فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{طه (1)}.
أظهر الأقوال فيه عندي أنه من الحروف المقطعة في أوائل السُّوَر ويدل لذلك أن الطاء والهاء المذكورتين في فاتحة هذه السورة جاءتا في مواضع أخر لا نزاع فيها في أنهما من الحروف المقطعة أما الطاء ففي فاتحة الشعراء {طسم} وفاتحة النمل {طس}. وفاتحة القصص وأمَّا الهاء ففي فاتحة مريم في قوله تعالى: {كهيعص} وقد قدمنا الكلام مُسْتوفى على الحروف المقطعة في أول سورة هود وخير ما يفسِّر به القرآن القرآن.
وقال بعض أهل العلم: قوله طه: معناه يا رجل. قالوا: وهي لغة بني عك بن عدنان وبني طيء وبني عكل قالوا: لو قُلتَ لرجل من بني عك: يا رجل لم يَفهم أَنك تناديه حتى تقول طه ومنه قول متمم بن نويرة التميمي:
دَعَوت بطة في القتال فلم يجب ** فخفت عليه أن يكون موائلا

ويروى مزايلًا وقال عبدالله بن عمر: معنى طه بلغة عك يا حبيبي ذكره الغزنوي. وقال قطرب: هو بلغة طيىء وأنشد ليزيد بن المهلهل:
إن للسفاهة طه في شمائلكم ** لا بارك الله في القوم الملاعين

ويروى:
إن السفاهة طه من خلائقكم ** لا قدَّس الله أرواح الملاعين

وممن روي عنه أن معنى {طه}: يا رجل ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء ومحمد بن كعب وأبو مالك وعطية العوفي والحسن وقتادة والضحالك والسدي وابن أبزى وغيرهم كما نقله عنهم ابن كثير وغيره. وذكره القاضي عياض في الشفاء عن الربيع بن أنس قال: كان النَّبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى فأنزل الله {طه} يعني طأ الأرض بقدميك يا محمد. وعلى هذا القول فالهاء مبدلة من الهمزة والهمزة حففت بإبددالها أن ألفًا كقول في الفرزدق:
راحت بمسلمة البغال عشية ** فارعى فزارة لا هناك المرتع

وفي قوله: {طه} أقوال أخر ضعيفة كالقول بأنه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم. والقول بأن الطاء من الطهارة والهاء من الهداية يقول لنبيه: يا طاهرًا من الذنوب يا هادي الخلق إلى علام الغيوب وغير ذلك من الأقوال الضعيفة. والصواب إن شاء الله في الأية هو ما صدرنا به ودل عليه القرآن في مواضع آخر.
{مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)}.
في قوله تعالى: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} وجهان من التفسير وكلاهما يشهد له القرآن:
الأول- أن المعنى: ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. أي لتتعب التعب الشديد بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم. وتحسرهم على أن يؤمنوا. وهذا الوجه جاءت بنحوه آيات كثيرة كقوله تعالى: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] الآية وقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفًا} [الكهف: 6] وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]. والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًا وقد قدمنا في مواضع من هذا الكتاب المبارك.
الوجه الثاني- أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالليل حتى تورَّمتْ قدماه فأنزل الله {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} أي تنهم نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة الفادحة. وما بعثناك إلا بالحنيفية السمحة. وهذا الوجه تدل له ظواهر آيات من كتاب الله كقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة: 185]. والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ويفهم من قوله: {لتشقى} أنه أُنزل عليه ليسعد. كما يدل له الحديث الصحيح: «من يُرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» وقد روى الطبراني عن ثعلبة بن الحك رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله يقول للعلماء يوم القيامة: إني لم أجعل علمي وحكتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي» وقال ابن كثير: إن إسناده جيد ويشبه معنى الآية على هذا القول الأخير قوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} [المزمل: 20] الآية. وأصل الشقاء في لغة العرب: العناء والتعب ومنه قول أبي الطيب:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

ومنه قوله تعالى: {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى} [طه: 117].
{إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)}.
أظهر الأقوال فيه: أنه مفعول لأجله أي ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة أي إلا لأَجل التذكرة لمن يخشى الله ويخاف عذابه. والتذكرة: الموعظة التي تلين لها القُلوب. فتمتثل أمر الله وتجتنب نهيه. وخص بالتذكرة من يخشى دون غيرهم لأنهم هم المنتفعون بها كقوله تعالى: {فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] وقوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِيَ الرحمن بالغيب} [يس: 11] وقوله: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45]. فالتخصيص المذكور في الآيات ب {من} تنفع فيهم الذكرى لأنهم هم المنتفعون بها دون غيرهم. وما ذكره هنا من أنه ما أنزل القرآن إلا للتذكرة- بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 27- 28] وقوله تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذكرى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90] إلى غير ذلك من الآيات. وإعراب {إلا تذكرة} بأنه بدل من {لتشقى} لا يصح لأن التذكرة ليست بشقاء. وإعرابه مفعولًا مطلقًا أيضًا غير ظاهر. وقال الزمخشري في الكشاف: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يخشى} [طه: 2-3]: ما أنزلنا عليك هذا المتعب الشاق إلا ليكون تذكرة وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون {تذكرة} حالًا ومفعولًا له.
{تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)}.
في قوله: {تنزيلًا} أوجه كثيرة من الإعراب ذكرها المفسون. وأظهرها عندي أنه مفعول مطلق منصوب بنزل مضمرة دل عليها قوله: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} [طه: 2] أي أنزله الله {تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَق الأرض} الآية أي فليس بشعر ولا كهانة ولا سحر ولا أساطير الأولين كما دل لهذا المعنى قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين} [الحاقة: 41- 43] والآيات المصرحة بأن القرآن منزل من رب العالمين كثيرة جدًا معروفة كقوله: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 192] الآية وقوله: {تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم} [الزمر: 1] وقوله: {تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرحيم} [فصلت: 2] والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{طه (1)}.
وهذان الحرفان من حروف فواتح بعض السور مثل آلم، ويس.
ورسما في خط المصحف بصورة حروف التهجي التي هي مسمى طا وها كما رُسم جميع الفواتح التي بالحروف المقطعة.
وقرئا لجميع القراء كما قرئت بقية فواتح السور.
فالقول فيهما كالقول المختار في فواتح تلك السور، وقد تقدم في أول سورة البقرة وسورة الأعراف.
وقيل هما حرفان مقتضَبَان من كلمتي طاهر وهاد وأنهما على معنى النّداء بحذف حرف النداء.
وتقدم وجه المدّ في طا ها في أول سورة يونس.
وقيل مقتضبان من فعل طَأْ أمرًا من الوطء.
ومن ها ضمير المؤنثة الغائبة عائد إلى الأرض.
وفُسر بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول أمره إذا قام في صلاة الليل قام على رِجْل واحدة فأمره الله بهذه الآية أن يطأ الأرض برجله الأخرى.
ولم يصح.
وقيل طاها كلمة واحدة وأن أصلها من الحبشية، ومعناها إنسان، وتكلمت بها قبيلة عَك أو عُكْل وأنشدوا ليزيد بن مهلهل:
إن السفاهة طاها من شمائلكم ** لا باركَ الله في القوممِ الملاعين

وذهب بعض المفسرين إلى اعتبارهما كلمة لغة عَك أو عُكل أو كلمة من الحبشية أو النبطية وأنّ معناها في لغة: عك يا إنسان، أو يا رجل، وفي ما عداها: يا حبيبي، وقيل: هي اسم سمى الله به نبيئه صلى الله عليه وسلم وأنه على معنى النّداء، أو هو قسم به.
وقيل: هي اسم من أسماء الله تعالى على معنى القسم.
ورويت في ذلك آثار وأخبار ذكر بعضها عياض في الشفاء.
ويجري فيها قول من جعل جميع هذه الحروف متحدة في المقصود منها.
كقول من قال: هي أسماء للسور الواقعة فيها، ونحو ذلك مما تقدم في سورة البقرة.
وإنما غرّهم بذلك تشابه في النطق فلا نطيل بردها.
وكذلك لا التفات إلى قول من زعموا أنه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم.
{مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)}.
افتتحت السورة بملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم بأنّ الله لم يرد من إرساله وإنزال القرآن عليه أن يشقى بذلك، أي تصيبه المشقّة ويشده التعب، ولكن أراد أن يذكر بالقرآن من يخاف وعيده.
وفي هذا تنويه أيضًا بشأن المؤمنين الذين آمنوا بأنهم كانوا من أهل الخشية ولولا ذلك لما ادّكروا بالقرآن.
وفي هذه الفاتحة تمهيدٌ لما يرد من أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالاضطلاع بأمر التبليغ، وبكونه من أولي العزم مثل موسى عليه السلام وأن لا يكون مفرطًا في العزم كما كان آدم عليه السلام قبل نزوله إلى الأرض.
وأدمج في ذلك التنويه بالقرآن لأن في ضمن ذلك تنويهًا بمن أنزل عليه وجاء به.
والشقاء: فرط التعب بعمل أو غمّ في النفس، قال النابغة:
إلاّ مقالةَ أقوام شَقِيت بهم ** كانت مقالتهم قَرعا على كبدي

وهمزة الشقاء مُنقلبة عن الواو.
يقال: شَقاء وشَقاوة بفتح الشين وشِقوة بكسرها.
ووقوع فعل {أنْزَلْنَا} في سياق النفي يقتضي عموم مدلوله، لأنّ الفعل في سياق النفي بمنزلة النكرة في سياقه، وعموم الفعل يستلزم عموم متعلقاته من مفعول ومجرور.
فيعمّ نفي جميع كلّ إنزال للقرآن فيه شقاء له، ونفي كل شقاء يتعلق بذلك الإنزال، أي جميع أنواع الشّقاء فلا يكون إنزال القرآن سببًا في شيء من الشقاء للرسول صلى الله عليه وسلم وأول ما يراد منه هنا أسف النبي صلى الله عليه وسلم من إعراض قومه عن الإيمان بالقرآن.
قال تعالى: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا} [الكهف: 6].
ويجوز أن يكون المراد: ما أرسلناك لتخِيب بل لنؤيدك وتكون لك العاقبة.
وقوله: {إلاَّ تَذْكِرَةً} استثناء مفرّغ من أحوال للقرآن محذوفة، أي ما أنزلنا عليك القرآن في حال من أحوال إلا حال تذكرة فصار المعنى: ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى وما أنزلناه في حال من الأحوال إلا تذكرة.
ويدل لذلك تعقيبه بقوله: {تنزيلًا ممَّن خَلَق الأرضَ} الذي هو حال من القرآن لا محالة، ففعل {أنْزَلنا} عامل في {لِتَشْقَى} بواسطة حرف الجرّ، وعامل في {تَذْكِرة} بواسطة صاحب الحال، وبهذا تعلم أن ليس الاستثناء من العلّة المنفية بقوله: {لِتَشْقَى} حتى تتحير في تقويم معنى الاستثناء فتفزع إلى جعله منقطعًا وتقع في كُلف لتصحيح النّظم.
وقال الواحدي في أسباب النزول: قال مقاتل: قال أبو جهل والنضر بن الحارث وزاد غير الواحدي: الوليد بن المغيرة، والمطعِم بنَ عديّ للنبيء صلى الله عليه وسلم إنك لتشقى بترك ديننا، لما رأوا من طول عبادته واجتهاده، فأنزل الله تعالى: {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} الآية، وليس فيه سند.
والتذكرة: خطور المنسي بالذهن؛ فإن التوحيد مستقرّ في الفطرة والإشراك مناف لها، فالدعوة إلى الإسلام تذكير لما في الفطرة أو تذكير لملّة إبراهيم عليه.
و{من يخشى} هو المستعد للتأمل والنظر في صحة الدّين، وهو كل من يفكّر للنجاة في العاقبة، فالخشية هنا مستعملة في المعنى العَربي الأصلي، ويجوز أن يراد بها المعنى الإسلامي، وهو خوف الله، فيكون المراد من الفعل المآل، أي من يؤول أمره إلى الخشية بتيْسِير الله تعالى له التقوى، كقوله تعالى: {هدى للمتقين} [البقرة: 2] أي الصائرين إلى التقوى.
و{تنزيلًا} حال من {القُرءَانَ} ثانية.
والمقصود منها التنويه بالقرآن والعناية به لينتقل من ذلك إلى الكناية بأن الذي أنزله عليك بهذه المثابة لا يترك نصرك وتأييدك.
والعدول عن اسم الجلالة أو عن ضميره إلى الموصولية لما تؤذن به الصلة من تحتم إفراده بالعبادة، لأنه خالق المخاطبين بالقرآن وغيرهم مما هو أعظم منهم خلقًا، ولذلك وُصف والسَّمَاوات بالعُلَى صفةً كاشفةً زيادة في تقرير معنى عظمة خالقها.
وأيضًا لمّا كان ذلك شأن مُنْزل القرآن لا جرم كان القرآن شيئًا عظيمًا، كقول الفرزدق:
إنّ الذي سمك السماء بنى لنا ** بيتًا دعائمه أعزّ وأطول

و{الرحمن} يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف لازم الحذف تبعًا للاستعمال في حذف المسند إليه كما سماه السكّاكي.
ويجوز أن يكون مبتدأ.
واختير وصف {الرحمن} لتعليم النّاس به لأن المشركين أنكروا تسميته تعالى الرحمان: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان} [الفرقان: 60].
وفي ذكره هنا وكثرة التذكير به في القرآن بعث على إفراده بالعبادة شكرًا على إحسانه بالرحمة البالغة.
وجملة {على العرش استوى} حال من {الرحمن}.
أو خبر ثان عن المبتدأ المحذوف.
والاستواء: الاستقرار، قال تعالى: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك} [المؤمنون: 28] الآية.
وقال: {واستوت على الجوديّ} [هود: 44].
والعرش: عالم عظيم من العوالم العُليا، فقيل هو أعلى سماء من السماوات وأعظمها.
وقيل غير ذلك، ويسمى: الكرسي أيضًا على الصحيح، وقيل: الكرسي غير العرش.
وأيًّا مّا كان فذكر الاستواء عليه زيادة في تصوير عظمة الله تعالى وسعة سلطانه بعد قوله: {ممَّن خلقَ الأرضَ والسموات العُلى}.
وأما ذكر الاستواء فتأويله أنه تمثيل لشأن عظمة الله بعظمة أعظم الملوك الذين يجلسون على العروش.
وقد عَرَف العرب من أولئك ملوكَ الفرس وملوكَ الروم وكان هؤلاء مضرب الأمثال عندهم في العظمة.
وحَسّنَ التعبيرَ بالاستواء مقارنته بالعرش الذي هو ممّا يُستوى عليه في المتعارف، فكان ذكر الاستواء كالترشيح لإطلاق العرش على السماء العظمى، فالآية من المتشابه البيّن تأويله باستعمال العرب وبما تقرر في العقيدة: أن ليس كمثله شيء.
وقيل: الاستواء يستعمل بمعنى الاستيلاء.
وأنشدوا قول الأخطل:
قد استوى بشر على العراق ** بغير سيف ودممٍ مُهْراق

وهو مولّد.
ويحتمل أنه تمثيل كالآية. ولعلّه انتزعه من هذه الآية.
وتقدم القول في هذا عند قوله تعالى: {ثم استوى على العرش} في سورة [الأعراف: 54].
وإنما أعدنا بعضه هنا لأن هذه الآية هي المشتهرة بين أصحابنا الأشعرية.
وفي تقييد الأبيّ على تفسير ابن عرفة: واختار عز الدين بن عبد السلام عدم تكفير من يقول بالجهة.
قيل لابن عرفة: عادتك تقول في الألفاظ الموهمة الواردة في الحديث كما في حديث السوداء وغيرها، فذكر النبي دليلٌ على عدم تكفير من يقول بالتجسيم، فقال: هذا صعب ولكن تجاسرتُ على قوله اقتداء بالشيخ عز الدين لأنه سبقني لذلك.
وأتبع ما دلّ على عظمة سلطانه تعالى بما يزيده تقريرًا وهو جملة: {له ما في السمَّوات} إلخ.
فهي بيان لجملة {الرحمان على العرش استوى}.
والجملتان تدلان على عظيم قدرته لأن ذلك هو المقصود من سعة السلطان.
وتقديم المجرور في قوله: {له ما في السموات} للقصر، ردًا على زعم المشركين أن لآلهتهم تصرفات في الأرض، وأن للجنّ اطلاعًا على الغيب، ولتقرير الردّ ذكرت أنحاء الكائنات، وهي السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
والثّرى: التراب.
وما تحته: هو باطن الأرض كله.
وجملة {له ما في السَّموات} عطف على جملة {على العرشِ اسْتَوى}. اهـ.