه بالأسباب التي توجب ذلك، كما يقذف في قلوب أعدائهم الرعب، والسين في {سيجعل} للدلالة على أن ذلك لم يكن من قبل وأنه مجعول من بعد نزول الآية.
وقرىء {ودًّا} بكسر الواو، والجمهور من السبعة وغيرهم على الضم.
ثم ذكر سبحانه تعظيم القرآن خصوصًا هذه السورة لاشتمالها على التوحيد والنبوّة، وبيان حال المعاندين فقال: {فَإِنَّمَا يسرناه بِلَسَانِكَ} أي يسرنا القرآن بإنزالنا له على لغتك، وفصلناه وسهلناه، والباء بمعنى على، والفاء لتعليل كلام ينساق إليه النظم كأنه قيل: بلغ هذا المنزل أو بشر به أو أنذر {فَإِنَّمَا يسرناه} الآية.
ثم علل ما ذكره من التيسير فقال: {لِتُبَشّرَ بِهِ المتقين} أي المتلبسين بالتقوى، المتصفين بها {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} اللدّ: جمع الألد، وهو الشديد الخصومة.
ومنه قوله تعالى: {أَلَدُّ الخصام} [البقرة: 204].
قال الشاعر:
أبيت نجيًا للهموم كأنني ** أخاصم أقوامًا ذوي جدل لدًّا

وقال أبو عبيدة: الألدّ الذي لا يقبل الحق ويدّعي الباطل.
وقيل: اللدّ: الصم.
وقيل: الظلمة {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ} أي من أمة وجماعة من الناس، وفي هذا وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بهلاك الكافرين ووعيد لهم {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ} هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها، أي هل تشعر بأحد منهم أو تراه {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} الركز: الصوت الخفي، ومنه ركز الرمح: إذا غيب طرفه في الأرض.
قال طرفة:
وصادفتها سمع التوجس للسرى ** لركز خفي أو لصوت مفند

وقال ذو الرمة:
إذا توجس ركزًا مقفر ندس ** بنبأة الصوت ما في سمعه كذب

أي في استماعه كذب بل هو صادق الاستماع، والندس: الحاذق، والنبأة: الصوت الخفي.
وقال اليزيدي وأبو عبيد: الركز: ما لا يفهم من صوت أو حركة.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف؛ أنه لما هاجر إلى المدينة وجد في نفسه على فراق أصحابه بمكة منهم شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف، فأنزل الله {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية.
قال ابن كثير: وهو خطأ، فإن السورة مكية بكمالها لم ينزل شيء منها بعد الهجرة ولم يصح سند ذلك.
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت في علي بن أبي طالب {إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدًّا} قال: محبة في قلوب المؤمنين.
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ: «قل اللّهم اجعل لي عندك عهدًا، واجعل لي عندك ودًّا، واجعل لي في صدور المؤمنين مودة»، فأنزل الله الآية في عليّ.
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس {وُدًّا} قال: محبة في الناس في الدنيا.
وأخرج الحكيم الترمذي وابن مردويه عن عليّ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدًّا} ما هو؟ قال: «المحبة الصادقة في صدور المؤمنين» وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل: إني قد أحببت فلانًا فأحبه، فينادي في السماء، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض فذلك قوله: {إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدًّا} وإذا أبغض الله عبدًا نادى جبريل إني قد أبغضت فلانًا، فينادي في أهل السماء، ثم ينزل له البغضاء في الأرض» والأحاديث والآثار في هذا الباب كثيرة.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} قال: فجارًا.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال: صمًا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ} قال: هل ترى منهم من أحد.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {رِكْزًا} قال: صوتًا. اهـ.

.قال القاسمي:

ولما فصل مساوي الكفرة، تأثره بمحاسن البررة، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}.
أي: يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة، من غير تعرض للأسباب التي تكسب الود. كذا قالوا في تأويله. وقال أبو مسلم: معناه أنه يهب لهم ما يحبون. قال: والود والمحبة سواء. آتيت فلانًا محبته. وجعل لهم ما يحبون وجعلت له وده. ومن كلامهم: وددت لو كان كذا. أي: أحببت. فمعناه سيعطيهم الرحمن ودهم أي: محبوبهم في الجنة. ثم قال أبو مسلم: وهذا القول الثاني أولى لوجوه:
أحدها: كيف يصح القول الأول مع علمنا بأن المسلم المتقي يبغضه الكفار وقد يبغضه كثير من المسلمين؟
وثانيها: أن مثل هذه المحبة قد تحصل للكفار والفساق أكثر، فكيف يمكن جعله إنعامًا في حق المؤمنين؟
وثالثها: أن محبتهم في قلوبهم من فعلهم. فكان حمل الآية على إعطاء المنافع الأخروية أولى. انتهى. وقد حاول الرازيّ التمويه في اختيار الأول والجواب عن الثاني. والحق أحق. وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ}.
أي: سهلنا هذا القرآن بلغتك: {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} أي: الذين اتقوا عقاب الله، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، بالجنة: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} أي تخوف بهذا القرآن عذاب الله قومك من بني قريش. فإنهم أهل لدد وجدل بالباطل، لا يقبلون الحق واللدد شدة الخصومة. والباء في قوله: {بِلِسَانِكَ} بمعنى على. أي: على لغتك. أو ضمّن التيسير معنى الإنزال أي: يسرنا القرآن، منزلين له بلغتك، ليسهل تبليغه وفهمه وحفظه.
قال الزمخشريّ: هذه خاتمة السورة ومقطعها. فكأنه قال: بلّغ هذا المنزل، أو بشر به وأنذر، فإنما أنزلناه.. إلخ، أي: فالفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم.
وقال الرازيّ: بيّن به بهذا، عظيم موقع هذه السورة، لما فيها من التوحيد والنبوَّة والحشر والنشر، والرد على فرق المضلين المبطلين. وأنه يسَّر ذلك لتبشير المتقين وإنذار من خالفهم، وقد ذكرهم بأبلغ وصف شَيِّء وهو اللدد. لأن الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه.
ثم إنه تعالى ختم هذه السورة بموعظة بليغة، فقال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ}.
أي: قوم لُدٍّ، مثل هؤلاء، إهلاكًا عظيمًا: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} أي: تشعر به وتراه: {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} أي: صوتًا خفيًّا.
والمعنى أنهم بادوا وهلكوا وخلت منهم دورهم وأوحشت منهم منازلهم. وكذلك هؤلاء صائرون إلى ما صار إليه أولئك، إن لم يتداركوا بالتوبة. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)}.
قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر في القرآن لفظ عام ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه، وقد قدمنا امثلة متعددة لذلك. فإذا علمت ذلك فاعلم- أنه جل وعلا في هذه الآية الكريمة ذكر أنه سيعجل لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات ودًا. اي محبة في قلوب عباده. وقد صرح في موضع آخر بدخول نبيه موسى عليه وعلى نبينا والسلام في هذا العموم، وذلك في قوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} [طه: 39] الآية. وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله إذا احب عبدًا دعا جبريل فقال يا جبريل إني أحب فلانًا فأحبه. قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إن الله يحب فلانًا فأحبوه، قال: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض. وإن الله غذا أبغض عبدًا دعا جبريل، فقال يا جبريل إني أبغض فلانًا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه، قال: فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع له البغضاء في الأرض» اهـ.
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه إنما يسر هذا القرآن بلسان هذا النبيَّ العربي الكريم، ليبشر به المتقين، وينذر به الخصوم الأَلداء، وهم الكفرة. وما تضمنته هذه الآية الكريمة داء موضحًا في مواضع أخر. أما ما ذكر فيها من تيسير هذا القرآن العظيم فقد أوضحه في مواضع أخر، كقوله في سورة (القمر) مكررًا لذلك {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 17]، وقوله في آخر (الدخان): {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58] وأما ما ذكر فيها من كونه بلسان هذا النَّبي العربي الكريم فقد ذكره في مواضع أخر، كقوله: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 192-195]، وقوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 1-2]، وقوله تعالى: {حموالكتاب المبين إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 1-3]، وقوله تعالى: {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين} الآية- قد أوضحنا الآيات الدالة عليه في سورة (الكهف) وغيرها فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وأظهر الأقوال في قول: {لدًا} أنه جمع الأَلد، وهو شديد الخصومة. ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} [البقرة: 204]، وقول الشاعر:
أبيت نجيا للهموم كأنيي ** أُخاصم أقوامًا ذوي جدل لدًا

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)}.
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا} في هذه الآية الكريمة هي الخيرية، وهي في محل نصب لأنها مفعول {أَهْلَكْنَا}. و{مِّن} هي المبينة ل {كم} كما تقدم إيضاحه.
وقوله: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ} اي هل ترى أحدًا منهم، أو تشعر به، او تجده {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} اي صوتًا. وأصل الركز: الصوت الخفي. ومنه ركز الرمح: إذاغيب طرفه وأخفاه في الأرض. ومن الركاز: وهو دفن جاهلي معيب بالدفن في الأرض. ومن إطلاق الركز على الصوت قوله لبيد في معلقته:
فتوجست ركز الأنيس فراعها ** عن ظهر غيب والأنيس سقامها

وقول طرفة في معلقته:
وصادقتا سمع التوجس للسرى ** لركز خفي أو لصوت مندد

وقول ذي الرمة:
إذا توجس ركزًا مقفر ندس ** بنبأة الصوت ما في سمعه كذب

والاستفهام في قوله: {هَلْ} يراد به النفي. والمعنى: أهلكنا كثيرًا من الأمم الماضية فما ترى منهم أحد ولا تسمع لهم صوتًا. وما ذكره في هذه الآية من عدم رؤية أشخاصهمن وعدم سماع أصواتهم- ذكر بعضه في غير هذا الموضع. كقوله في عاد: {فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8]، وقوله فيهم: {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25]، قوله: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} [الحج: 45]، إلى غير ذلك من الآيات. اهـ.