فصل: مطلب في عصمة الأنبياء ووقتها فيهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب في عصمة الأنبياء ووقتها فيهم:

واعلم أن خبط القول فيها على ما قاله الإمام فخر الدين الرازي يرجع إلى أربعة أقسام: الأول ما يقع في باب الاعتقاد وهو اعتقاد الكفر والضلال فإن ذلك غير جائز في حقهم البتة.
الثاني ما يقع بالتبليغ فكذلك ممتنع في حقهم حتى الخطأ والنسيان فضلا عن التعمد على الصحيح، لأن الآية أجمعت على عصمتهم من الكذب ومواظبتهم على التبليغ والتحريض، والا لارتفع الوثوق بالأداء واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمدا ولا سهوا ولا خطأ ولا نسيانا، ومن الناس من جوز سهوا لأن الاحتراز منه غير ممكن وليس بشيء ولا عبرة ولا قيمة له.
الثالث ما يقع بالفتيا فقد أجمعوا أيضا على أنه لا يجوز قطعا خطاهم فيها ونسيانهم وسهوهم سواء، فعدم جواز العمد من باب أولى، وما أجازه بعضهم على طريق السهو لا صحة له، لأن الفتيا من قسم التبليغ بالنسبة إليهم، إذ لا فرق في وجوب اتباعهم في أفعالهم وأقوالهم.
الرابع ما يقع من أفعالهم.
قال الإمام الفخر والمختار عندنا أهل السنة والجماعة أنه لم يصدر منهم ذنب لا صغيرة ولا كبيرة من حين تنبأهم، لأن الذنب لو صدر عنهم لكانوا أقل درجة من أحد الأمة، إذ قد يجوز حفظ البعض منها من اقتراف الذنب واسناد هذا إليهم غير جائز، لأن درجتهم غاية في الرفعة والشرف، ولو جاز صدوره منهم لأدى إلى عدم قبول شهادتهم، ولوجب الافتداء بهم فيما صدر منهم وهو محال، فيكونون وحاشاهم أقل حالا من عدول الأمة، وهذا أيضا غير جائز، لأن معنى النبوة والرسالة أن يشهد على اللّه أنه شرع هذا الحكم مثلا، وهو يوم القيامة شاهد على الكل، راجع الآية 40 من سورة النساء والآية 89 من سورة النحل تجد ما يتعلق في هذا البحث مفصلا، وهذا ما عليه اجماع أهل السنة والجماعة، أما ما قاله بعض المعتزلة بجواز صدور الكبائر منهم، وما قاله بعضهم بمنع الكبائر وجواز صدور الصغائر منهم فقط على جهة العمد فلا عبرة به إذ لا مستند لهم به من الكتاب والسنة، فضلا عن أنه مخالف لهما فضلا عن عدم اتفاقهم عليه، لأن منهم الجبائي قال بعدم جواز صدور الكبيرة والصغيرة منهم موافقا لقول أهل السنة والجماعة، إلا أنه زاد إلا على جهة التأويل كما وقع لآدم عليه السلام من أكل الشجرة على أنها غير المنهي عنها إما لمظنّة الخلد وإما لملك، ومنهم من جوز وقوعها سهوا وخطأ لا فرق عنده بين الكبيرة والصغيرة، ومنهم من منع وقوع الكل سهوا وخطأ وتأويلا، وهو قال الشيعة، فاذا علمت هذا فاعلم أنه قد ثبت ببديهة العقل أن لا شيء أقبح بمن رفع اللّه درجته وأعلى مقامه وائتمنه على وحيه، وجعله خليفة في عباده وبلاده، يسمع ربه يناديه لا تفعل كذا فيقدم عليه ويفعله ترجيحا لغرضه.
واجتمعت الأمة على أن الأنبياء كانوا يأمرون الناس بطاعة اللّه، فلو لم يطيعوه هم لدخلوا تحت قوله تعالى {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} الآية 44 من سورة البقرة، وقد قال تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام {وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ} الآية 88 من سورة هود، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ} الآية 90 من سورة الأنبياء واللفظ للعموم فيتناول الكل ويدل على ما ينبغي فعله وترك ما ينبغي تركه، فثبت لك من هذا ومما سيأتي في تفسير الآيات الآنفة الذكر أن الأنبياء كلهم فاعلون لكل خير تاركون كل شر، وهذا ينافي صدور الذنب منهم، كيف وقد قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} الآية 55 من سورة الحج، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ} الآية 33 من آل عمران ج 3 وقال في حق موسى {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي} الآية 143 من الأعراف المارة وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ} الآيات 46 فما بعدها من سورة ص المارة وهذه الأدلة القاطعة تدل على وصفهم بالاصطفاء والأخيرية صراحة وذلك كله ينافي اقتراف الذنب مهما كان بعد النبوة لا عمدا ولا سهوا ولا نسيانا ولا خطأ قال في بدء الأمالي:
وان الأنبياء لفي أمان ** عن العصيان عمدا وانعزال

وأن من خالف هذا الإجماع وتمسك بظاهر بعض الآيات كالآية المفسرة وقال بصدور الذنب منهم على طريق التأويل أو غيره فإن كلامه إنما يتم إذا أثبت بالدلائل أن ما وقع من آدم عليه السلام كان حال النبوة أو بعدها، وذلك محال قطعا لا دليل فيه ولا حجة له البته حتى لا يوجد نقل صحيح يستند إلى دليل والقاعدة إذا كنت ناقلا فصحة النقل، وإلا فكلامك مردود عليك.
وإذا كان كذلك وهو كذلك فلم لا تقول إن ما وقع من آدم كان قبل النبوة، وأن اللّه تعالى قبل توبته وشرّفه بالنبوة والرسالة، فتطمئن وتنفي الشك من النفوس الخبيثة وتروضها على الطهارة والفضيلة وتنزه الأنبياء العظام عما لا يليق بمكانتهم، فتحصل رضاء اللّه تعالى، لأن رضاء الأنبياء في رضائه، ولا توقع نفسك بسبب الوهم والشك بالهلاك بسبب ما تصمهم به مما ليس فيهم، فتستوجب سخط اللّه باختيارك ورضاك؟ قال القاضي عياض قد أخبر اللّه بعذره فقال: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} أي نسي عداوة إبليس له فقبل نصحه ونسي ما عهد إليه بشأنها وشأن الشجرة ولم ينو المخالفة ولم يستعملها، ولكنه اغتر بحلف إبليس وظن أن أحدا لا يحلف باللّه كذبا وتأول أن المأكول منها غير المنهي عنها وإذا قلت حينئذ {وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى} وما تكرر في القرآن والحديث من اعتراف الأنبياء بذنوبهم وتوبتهم واستغفارهم وإشفاقهم وبكائهم على ما سلف منهم، فلو لم يكن لهم ذنوب فكيف يتوبون ويستغفرون، فأقول بما أن درجة الأنبياء في الرفعة والعلوّ والمعرفة باللّه وسنة عباده وعظيم سلطانه وقوة بطشه مما يحملهم على شدة الخوف منه جل جلاله أو الإشفاق من المؤاخذة بما لا يؤاخذ به غيرهم، وأن تصرفهم بأمورهم ما لم ينهوا عنه ولم يؤمروا به وقد أتوه على وجه التأويل والسهو، وقد تزودوا من الدنيا وأمورها المباحة، فأوخذوا عليها وعوتبوا بسببها أو حذروا من المؤاخذة بها، فهم خائفون وجلون على أنها تسمى ذنوبا بالإضافة إلى سمو منصبهم وعلو مكانتهم، ومعاص بالنسبة لكمال طاعتهم وتمام انقيادهم إلى ربهم، لأنها ذنوب كذنوب غيرهم التي يأتونها رغبة بلا تأويل، وحاشاهم من ذلك، وحاشاهم مما هنا لك.
هذا، وقد اختلف في وقت العصمة: قالت الشيعة إنهم معصومون من وقت الولادة، وقالت المعتزلة من وقت البلوغ، وقال أهل السنة والجماعة من وقت النبوة، وقال بهذا القول الهزيل واليافعي من المعتزلة، وهذا هو قول الحق الوسط وخير الأمور أوساطها {قالَ} لآدم وزوجته حواء بعد أن انتهى أمد مكثهما في الجنة وحان أمر إقامتهما في الدنيا على أثر ما وقع منهما {اهْبِطا مِنْها جَمِيعًا} انحدروا إلى الأرض لأن الهبوط معناه الانحدار من العلو إلى السفل على طريق القهر كهبوط الحجر، وإذا استعمل في الإنسان فعلى طريق الاستخفاف به {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} بالتحاسد في الدنيا والاختلاف بالدين وفي أمر المعاش وإنما جمع ضمير بعضكم مع أن الخطاب لآدم وحواء فقط لأن العداوة نشأت في ذريتهما لا فيهما، وما قيل أن الخطاب لهما ولإبليس ينافيه قوله تعالى {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} من كتاب ورسول وهذا الهدى إلى ذريتهما لأن إبليس مقطوع بعدم هدايته وعدم إتيان الهدى إليه بكتاب أو رسول، لأن اللّه تعالى حذر رسله منه وأمرهم أن يحذروا أممهم منه {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ} من كافة خلقي {فَلا يَضِلُّ} في دنياه {وَلا يَشْقى} 123 بآخرته وإبليس محروم ومقطوع له بالشقاء بالدنيا ومجزوم بعذابه في الآخرة، قال ابن عباس: من قرأ القرآن واتبع ما فيه فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
ولهذا البحث صلة في الآية 34 فما بعدها من سورة البقرة، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} أي الكتاب المعبر عنه بالهدى الذي فيه ذكره، وأعرض عن الرسول المذكر به {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً} في هذه الدنيا {ضَنْكًا} ضيّقة وضنك وصف يستوي فيه المذكر والمؤنث، قال ابن عباس كل ما أعطي لعبد في هذه الدنيا قل أو كثر ولم يتق فيه فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة، وإن قوما أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة في الدنيا مكثرين فكانت معيشتهم ضنكا لأنهم يرون أن اللّه ليس بمخلف عليهم ما ينفقونه، وينسون ما أنعمه عليهم ابتداء وقد ولدتهم أمهاتهم مجرّدين فاشتدت عليهم معايشهم من سوء ظنهم باللّه.
وقال ابن جبير: يسلبه القناعة حتى لا يشبع فمع الدين التسليم والقناعة والتوكل فتكون حياتهم طيبة، ومع الاعراض الحرص والشح فعيشته ضنك، وحالته مظلمة، كما قال بعض الصوفية لا يعرض أحدكم عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته، وتشوش عليه رزقه ولهذا قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى} 124 فاقد البصر لأنه يحشر على وجهه فلا يرى ببصره ما يراه غيره، لأنه منكوس، وإلا فإن اللّه تعالى يعيد للأعمى بصره يوم القيامة، وكذلك مقطوع اليد والرجل وغيرها من القلعة بحيث يحشر كاملا كما ولد، ونظير هذه الآية الآية 32 من سورة الفرقان المارة والآية 97 من سورة الإسراء الآتية، قال بعض المفسرين فاقد الحجة جاهل بوجود الحق كما كان في الدنيا إذ يطلق على الجاهل في الأمر أعمى لأنه لا يعرف المخلص مما يقع فيه، كما أن الأعمى لا يعرف الطريق إلى مبتغاه، قال عليه الصلاة والسلام من لا يعرف اللّه في الدنيا لا يعرفه في الآخرة، إلا أن سياق الآية يؤيد التفسير الأول لموافقته لظاهرها وعليه المعول إذ لا يعدل عن الظاهر إلا عند إمكان التفسير به {قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى} اليوم في الآخرة {وَقَدْ كُنْتُ} في الدنيا {بَصِيرًا} {قالَ كَذلِكَ} مثل ما فعلت بنا في الدنيا فعلنا بك في الآخرة حيث {أَتَتْكَ آياتُنا} فيها {فَنَسِيتَها} ولم تعمل بها ولم تتبع من أتاك بها {وَكَذلِكَ} مثل نسيانك هذا لآياتنا في الدنيا {الْيَوْمَ تُنْسى} 126 في الآخرة من خيرنا، ولهذا حرمناك الآن نعمة النظر فيها جزاء وفاقا، فتركك الآن على عماك الذي كنت عليه في الدنيا لأنك لم تستعمل نعمة النظر فيها بآياتنا ومكوناتنا، فتعتبر وتؤمن بل حرفتها لغير ذلك {وَكَذلِكَ} مثل هذا الجزاء الواقع بالمقابلة {نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} في دنياه ولم يستعمل جوارحه فيما خلقت لها بل صرفها إلى المعاصي ولم ينتفع بالنعم التي خلقت لها {وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ} أما من آمن بها واستعمل جوارحه وحواسّه فيما خلقت لها، فأولئك لم ننسهم من الرحمة ولم نحرمهم من الخير، بل نرفعهم إلى الدرجات العلى مثل السحرة المار ذكرهم في الآية (70) من الأعراف والآية 73 من هذه السورة {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى} 127 من عذاب الدنيا وأعظم مهما رأيتموه شديدا، وأدوم لأن عذاب الدنيا له نهاية ولا نهاية لعذاب الآخرة فضلا عن فظاعته التي لا تكيف، فان قلت قد ورد: وإن اللّه تعالى يري الكافر مقعده في الجنة ثم يدخله النار ليزداد عذابا على عذابه وحسرة على حسرته، فمن يحشر أعمى لا يرى ذلك فيكون بحقه أقل عذابا وحسرة، قلت لأن اللّه تعالى يرد عليه بصره حتى يريه مقعده ذلك، ثم يسلبه منه، وكذلك الأصم والأبكم، قال تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} أي لا أسمع ولا أبصر منهم يوم يأتونه، راجع الآية 38 من سورة مريم المارة والآية 3، من سورة الكهف، وقال ابن عباس إن الكافر يحشر أولا بصيرا ثم يعمى، فيكون الإخبار بأنه كان بصيرا إخبارا مما كان عليه أول حشره، لأنه لو لم يردّ عليه بصره كيف يقرأ كتابه؟ كما يأتي في الآية 14 من الإسراء الآتية، ولا يخفى أن ذلك اليوم يوم طويل تختلف فيه أحوال الكفار فمرة يجادلون وأخرى يشكون، وطورا يعمون، وتارة يبصرون أجارنا اللّه من ذلك، قال تعالى ملتفتا إلى كفار مكة {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} وقرىء بالنون أي ألم يبين لهم هذا القرآن {كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} الماضية وهم الآن {يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ} إذا سافروا للشام إذ يمرون بالحجر ديار ثمود وقريات قوم لوط ولا يتفكرون فيما كان عليهم أهلها، وكيف صار تدميرهم، وسببه {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ} واضحات موجبة للاعتبار {لِأُولِي النُّهى} 128 العقول السليمة يتعظون بها حيث كانوا أكثر منهم أموالا وأولادا وقوة، فلما عصوا رسلهم أهلكهم اللّه {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} وهي الوعد بتأخير العذاب ليؤمن من يؤمن منهم ويصر من يصر على كفره وفق ما هو مقدر في الأزل بالتقدير المبرم الذي لا يبدل ولا يقدم ولا يؤخر {لَكانَ لِزامًا} حتما نزوله بهم حالا لا ينفك عنهم أبدا، وكلمة لزام لم تكرر في القرآن إلا هنا وآخر سورة الفرقان، وهي بمعنى لازم وصف به للمبالغة، وهكذا يؤتى بالمصادر بدل اسم الفاعل بقصد المبالغة {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} 129 بالرفع عطف على كلمة في {ولولا كلمة} أي لولا كلمة سبقت بتأخير عقوبتهم وضرب أجل لوقوعها اما بانقضاء أعمارهم أو بحلول يوم القيامة لما تأخر عنهم العذاب، بل لنزل بهم حالا، ولكن حال دون ذلك تلك الكلمة والأجل اللذان لا يتبدلان، وهنا فيه المقدم والمؤخر وفيه مظنة الغلط لمن لا يعلم ذلك، وهو من أنواع البديع المستحسن وجوده في الكلام البليغ الفصيح، قال تعالى مخاطبا رسوله صلى اللّه عليه وسلم {فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ} فيك وفي كتابك وربك، إلى أن يأتي ذلك الوقت المقدر لإيقاع العذاب فيهم في الدنيا، وسترى عذابهم الأكبر يوم القيامة {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى} 130 هذه الآية والتي بعدها نزلتا في المدينة، ولهذا فسرت بالصلوات الخمس، فصلاة الصبح قبل طلوع الشمس، والعصر قبل غروبها، وآناء الليل أول ساعاته المغرب والعشاء، وأطراف النهار صلاة الظهر، لأنها تدخل أول الزوال وهو انتهاء طرف النصف الأول وابتداء طرف النصف الثاني وهي بينهما، لذلك قال وأطراف النهار، وقرىء ترضى بضم التاء أي تعطى الثواب الذي يرضيك به ربك، وبالفتح ترضى ما يعطيكه من الثواب وترضي نفسك بالشفاعة بالآخرة وبالظفر وانتشار دعوتك بالدنيا، والآناء جمع أني وهو الوقت، ولذلك فسر بالساعات في قوله تعالى: {غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ} الآية 54 من سورة الأحزاب، أي وقته قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} فتطيل النظر بها إعجابا واستحسانا وتمنّيا يا حبيبي {إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجًا مِنْهُمْ} من قومك وغيرهم بالأموال والرياش والأثاث والأنعام والأولاد وغيره، لأن ذلك لا قيمة له عندنا ولذلك لم نزودك منه لكونه {زَهْرَةَ} أي بهجة وزينة وزخرف {الْحَياةِ الدُّنْيا} الفانية بما فيها لأنه من جملة الغرور الذي حذرناك منه، ولذلك لم نجعل لك ميلا إليها لانها ليست بشيء يركن اليه، وإنا إنما أعطيناهم ذلك {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لا لغير ذلك، بل نريد أن نمتحنهم ونختبرهم ابتلاء من عندنا ليزدادوا إثما بكفرانها فيستوجبوا العذاب الشديد {وَرِزْقُ رَبِّكَ} الذي رزقه في الدنيا بالنسبة لما بترتب عليه من الثواب في الآخرة وما أنعم به عليك من النبوة والرسالة وما وعدك به من فتح البلاد وإرشاد العباد، وانقياد الأمم للإيمان بك، وما أدخره لك من الأجر لقاء دعوتك لهم وصبرك على أذاهم، وقناعتك بالقناعة من الرزق، وتجملك يحسن الخلق ولين الجانب {خَيْرٌ} لك مما أعطيناهم من النعم الدنيوية التي لا قيمة لها مهما كانت كثيرة {وَأَبْقى} 131 أدوم لأن ما أعطاكه باق لا يزول في الدنيا والآخرة، وما أعطيناهم فان معذبون عليه فيهما، هذا، والدليل على نزول هاتين الآيتين في المدينة ما قاله أبو رافع نزلت هذه الآية حينما نزل ضيف برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبعثني إلى يهودي استلف منه له دقيقا فلم يفعل إلا برهن، فأرسل معي درعه الحديدي فرهنته عنده، وقال صلى اللّه عليه وسلم: «واللّه لئن باعني أو أسلفني لقضيته وإني لأمين في السماء وأمين في الأرض» لأن مكة لا يهود فيها.