فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



كلمة الشهادة {كلا} ردع وتنبيه على الخطأ فيما تصوره لنفسه وتمناه وفي قوله: {سنكتب} بسين التسويف مع أن الحفظة يكتبون ما قاله في الحلل دليل على أن السين جرد هاهنا لمعنى الوعيد، أو أراد سيظهر له نبأ الكتابة بالتعذيب والانتصار يؤيده قوله: {ونمد له} أي نطوّل له {من العذاب} ما يستأهله أمثاله من المستهزئين أو نزيده من العذاب ونضاعف له من المدد. مده وأمده معنى.
ثم أكد المدد بالمصدر وهو مؤذن بفرط الغضب أعاذنا الله منه، ثم عكس استهزاءه بقوله: {ونرثه ما يقول} أي نمنع عنه منتهى ما زعم أنه يناله في الآخرة من المال والولد لأنه تألى على الله في قوله: {لأوتين} ومن يتأل على الله يكذبه لأن ذلك غاية الجراءة ونهاية الأشعبية.
والمراد هب أنا أعطيناه ما اشتهاه أما نرثه منه في العاقبة {ويأتينا} غدًا {فردًا} بلا مال ولا ولد. وكلام صاحب الكشاف في الوجهين ملخبط فليتأمل فيه. وكذا في قوله: {فردًا} على الأول حال مقدرة نحو {فادخلوها خالدين} [الزمر: 73] لأنه وغيره سواء في إتيانه فردًا حين يأتي، ثم يتفاوتون بعد ذلك. وذلك أن الخلود لا يتحقق إلا بعد الدخول، أما انفراده فمحقق في حالة الإتيان وتفاوت الحال بعد ذلك، واشتراك الكل في الإتيان منفردًا لا مدخل له في المقصود فلا أدري ما حمله على هذا التكلف. قال: ويحتمل أن هذا القول: إنما يقوله ما دام حيًا فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله، ويأتينا منفردًا عنه غير قائل له، أو أراد أن هذا القول لا ننساه ولا نلغيه بل نثبته في صحيفته لنضرب به وجهه في الموقف ونعيره به، ويأتينا على فقره ومسكنته فردًا من المال والولد لم نعطه سؤله ومتمناه، فيجتمع عليه خطبان تبعه قوله وفقد سؤله. وحين فرغ من الرد على منكري البعث شرع في الرد على عبدة الأصنام فبين أوّلًا عرضهم وذلك أن يتعززوا بآلهتهم وينتفعون بشفاعتهم، ثم أنكر عليهم وردعهم بقوله: {كلا} ثم أخبر عن مآل حالهم بقوله: {سيكفرون} فإن كان الضمير للمعبودين فهم إما الملائكة كقوله: {قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن} [سبأ: 41] وإما الأصنام فلا يبعد أن ينطق الله الجماد بذلك كقوله: {وألقوا إليهم القول إنهم لكاذبون} [النحل: 86] وإن كان الضمير للعابدين فهو كقوله: {وألقوا إليهم القول إنهم لكاذبون} [النحل: 86] وإن [الأنعام: 23] أما الضمير في {يكونون} فللمعبودين، وقوله: {عليهم} في مقابلة قوله: {لهم عزًا} وضد العز الهوان كأنه قيل: ويكونون عليهم ذلًا لهم عزًا ويحتمل أن يراد بالضد العون لأنه يضاد العدو، ووحد لاتفاق كلمتهم وفرط تضامهم وتوافقهم كقوله صلى الله عليه وسلم: «وهم يد على من سواهم» ومعنا كون الآلهة أضدادًا أي أعوانًا عليهم أنهم وقود النار وأن المشركين عذبوا بسبب عبادتها، ويحتمل أن يكون الضمير في {يكونون} للمشركين أي يكون المشركون كفرة بآلهتهم وأعداء لهم بعد أن كانوا يعبدونها.
وحيث بيّن مذاهب الفرق الضالة أراد أن يبين منشأها فقال: {ألم تر أنا أرسلنا} الآية. والأز الهز والتهييج. قالت: الأشاعرة: في الآية دلالة على أنه تعالى مريد لجميع الكائنات لأن قول القائل: (أرسلت فلانًا على فلان) يفيد أنه سلطه عليه منه قوله صلى الله عليه وسلم: «سم الله وأرسل كلبك عليه» ويؤيده قوله: {تؤزهم} أي تغريهم على المعاصي وتحثهم عليها بالوسواس والتسويلات.
وقالت المعتزلة: أراد بهذا الإرسال التخلية بينهم وبينهم كما إذا لم يمنع الرجل من دخول بيت جيرانه. وحاصل كلامهم أنه أرسل الأنبياء وأرسل الشياطين، ثم خلى بين المكلفين وبين الأنبياء والشياطين إلا أنه خص أولياءه بمزيد الألطاف حتى قبلوا قول الأنبياء، ومنع أعداءه تلك الألطاف وهو المسمى بالخذلان فقبلوا قول الشياطين. ولما كان هذا الإرسال سببًا لهلاك الكفارة عداه ب (على) لا ب (إلى) قلت: لا يخفى أن استناد الكل إلى الله تعالى فنزاع الفريقين لفظيّ أو قريب منه. {فلا تعجل عليهم} يقال: عجلت عليه بكذا إذا استعجل منه أي لا تعجل عليهم بأن يهلكوا فتستريح أنت والمسلمون من شرورهم فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة. قال ابن عباس: نزلت في المستهزئين وهم خمسة رهط. وعنه أنه كان إذا قرأها بكى وقال: آخر العدد خروج نفسك، وآخر العدد فراق أهلك، وآخر العدد دخول قبرك. وعن ابن السماك أنه كان عن المأمون فقرأها فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد. وقال بعضهم:
إن الحبيب من الأحباب مختلس ** لا يمنع الموت بواب ولا جرس

وكيف يفرح بالدنيا ولذتها ** فتى يعد عليه اللفظ والنفس

ثم لما قرر أمر الحشر وأجاب عن شبه منكريه أراد أن يشرح حال المكلفين وقتئذٍ فقال: {يوم نحشر} وانتصابه بمضمر متقدم أو متأخر أي اذكر يوم كذا وكذا ونفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف. ويجوز أن ينتصب ب {لا يملكون} خص المتقون بالجمع إلى محل كرامة الرحمن وافدين. يقال: وفد فلان على الأمير وفادة أي ورد رسولًا فهو وافد والجمع وفد كصاحب وصحب. عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما يحشرون على أرجلهم ولكنهم على نوق رحالهم ذهب وعلى نجائب سروجها ياقوت» وخص المجرمون بالسوق إلى جهنم وردًا أي وهم الذين يردون الماء، وفيه من الإهانة ما فيه كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء. وقال جار الله: حقيقة الورد المسير إلى الماء فسمي به الواردون. قال بعض العلماء: في الآية دلالة على أن أهوال يوم القيامة تختص بالمجرمين لأن المتقين من الابتداء يحشرون على هذا النوع من الكرامة فكيف ينالهم بعد ذلك شدة؟ قلت: يحتمل أن يكون الحشر إلى الرحمن غير الحشر إلى الموقف، فيراد بالحشر إلى الرحمن أي إلى دار كرامته وسوقهم إلى الجنة لقوله: {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرًا} [الزمر: 73] وهذا بعد امتياز الفريقين، فالأمن الكلي فيما بعد هذه الحالة لا ينافي الخوف والدهشة فيما قبلها كما ورد في حديث الشفاعة وغيره. وقوله: {إلى الرحمن} دون أن يقول إلينا من وضع الظاهر موضع المضمر، وفيه من البشارة ما فيه ولا يلزم منه التجسم للتأويل الذي ذكرناه، والضمير في {لا يملكون} للمكلفين المذكورين بقسمهم وفاعله {من اتخذ} على البدلية لأنه في معنى الجمع.
ويجوز أن تكون الواو علامة للجمع كالتي في (أكلوني البراغيث) فيكون {من اتخذ} فاعلًا والاستثناء مفرغًا. ويجوز أن ينتصب {من اتخذ} على الاستثناء أو على تقدير حذف المضاف أي إلا شفاعة. من اتخذه واختلف المفسرون في الشفاعة فقيل: لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم. وقيل: لا يملك غيرهم أن يشفعوا لهم. واتخاذ العهد الاستظهار بالأيمان والعمل، أو بكلمة الشهادة وحدها والأول يناسب أصول المعتزلة، والثاني يناسب أصول الأشاعرة. وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم: «أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدًا قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يقول كل صباح ومساء: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، إني أعهد إليك في هذه الحياة بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك له وأن محمدًا عبدك ورسولك فلا تكلني إلى نفسي فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدًا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد، فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع ووضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الذي لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنة» ويجوز أن يكون من عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به أي لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة المأذون له فيها كقوله: {وكم من ملك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئًا إلا من بعد أن يأذن الله} [النجم: 26].
وحين رد على عبدة الأوثان عاد إلى الرد على من أثبت له ولدًا من اليهود والنصارى والعرب، ومنهم من خص الآية بالرد على العرب القائلين بأن الملائكة بنات الله لأن الرد على النصارى تقدم في أول السورة. وفي قوله: {لقد جئتم} التفات من الغيبة إلى المخاطبة تسجيلًا عليهم بالجراءة والتعرض لسخطه. والأد الأمر العجيب أو المنكر، والتركيب يدل على الشدة والثقل ومنه أدت الناقة تؤد إذا رجعت الحنين في جوفها. ويقال: فطره بالتخفيف إذا شقه، ومطاوعه انفطر وبالتشديد للتكثير، ومطاوعه تفطر وهذا البناء للتكثير. وانتصب {هذا} إما على المصدر لأن الخرور في معناه، وإما لأن التقدير يهد هدًا، أو على الحال أي مهدودة، أو على العلة أي لأنها تهد. ومحل {أن دعوا} إما مجرور بدلًا من الهاء في {منه} وإما منصوب بنزع الخافض أي هدًّا لأن دعوا، علل الخرور بالهد والهد بالدعاء، وإما مرفوع بأنه فاعل هد أي هدها الدعاء، وخير الوجوه أوسطها كما في الوقوف والدعاء.
أما بمعنى التسمية فيكون المفعول الأول متروكًا طلبًا للعموم والإحاطة بكل ما دعي ولدًا له، وإما بمعنى النسبة أي نسبوا إلى الرحمن ولدًا. {وما ينبغي} لا يصح ولا يستقيم وهو في الأصل مطاوع بغى إذا طلب، وإنما لا يصير مطلوبًا لأنه محال. أما الولادة المعروفة فلا مقال في استحالتها، وأما التبني فلأن القديم لا جنس له حتى يميل طبعه إليه ميل الوالد إلى الولد لمن أضاف إليه ولدًا فقد جعله كبعض خلقه وأخرجه بذلك عن استحقاق اسم الرحمن المختص به، فليس أصول النعم وفروعها إلا منه كما قيل: لينكشف عن بصرك غطاؤه فأنت وجميع ما عندك عطاؤه، وهذا من فوائد تكرير هذا الاسم في هذا المقام.
سؤال: كيف تؤثر هذه الكلمة في الجمادات حتى تنفطر وتنشق وتخر؟ أجيب بأنه سبحانه كأنه يقول: كدت أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند دعائهم الولد لي غضبًا مني على من تفوّه بها لولا حلمي، أو هو تصوير لأثر هذه الكلمة في الدنيا، أو المراد أن هذا الاعتقاد يوجب أن تكون هذه الأجرام على ما ترى من النظام كقوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] وقال أبو مسلم: أراد أن هذه الأجرام كانت ممن يعقل كادت تفعل ذلك. ثم بين أن العابدين والمعبودين في السموات أو في الأرضين كلهم تحت قهره وتسخيره في الدنيا وفي الآخرة وأنه محيط بجهل أحوالهم وتفاصيلها فقال: {إن كل} {إن} نافية أي ليس فرد من أفراد الخلائق {إلا أتى الرحمن} إلا وهو ملتجىء إلى ربوبيته مقر بعبوديته. ثم أجمل حال المؤمنين بما لا مزيد عليه في باب الكرامة قائلًا {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًّا} أي سيحدث لهم في القلوب مودّة من غير ما سبب من الأسباب المعهودة كقرابة أو اصطناع وذلك كما يقذف في قلوب أعدائهم الرعب. والسين إما لأن السورة مكية وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله المودة بين الناس عند إظهار الإسلام، وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: «يا عليّ قل اللَّهم اجعل لي عندك عهدًا واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة»، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعن ابن عباس: يعني يحبهم الله ويحببهم إلى خلقه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل: «يا جبرائيل قد أحببت فلانًا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في أهل السماء: إن الله قد أحب فلانًا فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض» وعن قتادة: ما أقبل العبد إلى الله عز وجل إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه.
وعن كعب قال: مكتوب في التوراة: لا محبة لأحد في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله تعالى ينزلها على أهل السماء ثم على أهل الأرض، وتصديق ذلك في القرآن {سيجعل لهم الرحمن ودًّا} هذا قول جمهور المفسرين. وعن أبي مسلم أن المراد أنه سهب لهم في الجنة ما يحبون، واستعمال المصدر بمعنى المفعول كثير. وإنما صار إلى هذا القول لأن المسلم التقي يبغضه الكفار وقد يبغضه المسلمون أكثرهم، وقد يحصل مثل هذه المحبة للكفار والفساق فيكونون مرزوقين بميل الناس إلى اختلاطهم ومحبتهم فكيف يمكن جعله إنعامًا في حق المؤمنين. وأيضًا إن محبتهم في قلوبهم من فعلهم لا من فعل الله، فحمل الكلام على إعطاء المنافع به أولى. وأجيب بأن المراد محبة الملائكة والأنبياء والصالحين ومثل هذه لا تحصل للكافر والفاسق، وبأنه محمول على فعل الألطاف وخلق داعية إكرامه في قلوبهم. ثم عظم شأن ما في هذه السورة من التوحيد والنبوة وبيان الحشر والرد على الفرق الضالة قائلًا: {فإنما يسرناه} كأنه قال: بلغ هذا المنزل أو بشر به وأنذر فإنما أنزلناه بلسانك أي بلغتك وسهلناه وفصلناه لتبشر به وتنذر. واللد جمع الألد الشديد الخصومة بالباطل كقوله في البقرة {وهو ألد الخصام} [البقرة: 204] يريد أهل مكة. ثم ختم السورة بما هو غاية في الإنذار ونهاية في التخويف لأنبائه عن انقضاء القرون الخالية بالفناء أو بالإفناء بحيث لم يبق منهم شخص يرى ولا صوت يسمع فيعلم منه أن مآل الباقين أيضًا إلى ذلك فيجتهدوا في تحصيل الزاد للمعاد ولا يصرفوا همتهم إلى ما هو بصدد الزوال والنفاد. والركز الصوت الخفي وركز الرمح تغيب طرفه في الأرض والركاز المال المدفون. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

{فخلف من بعدهم}.
ولما وصف سبحانه وتعالى هؤلاء الأنبياء بصفة المدح ترغيبًا لنا في التأسي بهم ذكر بعدهم من هو بالضدّ منهم فقال: {فخلف من بعدهم} أي: في بعض الزمان الذي بعد هؤلاء الأصفياء سريعًا {خلف} في غاية الرداءة من أولادهم يقال خلفه إذا عقبه خلف سوء بإسكان اللام والخلف بفتح اللام الصالح كما قالوا وعد في ضمان الخير ووعيد في ضمان الشر وفي الحديث: «في الله خلف من كل هالك» وفي الشعر:
ذهب الذي يعاش في أكنافهم ** وبقيت في خلف كجلد الأجرب

وقال السدي: أراد بهم اليهود ومن لحق بهم وقال قتادة: في {أضاعوا الصلاة} تركوا الصلاة المفروضة، وقال ابن مسعود وإبراهيم: أخروها عن وقتها، وقال سعيد بن المسيب: هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر ولا يصلي العصر حتى تغرب الشمس. {واتبعوا الشهوات} أي: المعاصي قال ابن عباس: هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمور واستحلوا نكاح الأخت من الأب، وقال مجاهد: هؤلاء قوم يظهرون في آخر الزمان ينزو بعضهم على بعض في الأسواق والأزقة {فسوف يلقون غيًا} وهو كما قال وهب وابن عباس: واد في جهنم بعيد قعره تستعيذ منه أوديتها كما رواه الحاكم وصححه، وقيل: هو الخسران وقيل هو الشر كقول القائل:
فمن يلق خيرًا يحمد الناس أمره ** ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما

على الغيّ متعلق بلائمًا وقيل: يلقون جزاء الغي كقوله يلق أثامًا أي: مجازاة الآثام.
تنبيه:
قوله تعالى: يلقون ليس معناه يرون فقط بل معناه الاجتماع والملابسة مع الرؤية. ولما أخبر تعالى عن هؤلاء بالخيبة فتح لهم باب التوبة وحداهم إلى غسل هذه الحوبة بقوله: {إلا من تاب} أي: مما هو عليه من الضلال وبادر بالأعمال وحافظ على الصلوات وكف نفسه عن الشهوات {وآمن} بما أخذ عليه به العهد {وعمل} بعد إيمانه تصديقًا له {صالحًا} من الصلوات والزكوات وغيرها {فأولئك} العالو الهمم الطاهرو الشيم {يدخلون الجنة} التي وعد المتقون {ولا يظلمون} من ظالم ما {شيئًا} من أعمالهم. فإن قيل: الاستثناء دل على أنه لابد من التوبة والإيمان والعمل الصالح وليس الأمر كذلك لأنّ من تاب عن كفره ولم يدخل وقت الصلاة أو كانت المرأة حائضًا فإنه لا يجب عليهم الصلاة والزكاة أيضًا غير واجبة وكذلك الصوم فهذا لو مات في ذلك الوقت كان من أهل النجاة مع أنه لم يصدر منه عمل فلم يجز توقف الأجر على العمل الصالح؟
أجيب بأنّ هذه الصورة نادرة والأحكام إنما تناط بالأعمّ الأغلب.
تنبيه:
في هذا الاستثناء وجهان قال ابن عادل أظهرهما: أنه متصل وقال الزجاج: هو منقطع وهذا بناءً منه على أنّ المضيع للصلاة من الكفار ووافق الزجاج الجلال المحلي. ولما ذكر تعالى في التائب أنه يدخل الجنة وصفها بأمور أحدها قوله تعالى: {جنات عدن} أي: إقامة لا يظعن عنها بوجه من الوجوه وصفها بالدوام على خلاف وصف الجنان في الدنيا التي لا تدوم ثم بيّن تعالى أنها {التي وعد الرحمن عباده} الذين هو أرحم بهم وقوله: {بالغيب} فيه وجهان؛ أحدهما: أنّ الباء حالية وفي صاحب الحال احتمالان؛ أحدهما: ضمير الجنة وهو عائد الموصول أي: وعدها وهي غائبة عنهم لا يشاهدونها، والثاني: عباده أي: وهم غائبون عنها لا يرونها إنما آمنوا بها بمجرّد الأخبار منه. والوجه الثاني: أنّ الباء سببية أي: بسبب تصديق الغيب وسبب الإيمان به ولما كان من شأن الوعود الغائبة على ما يتعارفه الناس بينهم احتمال عدم الوقوع بيّن أنّ وعده ليس كذلك بقوله تعالى: {إنه كان} أي: كونًا هو سنة ماضية {وعده مأتيًا} أي: مقصودًا بالفعل فلابد من وقوعه فهو كقوله إن كان وعد ربنا لمفعولا ثانيها قوله تعالى: {لا يسمعون فيها لغوًا} وهو فضول الكلام وما لا طائل تحته وفيه تنبيه ظاهر على تجنب اللغو واتقائه حيث نزه الله تعالى عنه الدار الآخرة التي لا تكليف فيها، وقد مدح الله تعالى أقوامًا بقوله: {وإذا مرّوا باللغو مرّوا كرامًا} [الفرقان].