فصل: (سورة مريم: الآيات 77- 80).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



. [سورة مريم: الآيات 77- 80].

{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْدًا (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْدًا (80)}.
لما كانت مشاهدة الأشياء ورؤيتها طريقا إلى الإحاطة بها علما وصحة الخبر عنها، استعملوا (أرأيت) في معنى (أخبر) والفاء جاءت لإفادة معناها الذي هو التعقيب، كأنه قال: أخبر أيضا بقصة هذا الكافر، واذكر حديثه عقيب حديث أولئك أَطَّلَعَ الْغَيْبَ من قولهم: أطلع الجبل: إذا ارتقى إلى أعلاه وطلع الثنية. قال جرير:
لاقيت مطّلع الجبال وعورا

ويقولون: مرّ مطلعا لذلك الأمر، أى عاليا له مالكا له، ولاختيار هذه الكلمة شأن، يقول: أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار. والمعنى: أن ما ادعى أن يؤتاه وتألى عليه لا يتوصل إليه إلا بأحد هذين الطريقين: إما علم الغيب، وإما عهد من عالم الغيب، فبأيهما توصل إلى ذلك؟ قرأ حمزة والكسائي: {ولدا}، وهو جمع ولد، كأسد في أسد. أو بمعنى الولد كالعرب في العرب. وعن يحيى بن يعمر: ولدا، بالكسر. وقيل في العهد: كلمة الشهادة. وعن قتادة: هل له عمل صالح قدّمه فهو يرجو بذلك ما يقول؟ وعن الكلبي: هل عهد اللّه إليه أنه يؤتيه ذلك؟ عن الحسن رحمه اللّه: نزلت في الوليد بن المغيرة، والمشهور أنها في العاصي بن وائل. قال خباب بن الأرت: كان لي عليه دين فافتضيته، فقال: لا واللّه حتى تكفر بمحمد. قلت: لا واللّه لا أكفر بمحمد حيا ولا ميتا ولا حين تبعث. قال: فإنى إذا مت بعثت؟ قلت: نعم. قال: إذا بعثت جئتني وسيكون لي ثم مال وولد فأعطيك. وقيل: صاغ له خباب حليا فاقتضاه الأجر، فقال: إنكم تزعمون أنكم تبعثون، وأن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا، فأنا أقضيك ثم، فإنى أوتى مالا وولدا حينئذ كَلَّا ردع وتنبيه على الخطأ أي: هو مخطئ فيما يصوره لنفسه ويتمناه فليرتدع عنه. فإن قلت: كيف قيل سَنَكْتُبُ بسين التسويف، وهو كما قاله كتب من غير تأخير، قال اللّه تعالى: {ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله، على طريقة قوله:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة

أى تبين وعلم بالانتساب أنى لست بابن لئيمة. والثاني: أن المتوعد يقول للجاني: سوف أنتقم منك، يعنى أنه لا يخل بالانتصار وإن تطاول به الزمان واستأخر، فجرد هاهنا لمعنى الوعيد {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا} أى نطوّل له من العذاب ما يستأهله ونعذبه بالنوع الذي يعذب به الكفار المستهزءون. أو نزيده من العذاب ونضاعف له من المدد. يقال: مده وأمده بمعنى، وتدل عليه قراءة علىّ بن أبى طالب: {ونمد له} بالضم. وأكد ذلك بالمصدر، وذلك من فرط غضب اللّه، نعوذ به من التعرّض لما نستوجب به غضبه {وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ} أى نزوى عنه ما زعم أنه يناله في الآخرة ونعطيه من يستحقه. والمعنى مسمى ما يقول. ومعنى {ما يَقُولُ} وهو المال والولد. يقول الرجل: أنا أملك كذا، فتقول له: ولى فوق ما تقول، ويحتمل أنه قد تمنى وطمع أن يؤتيه اللّه في الدنيا مالا وولدا، وبلغت به أشعبيته أن تألى على ذلك في قوله: {لَأُوتَيَنَّ} لأنه جواب قسم مضمر، ومن يتأل على اللّه يكذبه، فيقول اللّه عز وجل هب أنا أعطيناه ما اشتهاه، إما نرثه منه في العاقبة ويأتينا فردا غدا بلا مال ولا ولد، كقوله عز وجل {وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى}... الآية فما يجدى عليه تمنيه وتأليه. ويحتمل أن هذا القول إنما يقوله ما دام حيا، فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله، ويأتينا رافضا له منفردا عنه غير قائل له، أو لا ننسى قوله هذا ولا نلغيه، بل نثبته في صحيفته لنضرب به وجهه في الموقف ونعيره به {وَيَأْتِينا} على فقره ومسكنته {فَرْدًا} من المال والولد، لم نوله سؤله ولم نؤته متمناه، فيجتمع عليه الخطبان: تبعة قوله ووباله، وفقد المطموع فيه. فردا على الوجه الأول: حال مقدرة نحو {فَادْخُلُوها} خالِدِينَ لأنه وغيره سواء في إتيانه فردا حين يأتى، ثم يتفاوتون بعد ذلك.

. [سورة مريم: الآيات 81- 82].

{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)}.
أى ليتعززوا بآلهتهم حيث يكونون لهم عند اللّه شفعاء وأنصارا ينقذونهم من العذاب كَلَّا ردع لهم وإنكار لتعززهم بالآلهة. وقرأ ابن نهيك {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ} أى سيجحدون كلا سيكفرون بعبادتهم، كقولك: زيدا مررت بغلامه. وفي محتسب ابن جنى: كلا بفتح الكاف والتنوين، وزعم أن معناه كل هذا الرأى والاعتقاد كلا. ولقائل أن يقول: إن صحت هذه الرواية فهي كلا التي هي للردع، قلب الواقف عليها ألفها نونا كما في {قواريرا}. والضمير في {سَيَكْفُرُونَ} للآلهة، أي: سيجحدون عبادتهم وينكرونها ويقولون: واللّه ما عبدتمونا وأنتم كاذبون. قال اللّه تعالى: {وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ} أو للمشركين: أى ينكرون لسوء العاقبة أن يكونوا قد عبدوها. قال اللّه تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ} {عَلَيْهِمْ ضِدًّا} في مقابلة {لَهُمْ عِزًّا} والمراد ضدّ العز وهو الذل والهوان، أي: يكونون عليهم ضدا لما قصدوه وأرادوه، كأنه قيل: ويكونون عليهم ذلا، لا لهم عزا أو يكونون عليهم عونا، والضدّ: العون. يقال من أضدادكم: أى أعوانكم وكأن العون سمى ضدا لأنه يضاد عدوك وينافيه بإعانته لك عليه. فإن قلت: لم وحد؟ قلت: وحد توحيده قوله عليه السلام: «و هم يد على من سواهم» لاتفاق كلمتهم وأنهم كشيء واحد لفرط تضامهم وتوافقهم ومعنى كون الآلهة عونا عليهم: أنهم وقود النار وحصب جهنم، ولأنهم عذبوا بسبب عبادتها وإن رجعت الواو في سيكفرون ويكونون إلى المشركين، فإن المعنى: ويكونون عليهم- أى أعداءهم- ضدا، أي: كفرة بهم، بعد أن كانوا يعبدونها.

. [سورة مريم: آية 83].

{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)}.
الأز، والهزّ، والاستفزاز: أخوات، ومعناها التهييج وشدة الإزعاج، أي: تغريهم على المعاصي وتهيجهم لها بالوساوس والتسويلات. والمعنى: خلينا بينهم وبينهم ولم نمنعهم ولو شاء لمنعهم قسرا. والمراد تعجيب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة والمردة من الكفار، وأقاويلهم، وملاحتهم، ومعاندتهم للرسل، واستهزاؤهم بالدين: من تماديهم في الغىّ وإفراطهم في العناد، وتصميمهم على الكفر، واجتماعهم على دفع الحق بعد وضوحه وانتفاء الشكّ عنه، وإنهما كهم لذلك في اتباع الشياطين وما تسوّل لهم.

. [سورة مريم: آية 84].

{فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)}.
عجلت عليه بكذا: إذا استعجلته منه، أي: لا تعجل عليهم بأن يهلكوا ويبيدوا، حتى تستريح أنت والمسلمون من شرورهم، وتطهر الأرض بقطع دابرهم، فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة، كأنها في سرعة تقضيها الساعة التي تعد فيها لو عدت. ونحوه قوله تعالى: {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ} وعن ابن عباس رضى اللّه عنه: أنه كان إذا قرأها بكى وقال: آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك. وعن ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأها، فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفد.

. [سورة مريم: آية 85].

{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْدًا (85)}.
نصب {يَوْمَ} بمضمر، أى يوم نَحْشُرُ ونسوق: نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف. أو اذكر يوم نحشر. ويجوز أن ينتصب بلا يملكون. ذكر المتقون بلفظ التبجيل، وهو أنهم يجمعون إلى ربهم الذي غمرهم برحمته وخصهم برضوانه وكرامته، كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين للكرامة عندهم. وعن علىّ رضى اللّه عنه: ما يحشرون واللّه على أرجلهم، ولكنهم على نوق رحالها ذهب، وعلى نجائب سروجها ياقوت.

. [سورة مريم: آية 86].

{وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)}.
وذكر الكافرون بأنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء. والورود: العطاش لأنّ من يرد الماء لا يرده إلا لعطش وحقيقة الورد: المسير إلى الماء، قال:
ردى ردى ورد قطاة ** صمّا كدريّة أعجبها برد الما

فسمى به الواردون. وقرأ الحسن: {يحشر المتقون}، {ويساق المجرمون}.

. [سورة مريم: آية 87].

{لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْدًا (87)}.
الواو في {لا يَمْلِكُونَ} إن جعل ضميرا فهو للعباد، ودل عليه ذكر المتقين والمجرمين لأنهم على هذه القسمة. ويجوز أن تكون علامة للجمع، كالتي في (أكلونى البراغيث) والفاعل {مَنِ اتَّخَذَ} لأنه في معنى الجمع، ومحل {مَنِ اتَّخَذَ} رفع على البدل، أو على الفاعلية. ويجوز أن ينتصب على تقدير حذف المضاف، أي: إلا شفاعة من اتخذ. والمراد: لا يملكون أن يشفع لهم، واتخاذ العهد: الاستظهار بالإيمان والعمل. وعن ابن مسعود أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم: «أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند اللّه عهدا؟ قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يقول كل صباح ومساء: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إنى أعهد إليك بأنى أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك، وأنك إن تكلني إلى نفسي تقرّبنى من الشر وتباعدني من الخير، وأنى لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع ووضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الذين لهم عند الرحمن عهد، فيدخلون الجنة» وقيل: كلمة الشهادة. أو يكون من (عهد الأمير إلى فلان بكذا) إذا أمره به، أى لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة المأذون له فيها. وتعضده مواضع في التنزيل {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا}.

. [سورة مريم: الآيات 88- 91].

{وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَدًا (91)}.
قرئ {إِدًّا} بالكسر والفتح. قال ابن خالويه: الإدّ والأدّ: العجب. وقيل: العظيم المنكر. والإدّة: الشدّة. وأدنى الأمر وآدنى: أثقلنى وعظم علىّ إدّا {تَكادُ} قراءة الكسائي ونافع بالياء. وقرئ (ينفطرن) الانفطار من فطره إذا شقه. والتفطر، من فطره إذا شققه وكرر الفعل فيه. وقرأ ابن مسعود: {ينصدعن}، أى تهد هدّا، أو مهدودة، أو مفعول له، أي: لأنها تهدّ. فإن قلت: ما معنى انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال؟ ومن أين تؤثر هذه الكلمة في الجمادات؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن اللّه سبحانه يقول: كدت أفعل هذا بالسماوات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضبا منى على من تفوّه بها، لولا حلى ووقارى، وأنى لا أعجل بالعقوبة كما قال: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا}. والثاني: أن يكون استعظاما للكلمة، وتهويلا من فظاعتها، وتصويرا لأثرها في الدين وهدمها لأركانه وقواعده، وأن مثال ذلك الأثر في المحسوسات: أن يصيب هذه الأجرام العظيمة التي هي قوام العالم ما تنفطر منه وتنشق وتخرّ. وفي قوله: {لَقَدْ جِئْتُمْ} وما فيه من المخاطبة بعد الغيبة، وهو الذي يسمى الالتفات في علم البلاغة زيادة تسجيل عليهم بالجرأة على اللّه، والتعرّض لسخطه، وتنبيه على عظم ما قالوا. في {أَنْ دَعَوْا} ثلاثة أوجه: أن يكون مجرورا بدلا من الهاء في منه، كقوله:
على حالة لو أنّ في القوم حاتما ** على جوده لضنّ بالماء حاتم

ومنصوبا بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل، أي: هذا لأن دعوا، علل الخرور بالهدّ، والهدّ بدعاء الولد للرحمن. ومرفوعا بأنه فاعل هذا، أى هدها دعاء الولد للرحمن. وفي اختصاص الرحمن وتكريره مرات من الفائدة أنه هو الرحمن وحده، لا يستحق هذا الاسم غيره، من قبل أنّ أصول النعم وفروعها منه: خلق العالمين، وخلق لهم جميع ما معهم، كما قال بعضهم: فلينكشف عن بصرك غطاؤه، فأنت وجميع ما عندك عطاؤه. فمن أضاف إليه ولدا فقد جعله كبعض خلقه وأخرجه بذلك عن استحقاق اسم الرحمن. هو من دعا بمعنى سمى المتعدي إلى مفعولين، فاقتصر على أحدهما الذي هو الثاني، طلبا للعموم والإحاطة بكل ما دعى له ولدا. أو من دعا بمعنى نسب، الذي مطاوعه ما في قوله عليه السلام «من ادعى إلى غير مواليه» وقول الشاعر:
إنّا بنى نهشل لا ندّعى لأب

أى لا ننتسب إليه.

. [سورة مريم: آية 92].

{وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)}.
انبغى: مطاوع (بغى) إذا طلب، أي: ما يتأتى له اتخاذ الولد وما ينطلب لو طلب مثلا، لأنه محال غير داخل تحت الصحة. أما الولادة المعروفة فلا مقال في استحالتها. وأما التبني فلا يكون إلا فيما هو من جنس المتبنى، وليس للقديم سبحانه جنس، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

. [سورة مريم: الآيات 93- 95].

{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْدًا (95)}.
{مَنْ} موصوفة لأنها وقعت بعد كل نكرة، وقوعها بعد رب في قوله:
ربّ من أنضجت غيظا صدره

وقرأ ابن مسعود وأبو حيوة {آتِي الرَّحْمنِ} على أصله قبل الإضافة. الإحصاء الحصر والضبط يعنى: حصرهم بعلمه وأحاط بهم {وَعَدَّهُمْ عَدًّا} الذين اعتقدوا في الملائكة وعيسى وعزير أنهم أولاد اللّه، كانوا بين كفرين، أحدهما: القول بأن الرحمن يصح أن يكون والدا. والثاني: إشراك الذين زعموهم للّه أولادا في عبادته، كما يخدم الناس أبناء الملوك خدمتهم لآبائهم، فهدم اللّه الكفر الأول فيما تقدم من الآيات، ثم عقبه بهدم الكفر الآخر. والمعنى: ما من معبود لهم في السموات والأرض من الملائكة ومن الناس إلا وهو يأتى الرحمن، أي: يأوى إليه ويلتجئ إلى ربوبيته عبدا منقادا مطيعا خاشعا خاشيا راجيا، كما يفعل العبيد وكما يجب عليهم، لا يدعى لنفسه ما يدعيه له هؤلاء الضلال. ونحوه قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ} وكلهم متقلبون في ملكوته مقهورون بقهره وهو مهيمن عليهم محيط بهم وبحمل أمورهم وتفاصيلها وكيفيتهم وكميتهم، لا يفوته شيء من أحوالهم، وكل واحد منهم يأتيه يوم القيامة منفردا ليس معه من هؤلاء المشركين أحد وهم برآء منهم.