فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الله عز وجل ردًا على الكافرين {أَطَّلَعَ الغيب} يقول: أنظر في اللوح المحفوظ {أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْدًا} يعني: أعقد عند الله عقد التوحيد وهو قول لا إله إلاّ الله، ويقال: أعهد إليه أن يجعل له في الجنة {كَلاَّ} وهو رد عليه لا يعطى له ذلك، واعلم أنه ليس في النصف الأول كلا، وأما النصف الثاني ففيه نيف وثلاثون موضعًا، ففي بعض المواضع في معنى الرد للكلام الأول، وفي بعض المواضع للتنبيه في معنى الافتتاح، وفي بعض المواضع يحتمل كلا الوجهين.
فأول ذلك {أَطَّلَعَ الغيب أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْدًا كَلاَّ} تم الكلام عنده أي: كلا لم يطلع الغيب ولم يتخذ عهدًا، ثم ابتدأ {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} من ذلك قوله: {فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ قَالَ كَلاَّ} لا يقتلونك.
وأما الذي هو للتنبيه في معنى الافتتاح قوله عز وجل {حتى زُرْتُمُ المقابر كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 2/3] وقوله عز وجل {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} من الكذب، يعني: سنحفظ ما يقول {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب} يعني: نزيد له من العذاب {مَدًّا} يعني: بعضه على إثر بعضٍ {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} يعني: نعطيه غير ما يقول في الجنة، ونعطي ما يدعي لنفسه لغيره {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} يعني: وحيدًا بغير مال ولا ولد {واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزًّا} يعني: منعة في الآخرة {كَلاَّ} رد عليهم أي لا يكون لهم منعة. وتم الكلام.
ثم قال: {سَيَكْفُرُونَ بعبادتهم} يعني: الآلهة يجحدون عبادتهم {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} يعني: الآلهة تكون عونًا عليهم في العذاب، ويقال: عدوًا لهم في الآخرة، ومن هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ طَلَبَ رِضَا المَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ عَادَ الحَامِدُ لَهُ ذَامًّا» ثم قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشياطين} يعني: ألم تخبر في القرآن أنا سلطنا الشياطين {عَلَى الكافرين} مجازاة لهم ويقال: خلينا بينهم وبين الكفار فلم نعصمهم {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} يعني: تزعجهم إزعاجًا وتغريهم إغراءً حتى يركبوا المعاصي، قال الضحاك: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} أي تأمرهم أمرًا، وقال الحسن: تقدمهم إقدامًا إلى الشر، وقال الكلبي: نزلت الآية في المستهزئين بالقرآن وهم خمسة رهط {فَلاَ تَعْجَلْ} يا محمد {عَلَيْهِمْ} بالعذاب {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} يعني: أيام الحياة، ثم ينزل بهم العذاب ويقال: نعد عليهم النفس بعد النفس ويقال: الأيام والليالي والشهور قوله عز وجل: {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين} يعني: اذكر يوم نحشر المتقين الذين اتقوا الشرك والفواحش {إِلَى الرحمن وَفْدًا} يعني: ركبانًا على النوق والوفد جمع الوافد مثل الركب جمع راكب والوفد الذي يأتي بالخبر والبشارة ويجازي بالحياة الكرامة.
وروي عن علي بن أبي طالب أنه قرأ {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا} ثم قال: أتدرون على أي شيء يحشرون أما والله ما يحشرون على أقدامهم، ولكن يؤتون بنوق لم ير الخلائق مثلها، عليها أرحال الذهب، وأزمتها من الزبرجد ثم ينطلق بهم حتى يقرعوا باب الجنة.
وقال الربيع بن أنس يوفدون إلى ربهم فيكرمون ويعظمون ويشفعون ويحيون فيها بالسلام.
ويقال: {إِلَى الرحمن} يعني: إلى الرحمة وهي الجنة ويقال: {إِلَى الرحمن} يعني: إلى دار الرحمن.
ثم قال عز وجل: {وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْدًا} يعني: عطاشًا مشاة، وأصله الورود على الماء والوارد على الماء يكون عطشانًا.
قال عز وجل: {لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْدًا} يعني: من جاء بلا إله إلا الله، وقال سفيان الثوري: إلا من قدم عملًا صالحًا {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَدًا} يعني: اليهود والنصارى {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} يعني: قلتم قولًا عظيمًا منكرًا ويقال كذبًا وزورًا، قال عز وجل: {تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} يعني: من قولهم {وَتَنشَقُّ الأرض} يعني: تتصدع الأرض {وَتَخِرُّ الجبال هَدًّا} تصير الجبال كسرًا {أَن دَعَوْا للرحمن وَلَدًا} يعني: بأن قالوا لله ولد.
روي عن بعض الصحابة أنه قال كان بنو آدم لا يأتون شجرة إلا أصابوا منها منفعة حتى قالت فجرة بني آدم اتَّخذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا اقشعرت الأرض وهلك الشجر، وقرأ نافع والكسائي {يَكَادُ} بالياء على لفظ التذكير والباقون بالتاء لأن الفعل مقدم، فيجوز كلاهما، وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي وعاصم في رواية حفص {يَتَفَطَّرْنَ} بالتاء والباقون بالنون ومعناهما واحد مثل ينشق وتنشق، قال الله عز وجل: {وَمَا يَنبَغِى للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} يعني: ما اتخذ الله عز وجل ولدًا {إِن كُلُّ مَن في السموات والأرض إِلاَّ اتِى الرحمن عَبْدًا} يعني: أقر بالعبودية يعني: به الملائكة وعيسى وعزيرًا وغيرهم {لَّقَدْ أحصاهم} يعني: حفظ عليهم أعمالهم ليجازيهم بها {وَعَدَّهُمْ عَدًّا} يعني: علم عددهم، ويقال: {أحصاهم} أي: حفظ أعمالهم فيجازيهم {وَعَدَّهُمْ عَدًّا} أي: علم عدد أنفاسهم وحركاتهم {وَكُلُّهُمْ ءاتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْدًا} يعني: وحيدًا بغير مال ولا ولد {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} يعني: الطاعات فيما بينهم وبين ربهم {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدًّا} يعني: يحبهم ويحببهم إلى الناس، وقال كعب الأحبار: قرأت في التوراة أنها لم تكن محبة لأحد إلا كان بدؤها من الله تعالى ينزل إلى أهل السماء ثم ينزلها إلى أهل الأرض، ثم قرأت القرآن فوجدته فيه وهو قوله: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدًّا} يعني: محبة في أنفس القوم، روى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أَحَبَّ الله عَبْدًَا نَادَىَ جِبْرِيْلَ قَدْ أَحْبَبْتُ فُلاَنًَا فَأَحِبُّوهُ فَيُنَادِي في السَّمَاءِ ثُمَّ تَنْزِلُ لَهُ المَحَبَّةُ فِي الأَرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَ الله عَبْدًَا نَادَىَ جِبْرِيلَ قَدْ أَبْغَضْتُ فُلانًا فَيُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءَ ثُمَّ تَنْزِلُ لَهُ البَغْضَاءُ فِي أَهْلِ الأَرْضِ».
قوله عز وجل: {فَإِنَّمَا يسرناه بِلَسَانِكَ} يعني: هَوَّنا قراءة القرآن على لسانك {لِتُبَشّرَ بِهِ المتقين} أي: الموحدين {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} أي جُدلًا بالباطل شديدي الخصومة، هو جمع ألد مثل أصم وصم.
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ} يعني: من قبل قريش {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ} يعني: هل ترى منهم من أحد {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} أي صوتًا خفيًا، والركز الصوت الذي لا يفهم، والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله. اهـ.

.قال الثعلبي:

{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ}.
يعني من بعد النبيّين المذكورين {خَلْفٌ} وهم قوم سوء، والخَلفَ بالفتح الصالح، والخلف بالحزم الطالح، والخلف بسكون اللام الرديء من كلّ شيء، وهم في هذه الآية اليهود ومن لحق بهم. وقال مجاهد وقتادة: في هذه الأُمّة.
{أَضَاعُواْ الصلاة} أي تركوا الصلوات المفروضة، قال ابن مسعود وإبراهيم والقاسم بن مخيمرة: أخّروها عن مواقيتها وصلّوها بغير وقتها.
وقال قرّة بن خالد: استبطأ الضحاك مرّة امتراءً في صلاة العصر حتى كادت الشمس تغرب فقرأ هذه الآية {أَضَاعُواْ الصلاة} ثمَّ قال: والله لئن أدعها أحبّ إلىّ من أن اضيّعها، وقرأ الحسن: اضاعوا الصلوات {واتبعوا الشهوات} قال مقاتل: استحلّو نكاح الأخت من الأب، وقال الكلبي: يعني اللذات وشرب الخمر وغيره، قال مجاهد: هذا عند اقتراب الساعة وذهاب صالحي أُمّة محمد صلى الله عليه وسلم ينزو بعضهم على بعض في السكك والأزقّة زناة.
وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال: يكون خلف من بعد ستّين سنة {أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات} الآية.
وقال علىّ بن أبي طالب: «هذا إذا بني المشيد ورُكب المنظور ولبس المشهور»، وقال وهب: فخلف من بعدهم خلف شرّابون للقهوات، لعّابون بالكعبات، ركّابون للشهوات، متبعون للذّات، تاركون للجُمعات، مضيّعون للصلوات، وقال كعب: يظهر في آخر الزمان أقوام بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون الناس، ثمَّ قرأ {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات}.
{فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا} قال عبد الله بن مسعود: الغيّ نار في جهنّم، وقال ابن عباس: الغىّ واد في جهنم وإنّ أودية جهنم لتستعيذ من حرّها، أُعدّ ذلك الوادي للزاني المصرّ عليه، ولشارب الخمر المدمن عليها، ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه، ولأهل العقوق، ولشاهد الزور، ولامرأة أدخلت على زوجها ولدًا. وقال عطاء: الغىّ واد في جهنم يسيل قيحًا ودمًا. وقال وهب: الغىّ نهر في النار بعيد قعره، خبيث طعمه، وقال كعب: هو واد في جهنم أبعدها قعرًا وأشدّها حرًّا، فيه بئر تسمى البهيم كلّما خبت جهنّم فتح الله تلك البئر فسعّربها جهنم، وقال الضحاك: خسرانًا وقيل: عذابًا، وقيل: ألمًا، وقيل: كفرًا.
{إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئًا جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب} ولم يروها {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} يعني آتيًا، قال الأعشى:
وساعيت معصيًّا إليها وشاتها. أي عاصيًا.
{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا} في الجنة {لَغْوًا} باطلًا وفحشًا وفضولًا من الكلام، قال مقاتل: يمينًا كاذبة {إِلاَّ سَلاَمًا} استثناء من غير جنسه يعني بل يسمعون فيها سلامًا أي قولًا يسلمون منه، وقال المفسّرون: يعني تسليم بعضهم على بعض تسليم الملائكة عليهم {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} يعني على مقدار طرفي النهار.
أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن جعفر بقراءتي عليه قال: حدَّثنا أبو الحسن علي بن محمد بن سختويه قال: حدَّثنا موسى بن هارون قال: حدَّثنا بشر بن معاذ الضرير قال: حدَّثنا عامذ بن سياق عن يحيى بن أبي كثير قال: كانت العرب في زمانها من وجد غداءً مع عشاء فذلك هو الناعم، فأنزل الله سبحانه {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} قدر ما بين غدائهم وعشائهم.
أخبرنا محمد بن أحمد بن جعفر قال: حدَّثنا علي بن محمد بن سختويه قال: حدَّثنا موسى ابن هارون قال: حدَّثنا داود بن رشيد قال: حدَّثنا الوليد بن مسلم قال: سألت زهير بن محمد عن قول الله سبحانه: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} قال: ليس في الجنة ليل، هم في نور أبدًا وإنّما يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب، ومقدار النهار برفع الحجب.
{تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا} وقرأ يعقوب: {نورّث} بالتشديد، والاختيار التخفيف؛ لقوله: {ثُمَّ اَوْرَثْنَا} {مَن كَانَ تَقِيًّا} {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} الآية.
أخبرنا عبد الله بن حامد وشعيب بن محمد قالا: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدَّثنا أبو الأزهر قال: حدَّثنا روح بن عبادة، قال: حدَّثنا عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: «يا جبرئيل ما يمنعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا؟ فأنزل الله سبحانه {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ}».
وقال مجاهد: «أبطأت الرّسل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أتاه جبرئيل فقال: ما حبسك؟ فقال: وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصّون أظفاركم ولا تأخذون شواربكم ولا تستاكون»؟ فأنزل الله سبحانه {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} الآية.
وقال عكرمة والضّحاك ومقاتل وقتادة والكلبي: «احتبس جبرئيل عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله قومه عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والرّوح فلم يدر ما يجيبهم، ورجا أن يأتيه جبرئيل بجواب ما سألوه فأبطأ عليهَ قال عكرمة: أربعين يومًا. وقال مجاهد: اثنتي عشرة ليلة وقيل: خمس عشرةَ فشقّ ذلك على رسول الله صلى اللّه عليه وسلم مشقة شديدة، وقال المشركون: ودّعه ربّه وقلاه، فلمّا أنزل جبرئيل قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أبطأت عليَّ حتى ساء ظنّي واشتقت إليك، فقال له جبرئيل: إنىّ كنت أشوق إليك ولكنّي عبد مأمور إذا بُعثت نزلت وإذا حُبست احتبستُ، فأنزل الله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} وأنزل {والضحى واليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الضحى: 1-3]».
وقيل: هذا إخبار عن أهل الجنة، أنّهم يقولون عند دخولها: ما تتنزل هذه الجنان إّلا بأمر الله {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} قال مقاتل: له ما بين أيدينا من أمر الآخرة {وَمَا خَلْفَنَا} من أمر الدنيا {وَمَا بَيْنَ ذلك} يعني بين النفختين، وبينهما أربعون سنة، وقيل: كان له ابتداء خلقنا وله كان منتهى آجالنا، وله كان مدّة حياتنا.
ويقال: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} من الثواب والعقاب وأُمور الآخرة {وَمَا خَلْفَنَا} ما مضى من أعمالنا في الدنيا {وَمَا بَيْنَ ذلك} أي ما يكون منّا إلى يوم القيامة. ويقال: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} قيل أن يخلقنا {وَمَا خَلْفَنَا} بعد أن يميتنا {وَمَا بَيْنَ ذلك} ما هو فيه من الحياة، ويقال: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} إلى الأرض إذا أردنا النزول إليها {وَمَا خَلْفَنَا} أي السماء إذا نزلنا منها {وَمَا بَيْنَ ذلك} يعني السماء والأرض، يريد أن كل ذلك لله سبحانه فلا تقدر على فعل إلاّ بأمره.
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} أي ناسيًا إذا شاء أن يرسل إليك أرسل. {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ} أي واصبر على عبادته {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} قال ابن عباس: مثلًا، وقال سعيد بن جبير: عدلًا، وقال الكلبي: هل تعلم أحدًا يسمى الله غيره.
{وَيَقُولُ الإنسان} يعني أُبىّ بن خلف الجمحي {أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ} من القبر {حَيًّا} استهزاءً وتكذيبًا منه بالبعث.
قال الله سبحانه: {أَوَلاَ يَذْكُرُ} أي يتذكّر ويتفكّر، والأصل يتذكر، وقرأ ابن عامر ونافع وعاصم ويعقوب يذكر بالتخفيف، والاختيار التشديد لقوله سبحانه: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب} [الرعد: 19] وأخواتها، يدل عليه قراءة أُبي {يتذكر الإنسان} يعني أُبىّ بن خلف الجمحي {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} ثمّ أقسم بنفسه فقال: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} لنجمعنّهم في المعاد يعني المشركين المنكرين للبعث {والشياطين} مع الشياطين يعني قرناءهم الذين أضلّوهم، يُقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ} يعني في جهنم {جِثِيًّا} قال ابن عباس: جماعات جماعات، وقال مقاتل: جميعًا وهو على هذا القول جمع جثوة، وقال الحسن والضحاك: جاثية على الركب وهو على هذا التأويل جمع جاث. قال الكميت:
همُ تركوا سراتهمُ جثيًّا ** وهم دون السراة مقرنينا

{ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ} لنَخرجنّ من كلّ أُمّة وأهل دين {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيًّا} عتوًّا قال ابن عباس: يعني جرأةً، وقال مجاهد: فجورًا وكذبًا، قال مقاتل: علوًّا، وقيل: غلوًّا في الكفر، وقيل: كفرًا، وقال الكلبي: قائدهم رأسُهم في الشرّ.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدَّثنا محمد بن يعقوب قال: حدَّثنا الحسن بن علي قال: حدَّثنا أبو أُسامة عن سفيان عن علي بن الأرقم عن أبي الأحوص قال: نبدأ بالأكابر فألاكابر {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيًّا} أي أحقّ بدخول النار، يقال: صلي يصلى صليًا مثل لقي يلقى لقيًّا وصلى يصلى صليًا مثل مضى يمضي مضيًا.
{وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قيل: في الآية إضمار مجازه: والله إنْ منكم يعني ما منكم من أحد ألاّ واردها يعني النار، واختلف الناس في معنى الورود حسب اختلافهم في الوعيد، فأمّا الوعيد فإنّهم قالوا: إنّ من دخلها لم يخرج منها، وقالت المرجئة: لا يدخلها مؤمن، واتّفقوا على أنّ الورود هو الحضور والمرور، فأمّا أهل السنّة فإنّهم قالوا: يجوز أن يعاقب الله سبحانه العصاة من المؤمنين بالنار ثم يخرجهم منها، وقالوا: معنى الورود الدخول، واحتجّوا، بقول الله سبحانه حكاية عن فرعون {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار وَبِئْسَ الورد المورود} [هود: 98] وقال في الأصنام وعبدتها {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] {لَوْ كَانَ هؤلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا} [الأنبياء: 99] فلو لم يكن الورود في هذه الآيات بمعنى الدخول لوجب أن يدخل الأصنام وعبدتها وفرعون وقومه الجنّة لأن من مرَّ على النار فلابّد له من الجنّة لأنه ليس بعد الدنيا دار إلاّ الجنّة أو النار، والذي يدلّ على أنّ الورود هو الدخول قوله في سياق الآية {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا} والنجاة لا تكون إلاّ ممّا دخلت فيه وأنت ملقىً فيه، قال الله سبحانه: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين} [الأنبياء: 88] واللغة تشهد لهذا، تقول العرب: ورد كتاب فلان، ووردتُ بلد كذا، لا يريدون جزت عليها وإنّما يريدون دخلتها، ودليلنا أيضًا من السنّة.