فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والثاني: أنه كان أمرًا بمعنى أنه وجد في الأزل شيء لما استمر إلى ما لا يزال صار الشخص به مأمورًا من غير وقوع التغير في ذلك الشيء كما أن القدرة تقتضي صحة الفعل ثم إنها كانت موجودة في الأزل من غير هذه الصحة فلما استمرت إلى ما لا يزال حصلت الصحة كذا هاهنا وهذا الكلام فيه غموض وبحث دقيق.
المسألة العاشرة:
ليس في الآية دلالة على كراهة الصلاة والطواف في النعل والصحيح عدم الكراهة وذلك لأنا إن عللنا الأمر بخلع النعلين بتعظيم الوادي وتعظيم كلام الله كان الأمر مقصورًا على تلك الصورة، وإن عللناه بأن النعلين كانا من جلد حمار ميت فجائز أن يكون قد كان محظورًا لبس جلد الحمار الميت وإن كان مدبوغًا فإن كان كذلك فهو منسوخ بقوله عليه السلام: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم في نعليه ثم خلعهما في الصلاة فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال: «ما لكم خلعتم نعالكم» قالوا: خلعت فخلعنا قال: «فإن جبريل أخبرني أن فيهما قذرًا» فلم يكره النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في النعل وأنكر على الخالعين خلعهما وأخبرهم بأنه إنما خلعهما لما فيهما من القذر.
المسألة الحادية عشر:
قرئ {طوى} بالضم والكسر منصرفًا وغير منصرف فمن نونه فهو اسم الوادي ومن لم ينونه ترك صرفه لأنه معدول عن طاوي فهو مثل عمر المعدول عن عامر ويجوز أن يكون اسمًا للبقعة.
المسألة الثانية عشرة:
في طوى وجوه: الأول: أنه اسم للوادي وهو قول عكرمة وابن زيد.
والثاني: معناه مرتين نحو مثنى أي قدس الوادي مرتين أو نودي موسى عليه السلام نداءين يقال ناديته طوى أي مثنى.
والثالث: طوى أي طيًا قال ابن عباس رضي الله عنهما إنه مر بذلك الوادي ليلًا فطواه فكان المعنى بالوادي المقدس الذي طويته طيًا أي قطعته حتى ارتفعت إلى أعلاه ومن ذهب إلى هذا قال طوى مصدر خرج عن لفظه كأنه قال: طويته طوى كما يقال هدى يهدي هدي، والله أعلم.
{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)}.
قرأ حمزة: {وإنا اخترناك} وقرأ أبي بن كعب: {وإني اخترتك} وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى:
معناه اخترتك للرسالة وللكلام الذي خصصتك به، وهذه الآية تدل على أن النبوة لا تحصل بالاستحقاق لأن قوله: {وَأَنَا اخترتك} يدل على أن ذلك المنصب العلى أنما حصل لأن الله تعالى اختاره له ابتداء لا أنه استحقه على الله تعالى.
المسألة الثانية:
قوله: {فاستمع لِمَا يُوحَى} فيه نهاية الهيبة والجلالة فكأنه قال: لقد جاءك أمر عظيم هائل فتأهب له واجعل كل عقلك وخاطرك مصروفًا إليه فقوله: {وَأَنَا اخترتك} يفيد نهاية اللطف والرحمة وقوله: {فاستمع} يفيد نهاية الهيبة فيحصل له من الأول نهاية الرجاء ومن الثاني نهاية الخوف.
المسألة الثالثة:
قوله: {إِنَّنِى أَنَا الله لآ إله إلآ أَنَاْ فاعبدنى} يدل على أن علم الأصول مقدم على علم الفروع لأن التوحيد في علم الأصول والعبادة من علم الفروع وأيضًا الفاء في قوله: {فاعبدنى} تدل على أن عبادته إنما لزمت لإلهيته وهذا هو تحقيق العلماء أن الله هو المستحق للعبادة.
المسألة الرابعة:
أنه سبحانه بعد أن أمره بالتوحيد، أولًا ثم بالعبادة ثانيًا، أمره بالصلاة ثالثًا احتج أصحابنا بهذه الآية على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة جائز من وجهين: الأول: أنه أمره بالعبادة ولم يذكر كيفية تلك العبادة فثبت أنه يجوز ورود المجمل منفكًا عن البيان.
الثاني: أنه قال: {وأقم الصلاة لذكري} ولم يبين كيفية الصلاة قال: القاضي لا يمتنع أن موسى عليه السلام قد عرف الصلاة التي تعبد الله تعالى بها شعيبًا عليه السلام وغيره من الأنبياء فصار الخطاب متوجهًا إلى ذلك ويحتمل أنه تعالى بين له في الحال وأن كان المنقول في القرآن لم يذكر فيه إلا هذا القدر.
والجواب: أما العذر الأول فإنه لا يتوجه في قوله تعالى: {فاعبدنى} وأيضًا فحمل مثل هذا الخطاب العظيم على فائدة جديدة أولى من حمله على أمر معلوم لأن موسى عليه السلام ما كان يشك في وجوب الصلاة التي جاء بها شعيب عليه السلام فلو حملنا قوله: {وأقم الصلاة} على ذلك لم يحصل من هذا الخطاب العظيم فائدة زائدة، أما لو حملناه على صلاة أخرى لحصلت الفائدة الزائدة، قوله: لعل الله تعالى بينه في ذلك الموضع وإن لم يحكه في القرآن قلنا لا نشك أن البيان أكثر فائدة من المجمل فلو كان مذكورًا لكان أولى بالحكاية.
المسألة الخامسة:
في قوله: {لِذِكْرِي} وجوه: أحدها: لذكري يعني لتذكرني فإن ذكري أن أعبد ويصلي لي.
وثانيها: لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار عن مجاهد.
وثالثها: لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها.
ورابعها: لأن أذكرك بالمدح والثناء واجعل لك لسان صدق.
وخامسها: لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري.
وسادسها: لإخلاص ذكري وطلب وجهي لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضًا آخر.
وسابعها: لتكون لي ذاكرًا غير ناس فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم كما قال تعالى: {لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} [النور: 37] وثامنها: لأوقات ذكرى وهي مواقيت الصلاة لقوله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا} [النساء: 103].
وتاسعها: {أَقِمِ الصلاة} حين تذكرها أي أنك إذا نسيت صلاة فاقضها إذا ذكرتها.
روى قتادة عن أنس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك» ثم قرأ: {وأقم الصلاة لذكري} قال الخطابي يحتمل هذا الحديث وجهين.
أحدهما: أنه لا يكفرها غير قضائها والآخر أنه لا يلزم في نسيانها غرامة ولا كفارة كما تلزم الكفارة في ترك صوم رمضان من غير عذر وكما يلزم المحرم إذا ترك شيئًا من نسكه فدية من إطعام أو دم.
وإنما يصلي ما ترك فقط فإن قيل حق العبارة أن يقول أقم الصلاة لذكرها كما قال عليه السلام: «فليصلها إذا ذكرها» قلنا قوله: {لِذِكْرِى} معناه للذكر الحاصل بخلقي أو بتقدير حذف المضاف أي لذكر صلاتي.
المسألة السادسة:
لو فاتته صلوات يستحب أن يقضيها على ترتيب الأداء فلو ترك الترتيب في قضائها جاز عند الشافعي رحمه الله ولو دخل عليه وقت فريضة وتذكر فائتة نظر إن كان في الوقت سعة استحب أن يبدأ بالفائتة ولو بدأ بصلاة الوقت جاز وإن ضاق الوقت بحيث لو بدأ بالفائتة فات الوقت يجب أن يبدأ بصلاة الوقت حتى لا تفوت ولو تذكر الفائتة بعدما شرع في صلاة الوقت أتمها ثم قضى الفائتة ويستحب أن يعيد صلاة الوقت بعدها ولا يجب وقال أبو حنيفة رحمه الله يجب الترتيب في قضاء الفوائت ما لم تزد على صلاة يوم وليلة حتى قال: لو تذكر في خلال صلاة الوقت فائتة تركها اليوم يبطل فرض الوقت فيقضي الفائتة ثم يعيد صلاة الوقت إلا أن يكون الوقت ضيقًا فلا تبطل حجة أبي حنيفة رحمه الله الآية والخبر والأثر والقياس، أما الآية فقوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِذِكْرِي} أي لتذكرها واللام بمعنى عند كقوله: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78] أي عند دلوكها فمعنى الآية أقم الصلاة المتذكرة عند تذكرها وذلك يقتضي رعاية الترتيب وأما الخبر فقوله عليه السلام: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها» والفاء للتعقيب وأيضًا روى جابر بن عبد الله قال: جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول يا رسول الله ما صليت صلاة العصر حتى كادت تغيب الشمس قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأنا والله ما صليتها بعد قال فنزل إلى البطحاء وصلى العصر بعد ما غابت الشمس ثم صلى المغرب بعدها» وهذا الحديث مذكور في الصحيحين قالت الحنفية والاستدلال به من وجهين: أحدهما: أنه عليه الصلاة والسلام قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» فلما صلى الفوائت على الولاء وجب علينا ذلك.
والثاني: إن فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مخرج البيان للمجمل كان حجة وهذا الفعل خرج بيانًا لمجمل قوله تعالى: {أَقِيمُواْ الصلاة} [النور: 56] ولهذا قلنا إن الفوائت إذا كانت في حد القلة يجب مراعاة الترتيب فيها وإذا دخلت في حد الكثرة يسقط الترتيب وأما الأثر فما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «من فاتته صلاة فلم يذكرها إلا في صلاة الإمام فليمض في صلاته فإذا قضى صلاته مع الإمام يصلي ما فاته ثم ليعد التي صلاها مع الإمام» وقد يروى هذا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما القياس فهو أنهما صلاتان فريضتان جمعهما وقت واحد في اليوم والليلة فأشبهتا صلاتي عرفة والمزدلفة فلما لم يجب إسقاط الترتيب فيهما وجب أن يكون حكم الفوائت فيما دون اليوم والليلة كذلك حجة الشافعي رحمه الله أنه روى في حديث أبي قتادة: أنهم لما ناموا عن صلاة الفجر ثم انتبهوا بعد طلوع الشمس أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقودوا رواحلهم ثم صلاها ولو كان وقت التذكر معينًا للصلاة لما جاز ذلك فعلمنا أن ذلك الوقت وقت لتقرر الوجوب عليه لكن لا على سبيل التضييق بل على سبيل التوسع إذا ثبت هذا فنقول إيجاب قضاء الفوائت وإيجاب أداء فرض الوقت الحاضر يجري مجرى التخيير بين الواجبين فوجب أن يكون المكلف مخيرًا في تقديم أيهما شاء ولأنه لو كان الترتيب في الفوائت شرطًا لما سقط بالنسيان ألا ترى أنه إذا صلى الظهر والعصر بعرفة في يوم غيم ثم تبين أنه صلى الظهر قبل الزوال والعصر بعد الزوال فإنه يعيدهما جميعًا ولم يسقط الترتيب بالنسيان لما كان شرطًا فيهما فههنا أيضًا لو كان شرطًا فيهما لما كان يسقط بالنسيان. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تعالى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْك}.
قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: أَمَرَهُ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ لِيُبَاشِرَ بِقَدَمِهِ بَرَكَةَ الْوَادِي الْمُقَدَّسِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِيبَ ذَلِكَ: {إنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} فَتَقْدِيرُهُ: اخْلَعْ نَعْلَيْك؛ لِأَنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ.
وَقَالَ كَعْبٌ وَعِكْرِمَةُ: كَانَتْ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ فَلِذَلِكَ أُمِرَ بِخَلْعِهَا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ فِي النَّعْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ إنْ كَانَ هُوَ الْأَوَّلُ فَالْمَعْنِيُّ فِيهِ مُبَاشَرَةُ الْوَادِي بِقَدَمِهِ تَبَرُّكًا بِهِ كَاسْتِلَامِ الْحَجَرِ وَتَقْبِيلِهِ تَبَرُّكًا بِهِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِخَلْعِ النَّعْلِ مَقْصُورًا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فِي ذَلِكَ الْوَادِي الْمُقَدَّسِ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ هُوَ الثَّانِي فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ مَحْظُورًا لُبْسُ جِلْدِ الْحِمَارِ الْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَ مَدْبُوغًا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ»، وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَعْلَيْهِ ثُمَّ خَلَعَهُمَا فِي الصَّلَاةِ فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: «مَا لَكُمْ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ؟ قَالُوا: خَلَعْت فَخَلَعْنَا، قَالَ: فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهَا قَذَرًا» فَلَمْ يَكْرَهْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ فِي النَّعْلِ، وَأَنْكَرَ عَلَى الْخَالِعِينَ خَلْعَهَا، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ إنَّمَا خَلَعَهَا؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَهُ أَنَّ فِيهَا قَذَرًا وَهَذَا عِنْدَنَا.
مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ نَجَاسَةً يَسِيرَةً؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَثِيرَةً لَاسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ.
قَوْله تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}.
قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: لِتَذْكُرَنِي فِيهَا بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّعْظِيمِ.
وَقِيلَ فِيهِ: لَأَنْ أَذْكُرَكَ بِالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ.
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَامَ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَصَلَّاهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تعالى يَقُولُ: {وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}.
وَرَوَى هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ وَتَلَا: {وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} قَدْ أُرِيدَ بِهِ فِعْلُ الصَّلَاةِ الْمَتْرُوكَةِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ مُرَادًا بِالْآيَةِ لَا يَنْفِي أَنْ تَكُونَ الْمَعَانِي الَّتِي تَأَوَّلَهَا عَلَيْهَا الْآخَرُونَ مُرَادَةً أَيْضًا؛ إذْ هِيَ غَيْرُ مُتَنَافِيَةٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَقِمْ الصَّلَاةَ إذَا ذَكَرْتَ الصَّلَاةَ الْمَنْسِيَّةَ لِتَذْكُرَنِي فِيهَا بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّعْظِيمِ لَأَنْ أَذْكُرَكَ بِالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ، فَيَكُونُ جَمِيعُ هَذِهِ الْمَعَانِي مُرَادَةً بِالْآيَةِ.
وَهَذَا الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ مِنْ إيجَابِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ عِنْدَ الذِّكْرِ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِيهِ قَوْلٌ شَاذٌّ لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ، فَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ سَعْدٍ قال: مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا وَلْيُصَلِّ مِثْلَهَا مِنْ الْغَدِ وَرَوَى الْجَرِيرِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: إذَا فَاتَتْ الرَّجُلَ الصَّلَاةُ صَلَّاهَا مِنْ الْغَدِ لِوَقْتِهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي سَعِيدٍ فَقَالَ: صَلِّهَا إذَا ذَكَرْتهَا.
وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ شَاذَّانِ، وَهُمَا مَعَ ذَلِكَ خِلَافُ مَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِهِ بِقَضَاءِ الْفَائِتَةِ عِنْدَ الذِّكْرِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ صَلَاةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا.
وَتِلَاوَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْله تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} عَقِيبَ ذِكْرِ الْفَائِتَةِ وَبَعْدَ قَوْلِهِ: {مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا} يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْآيَةِ قَضَاءَ الْفَائِتَةِ عِنْدَ الذِّكْرِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فِي الْفَوَائِتِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَأْمُورًا بِفِعْلِ الْفَائِتَةِ عِنْدَ الذِّكْرِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ صَلَاةٍ فَهُوَ مَنْهِيٌّ لَا مَحَالَةَ عَنْ فِعْلِ صَلَاةِ الْوَقْتِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ فَسَادَ صَلَاةِ الْوَقْتِ إنْ قَدَّمَهَا عَلَى الْفَائِتَةِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِهِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْفَوَائِتِ وَبَيْنَ صَلَاةِ الْوَقْتِ وَاجِبٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَمَا دُونَهُمَا إذَا كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ لِلْفَائِتَةِ وَلِصَلَاةِ الْوَقْتِ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لَمْ يَجِبْ التَّرْتِيبُ وَالنِّسْيَانُ يُسْقِطُ التَّرْتِيبَ عِنْدَهُمْ، أَعْنِي نِسْيَانَ الصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ وَإِنْ نَسِيَ الْفَائِتَةَ، إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: إنْ كَانَتْ الْفَوَائِتُ كَثِيرَةً بَدَأَ بِصَلَاةِ الْوَقْتِ ثُمَّ صَلَّى مَا كَانَ نَسِيَ، وَإِنْ كَانَتْ الْفَوَائِتُ خَمْسًا ثُمَّ ذَكَرَهُنَّ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ صَلَّاهُنَّ قَبْلَ الصُّبْحِ وَإِنْ فَاتَ وَقْتُ الصُّبْحِ، وَإِنْ صَلَّى الصُّبْحَ ثُمَّ ذَكَرَ صَلَوَاتٍ صَلَّى مَا نَسِيَ، فَإِذَا فَرَغَ أَعَادَ الصُّبْحَ مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ لَمْ يُعِدْ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ صَلَّى رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ أَنَّهُ يَشْفَعُ بِرَكْعَةٍ ثُمَّ يُسَلِّمُ فَيَسْتَقْبِلُ الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ.
وَرُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ رِوَآيتان فِي إحْدَاهُمَا إسْقَاطُ التَّرْتِيبِ وَفِي الْأُخْرَى إيجَابُهُ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: إذَا ذَكَرَهَا وَهُوَ فِي صَلَاةٍ وَقَدْ صَلَّى رَكْعَةً فَإِنْ كَانَ مَعَ إمَامٍ فَلْيُصَلِّ مَعَهُ حَتَّى إذَا سَلَّمَ صَلَّى الَّتِي نَسِيَ ثُمَّ أَعَادَ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّاهَا مَعَهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: إذَا صَلَّى صَلَوَاتٍ بِغَيْرِ وُضُوءٍ أَوْ نَامَ عَنْهُنَّ قَضَى الْأُولَى فَالْأُولَى، فَإِنْ جَاءَ وَقْتُ صَلَاةٍ تَرَكَهَا وَصَلَّى مَا قَبْلَهَا وَإِنْ فَاتَهُ وَقْتُهَا حَتَّى يَبْلُغَهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الِاخْتِيَارُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْفَائِتَةِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَبَدَأَ بِصَلَاةِ الْوَقْتِ أَجْزَأَهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قال: مَنْ نَسِيَ صَلَاةً وَذَكَرَهَا وَهُوَ خَلْفَ إمَامٍ فَلْيُصَلِّ مَعَ الْإِمَامِ، فَإِذَا فَرَغَ صَلَّى الَّتِي نَسِيَ ثُمَّ يُصَلِّي الْأُخْرَى.
وَرَوَى عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ قال: أَقْبَلْنَا حَتَّى دَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ وَقَدْ غَابَتْ الشَّمْسُ، وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يُؤَخِّرُونَ الْمَغْرِبَ، فَرَجَوْتُ أَنْ أُدْرِكَ مَعَهُمْ الصَّلَاةَ، فأتيتهمْ وَهُمْ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَدَخَلْتُ مَعَهُمْ وَأَنَا أَحْسَبُهَا الْمَغْرِبَ، فَلَمَّا صَلَّى الْإِمَامُ قُمْتُ فَصَلَّيْتُ الْمَغْرِبَ ثُمَّ صَلَّيْتُ الْعِشَاءَ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ سَأَلْتُ عَنْ الَّذِي فَعَلْتُ، فَكُلُّهُمْ أَخْبَرُونِي بِاَلَّذِي صَنَعْتُ، وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا يَوْمئِذٍ مُتَوَافِرِينَ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ.
فَهَؤُلَاءِ السَّلَفُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ إيجَابُ التَّرْتِيبِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِمْ خِلَافٌ فَصَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْ السَّلَفِ.
وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي الْفَوَائِتِ مَا رَوَى يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسَ أَنْ تَغِيبَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «وَأَنَا وَاَللَّهِ مَا صَلَّيْتُ بَعْدُ فَنَزَلَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَمَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ بَعْدَمَا صَلَّى الْعَصْرَ» وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أَنَّهُ فَاتَتْهُ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ حَتَّى كَانَ هُوِيٌّ مِنْ اللَّيْلِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ ثُمَّ الْمَغْرِبَ ثُمَّ الْعِشَاءَ» وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» فَلَمَّا صَلَّاهُنَّ عَلَى التَّرْتِيبِ اقْتَضَى ذَلِكَ إيجَابَهُ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ مُجْمَلٌ فِي الْكِتَابِ، وَالتَّرْتِيبُ وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافِ الصَّلَاةِ، وَفِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا وَرَدَ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ، فَلَمَّا قَضَى الْفَوَائِتَ عَلَى التَّرْتِيبِ كَانَ فِعْلُهُ ذَلِكَ بَيَانًا لِلْفَرْضِ الْمُجْمَلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوُجُوبِ.
وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ أَيْضًا أَنَّهُمَا صَلَاتَانِ فَرْضَانِ قَدْ جَمَعَهُمَا وَقْتٌ وَاحِدٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَأَشْبَهَتَا صَلَاتَيْ عَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ إسْقَاطُ التَّرْتِيبِ فِيهِمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ الْفَوَائِتِ فِيمَا دُونَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَقَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إنِّي مَا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ أَنْ تَغِيبَ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ»، فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. اهـ.