فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأمال أبو عمرو وأبو إسحاق الهاء وفتحا الطاء.
وأمالهما جميعًا أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش.
وقرأهما أبو جعفر وشيبة ونافع بين اللفظين، واختاره أبو عبيد.
الباقون بالتفخيم.
قال الثعلبي: وهي كلها لغات صحيحة فصيحة.
النحاس: لا وجه للإمالة عند أكثر أهل العربية لعلتين: إحداهما أنه ليس ها هنا ياء ولا كسرة فتكون الإمالة؛ والعلة الأخرى أن الطاء من الحروف الموانع للإمالة، فهاتان علتان بينتان.
قوله تعالى: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} وقرئ {مَا نُزِّلَ عَلَيكَ الْقُرْآنُ لِتَشْقَى}.
قال النحاس: بعض النحويين يقول هذه لام النفي، وبعضهم يقول لام الجحود.
وقال أبو جعفر: وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول: إنها لام الخفض، والمعنى ما أنزلنا عليك القرآن للشقاء.
والشقاء يمدّ ويقصر.
وهو من ذوات الواو.
وأصل الشقاء في اللغة العناء والتعب، أي ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب.
قال الشاعر:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

فمعنى لتشقى: لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا؛ كقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ} [الكهف: 6] أي ما عليك إلا أن تبلغ وتُذكِّر، ولم يُكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة بعد أن لم تفرّط في أداء الرسالة والموعظة الحسنة.
وروي أن أبا جهل بن هشام لعنه الله تعالى والنضر بن الحارث قالا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك شقيّ لأنك تركت دين آبائك؛ فأريد ردّ ذلك بأن دين الإسلام وهذا القرآن هو السلم إلى نيل كل فوز، والسبب في درك كل سعادة، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها.
وعلى الأقوال المتقدّمة أنه عليه الصلاة والسلام صلى بالليل حتى اسَمغدَّت قدماه؛ فقال له جبريل: أبق على نفسك فإن لها عليك حقًا؛ أي ما أنزلنا عليك القرآن لتنهك نفسك في العبادة، وتذيقها المشقة الفادحة، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة.
قوله تعالى: {إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يخشى} قال أبو إسحاق الزجاج: هو بدل من {تشقى} أي ما أنزلناه إلا تذكرة.
النحاس: وهذا وجه بعيد؛ وأنكره أبو عليّ من أجل أن التذكرة ليست بشقاء، وإنما هو منصوب على المصدر، أي أنزلناه لتذكِّر به تذكرة، أو على المفعول من أجله، أي ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به، ما أنزلناه إلا للتذكرة.
وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير، مجازه: ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن يخشى، ولئلا تشقى.
{تَنزِيلًا} مصدر؛ أي نزّلناه تنزيلًا.
وقيل: بدل من قوله: {تذكِرة}.
وقرأ أبو حيوة الشامي {تنزِيل} بالرفع على معنى هذا تنزِيل.
{مِّمَّنْ خَلَق الأرض والسماوات العلى} أي العالية الرفيعة، وهي جمع العُليَا؛ كقوله: كُبْرى وصُغرى وكُبَر وصُغَر؛ أخبر عن عظمته وجبروته وجلاله ثم قال: {الرحمن عَلَى العرش استوى} ويجوز النصب على المدح.
قال أبو إسحاق: الخفض على البدل.
وقال سعيد بن مسعدة: الرفع بمعنى هو الرحمن.
النحاس: يجوز الرفع بالابتداء، والخبر {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} فلا يوقف على {استوى} وعلى البدل من المضمر في {خلق} فيجوز الوقف على {اسْتَوَى}.
وكذلك إذا كان خبر ابتداء محذوف؛ ولا يوقف على {العُلاَ}.
وقد تقدم القول في معنى الاستواء {في الأعراف}.
والذي ذهب إليه الشيخ أبو الحسن وغيره أنه مستوٍ على عرشه بغير حَدٍّ ولا كَيْفٍ، كما يكون استواء المخلوقين.
وقال ابن عباس: يريد خلق ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة وبعد القيامة.
{لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى} يريد ما تحت الصخرة التي لا يعلم ما تحتها إلا الله تعالى.
وقال محمد بن كعب: يعني الأرض السابعة.
ابن عباس: الأرض على نون، والنون على البحر، وأن طرفي النون رأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش؛ والبحر على صخرة خضراء خضرة السماء منها، وهي التي قال الله تعالى فيها: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات أَوْ فِي الأرض} [لقمان: 16]؛ والصخرة على قرن ثور، والثور على الثرى، ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله تعالى.
وقال وهب بن منبه: على وجه الأرض سبعة أبحر، والأرضون سبع، بين كل أرضَين بحر، فالبحر الأسفل مطبق على شفير جهنم، ولولا عِظمه وكثرة مائة وبرده لأحرقت جهنم كل من عليها.
قال: وجهنم على متن الريح، ومتن الريح على حجاب من الظلمة لا يعلم عظمه إلا الله تعالى، وذلك الحجاب على الثرى، وإلى الثرى انتهى علم الخلائق. اهـ.

.قال أبو حيان:

{طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)}.
هذه السورة مكية بلا خلاف، كان عليه السلام يراوح بين قدميه يقوم على رجل فنزلت قاله عليّ.
وقال الضحاك: صلّى عليه السلام هو وأصحابه فأطال القيام لما أنزل عليه القرآن، فقالت قريش: ما أنزل عليه إلاّ ليشقى.
وقال مقاتل: قال أبو جهل والنضر والمطعم: إنك لتشقى بترك ديننا فنزلت.
ومناسبة هذه السورة لآخر ما قبلها أنه تعالى لما ذكر تيسير القرآن بلسان الرسول صلى الله عليه وسلم أي بلغته وكان فيما علل به قوله: {لتبشر به المتقين وتنذر به قومًا لدًا} أكد ذلك بقوله: {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلاّ تذكرة لمن يخشى} والتذكرة هي البشارة والنذارة، وإن ما ادعاه المشركون من إنزاله للشقاء ليس كذلك بل إنما نزل تذكرة، والظاهر أن طه من الحروف المقطعة نحو: يس وألر وما أشبههما، وتقدم الكلام على ذلك في أول البقرة.
وعن ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة: معنى {طه} يا رجل.
فقيل بالنبطية.
وقيل بالحبشية.
وقيل بالعبرانية.
وقيل لغة يمنية في عك.
وقيل في عكل.
وقال الكلبي: لو قلت في عك يا رجل لم يجب حتى تقول {طه}.
وقال السدّي معنى {طه} يا فلان.
وأنشد الطبري في معنى يا رجل في لغة عك قول شاعرهم:
دعوت بطه في القتال فلم يجب ** فخفت عليه أن يكون موائلًا

وقول الآخر:
إن السفاهة طه من خلائقكم ** لا بارك الله في القوم الملاعين

وقيل هو اسم من أسماء الرسول.
وقيل: من أسماء الله.
وقال الزمخشري: ولعل عكًا تصرفوا في يا هذا كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء فقالوا في يا طأ واختصروا هذا فاقتصروا على ها، وأثر الصنعة ظاهر لا يخفي في البيت المستشهد به:
إن السفاهة طه في خلائقكم ** لا قدس الله أخلاق الملاعين

انتهى.
وكان قد قدم أنه يقال إن طاها في لغة عك في معنى يا رجل، ثم تخرص وحزر على عك بما لا يقوله نحوي هو أنهم قلبوا الياء طاء وهذا لا يوجد في لسان العرب قلب يا التي للنداء طاء، وكذلك حذف اسم الإشارة في النداء وإقرارها التي للتنبيه.
وقيل: طا فعل أمر وأصله طأ، فخففت الهمزة بإبدالها ألفًا وها مفعول وهو ضمير الأرض، أي طأ الأرض بقدميك ولا تراوح إذ كان يراوح حتى تورمت قدماه.
وقرأت فرقة منهم الحسن وعكرمة وأبو حنيفة وورش في اختياره {طه}.
قيل: وأصله طأ فحذفت الهمزة بناء على قلبها في يطأ على حد لا هناك المرتع بُني الأمر عليه وأدخلت هاء السكت وأجري الوصل مجرى الوقف، أو أصله طأ وأبدلت همزته هاء فقيل {طه}.
وقرأ الضحاك وعمرو بن فائد: طاوي.
وقرأ طلحة ما نزل عليك بنون مضمومة وزاي مكسورة مشددة مبنيًا للمفعول {القرآن} بالرفع.
وقرأ الجمهور: {ما أنزلنا عليك القرآن} ومعنى {لتشقى} لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله: {لعلك باخع نفسك} والشقاء يجيء في معنى التعب ومنه المثل: أتعب من رائض مهر.
وأشقى من رائض مهر.
قال الزمخشري: أي ما عليك إلاّ أن تبلغ وتذكر ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعظة الحسنة انتهى.
وقيل: أريد رد ما قاله أبو جهل وغيره مما تقدم ذكره في سبب النزول.
و{لتشقى} و{تذكرة} علة لقوله: {ما أنزلنا} وتعدى في {لتشقى} باللام لاختلاف الفاعل إذ ضمير {ما أنزلنا} هو لله، وضمير {لتشقى} للرسول صلى الله عليه وسلم، ولما اتحد الفاعل في {أنزلنا} و{تذكرة} إذ هو مصدر ذكر، والمذكر هو الله وهو المنزل تعدى إليه الفعل فنصب على أن في اشتراط اتحاد الفاعل خلافًا والجمهور يشترطونه.
وقال الزمخشري: فإن قلت: أما يجوز أن تقول: ما أنزلنا عليك القرآن أن تشقى كقوله: {أن تحبط أعمالكم} قلت: بلى ولكنها نصبة طارئة كالنصبة في {واختار موسى قومه} وأما النصبة في {تذكرة} فهي كالتي في ضربت زيد لأنه أحد المفاعيل الخمسة التي هي أصول وقوانين لغيرها انتهى.
وليس كون أن تشقى إذا حذف الجار منصوب متفقًا عليه بل في ذلك خلاف.
أهو منصوب تعدى إليه الفعل بعد إسقاط الحرف أو مجرور بإسقاط الجار وإبقاء عمله؟
وقال ابن عطية: {إلا تذكرة} يصح أن ينصب على البدل من موضع {لتشقى} ويصح أن ينصب بإضمار فعل تقديره لكن أنزلناه تذكرة انتهى.
وقد ردّ الزمخشري تخريج ابن عطية الأول فقال: فإن قلت: هل يجوز أن يكون {تذكرة} بدلًا من محل {لتشقى}؟ قلت: لا لاختلاف الجنسين ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي إلاّ فيه بمعنى لكن انتهى.
ويعني باختلاف الجنسين أن نصب {تذكرة} نصبة صحيحة ليست بعارضة والنصبة التي تكون في {لتشقى} بعد نزع الخافض نصبة عارضة والذي نقول أنه ليس له محل البتة فيتوهم البدل منه.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى {إنا أنزلنا} إليك {القرآن} لتحمل متاعب التبليغ ومقاولة العتاة من أعداء الإسلام ومقاتلتهم وغير ذلك من أنواع المشاق وتكاليف النبوة و{ما أنزلنا عليك} هذا المتعب الشاق {إلاّ} ليكون {تذكرة} وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون {تذكرة} حالًا ومفعولًا له {لمن يخشى} لمن يؤول أمره إلى الخشية انتهى.
وهذا معنى متكلف بعيد من اللفظ وكون {إلاّ تذكرة} بدل من محل {لتشقى} هو قول الزجاج.
وقال النحاس: هذا وجه بعيد وأنكره أبو عليّ من قبل أن التذكرة ليست بشقاء.
وقال الحوفي: ويجوز أن يكون {تذكرة} بدلًا من {القرآن} ويكون {القرآن} هو التذكرة وأجاز هو وأبو البقاء أن يكون مصدرًا أي لكن ذكرنا به {تذكرة}.
قال أبو البقاء ولا يجوز أن يكون مفعولًا له لأنزلنا المذكور لأنه قد تعدى إلى مفعول وهو {لتشقى} ولا يتعدى إلى آخر من جنسه انتهى.
والخشية باعثة على الإيمان والعمل الصالح.
وانتصاب {تنزيلًا} على أنه مصدر لفعل محذوف أي نزل {تنزيلًا ممن خلق}.
وقال الزمخشري: في نصب {تنزيلًا} وجوه أن يكون بدلًا من {تذكرة} إذا جعل حالًا لا إذا كان مفعولًا له، لأن الشيء لا يعلل بنفسه، وأن ينصب بنزل مضمرًا، وأن ينصب بأنزلنا لأن معنى {ما أنزلنا} {إلاّ تذكرة} أنزلناه تذكرة، وأن ينصب على المدح والاختصاص، وأن ينصب بيخشى مفعولًا به أي أنزله الله {تذكرة لمن يخشى} تنزيل الله وهو معنى حسن وإعراب بين انتهى.
والأحسن ما قدمناه أولًا من أنه منصوب بنزل مضمرة.
وما ذكره الزمخشري من نصبه على غير ذلك متكلف أما الأول ففيه جعل {تذكرة} و{تنزيلًا} حالين وهما مصدران، وجعل المصدر حالًا لا ينقاس، وأيضًا فمدلول {تذكرة} ليس مدلول {تنزيلًا} ولا {تنزيلًا} بعض {تذكرة} فإن كان بدلًا فيكون بدل اشتمال على مذهب من يرى أن الثاني مشتمل على الأول لأن التنزيل مشتمل على التذكرة وغيرها.
وأما قوله: لأن معنى ما أنزلناه إلاّ تذكرة أنزلناه تذكرة فليس كذلك لأن معنى الحصر يفوت في قوله أنزلناه تذكرة، وأما نصبه على المدح فبعيد، وأما نصبه بمن يخشى ففي غاية البعد لأن يخشى رأس آية وفاصل فلا يناسب أن يكون تنزيل مفعولًا بيخشى وقوله فيه وهو معنى حسن وإعراب بين عجمة وبعد عن إدراك الفصاحة.
وقرأ ابن أبي عبلة تنزيل رفعًا على إضمار هو، وهذه القراءة تدل على عدم تعلق يخشى بتنزيل وأنه منقطع مما قبله فنصبه على إضمار نزل كما ذكرناه، ومن الظاهر أنها متعلقة بتنزيل ويجوز أن يكون في موضع الصفة فيتعلق بمحذوف.
وفي قوله: {ممن خلق} تفخيم وتعظيم لشأن القرآن إذ هو منسوب تنزيله إلى من هذه أفعاله وصفاته، وتحقير لمعبوداتهم وتعريض للنفوس على الفكر والنظر وكأن في قوله: {ممن خلق} التفات إذ فيها الخروج من ضمير التكلم وهو في ما أنزلناه إلى الغيبة وفيه عادة التفنن في الكلام وهو مما يحسن إذ لا يبقى على نظام واحد وجريان هذه الصفات على لفظ الغيبة والتفخيم بإسناد الإنزال إلى ضمير الواحد المعظم نفسه، ثم إسناده إلى من اختص بصفات العظمة التي لم يشركه فيها أحد فحصل التعظيم من الوجهين.
وقال الزمخشري ويجوز أن يكون {أنزلنا} حكاية لكلام جبريل عليه السلام والملائكة النازلين معه انتهى.