فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن العربي:

قَوْله تعالى: {إنِّي أَنَا رَبُّك فَاخْلَعْ نَعْلَيْك إنَّك بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طَوًى}.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الأُولَى:
فِي خَلْعِ النَّعْلَيْنِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا أَنْبَأَنَا أَبُو زَيْدٍ الْحِمْيَرِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ اللَّخْمِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍّ أَحْمَدَ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أَنْبَأَنَا عَمِّي عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عَمِّي أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «كَانَتْ نَعْلَا مُوسَى مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ».
وَحَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يَوْمَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى كَانَ عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ، وَكِسَاءُ صُوفٍ، وَسَرَاوِيلُ صُوفٍ، وَكُمَّةُ صُوفٍ، وَنَعْلَانِ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ غَيْرِ مُذَكًّى.
وَرَوَاهُ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ خَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ بِمِثْلِهِ مُسْنَدًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَ لَهُ رَبُّهُ: اخْلَعْ نَعْلَيْك، أَفِضْ بِقَدَمَيْك إلَى بَرَكَةِ الْوَادِي.
قال الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي المسألة الثَّانِيَةِ:
إنْ قُلْنَا: إنَّ خَلْعَ النَّعْلَيْنِ كَانَ لِيَنَالَ بَرَكَةَ التَّقْدِيسِ فَمَا أَجْدَرَهُ بِالصِّحَّةِ، فَقَدْ اسْتَحَقَّ التَّنْزِيهَ عَنْ النَّعْلِ، وَاسْتَحَقَّ الْوَاطِئُ التَّبَرُّكَ بِالْمُبَاشَرَةِ، كَمَا لَا تُدْخَلُ الْكَعْبَةَ بِنَعْلَيْنِ، وَكَمَا كَانَ مَالِكٌ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً بِالْمَدِينَةِ، بِرًّا بِتُرْبَتِهَا الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى الْأَعْظُمِ الشَّرِيفَةِ، وَالْجُثَّةِ الْكَرِيمَةِ.
وَإِنْ قُلْنَا بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ، فَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يَكُونَ مُوسَى أُمِرَ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ، وَكَانَ أَوَّلُ تَعَبُّدٍ أُحْدِثَ إلَيْهِ، كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَا قِيلَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يُدْبَغْ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، لِمُطْلَقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ» وَلَمْ يَذْكُرْ دِبَاغًا.
الثَّانِي: أَنَّهُ يُدْبَغُ فَيُنْتَفَعُ بِهِ مَدْبُوغًا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ» قَالَهُ مَالِكٌ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ».
خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.
وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْ قِرْبَةٍ مَدْبُوغَةٍ مِنْ جِلْدِ مَيْتَةٍ، حَتَّى صَارَتْ شَنًّا قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي، وَهُوَ الرَّابِعُ، وَوَرَاءَ هَذِهِ تَفْصِيلٌ.
وَالصَّحِيحُ جَوَازُ الطَّهَارَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ نَعْلَا مُوسَى لَمْ تُدْبَغَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَا دُبِغَتَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِ إذْنٌ فِي اسْتِعْمَالِهَا.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لَمْ تُدْبَغْ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ فِي الْبَابِ.
قَوْله تعالى: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الأُولَى:
فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {لِذِكْرِي} وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَقِمْ الصَّلَاةَ، لَأَنْ تَذْكُرَنِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الثَّانِي: أَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي لَك بِالْمَدْحِ.
الثَّالِثُ: أَقِمْ الصَّلَاةَ إذَا ذَكَرْتنِي.
وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَرُوِيَتْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَقِمْ الصَّلَاةَ لِلذِّكْرِ، وَقُرِئَ: لِلذِّكْرَى.
المسألة الثَّانِيَةُ:
لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الذِّكْرَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إلَى الضَّمِيرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى الْفَاعِلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ.
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَقِمْ الصَّلَاةَ لِلذِّكْرَى، وَلِذِكْرِي، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لِلذِّكْرَى إذَا ذَكَّرْتُك بِهَا، وَلِتَذْكُرَنِي فِيهَا، وَلِذِكْرِي لَك بِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: الذِّكْرُ مَصْدَرٌ فِي الْإِثْبَاتِ، وَلَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ.
قُلْنَا: بَلْ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ، كَمَا تَقُولُ: عَجِبْت مِنْ ضَرْبِي زَيْدًا، إذَا كَانَ الضَّرْبُ الْوَاقِعُ بِهِ عَامًّا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الضَّرْبِ، فَيَكُونُ الْعُمُومُ فِي كَيْفِيَّاتِ الضَّرْبِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ، وَالْإِثْبَاتُ فِي النَّكِرَةِ الَّتِي لَا تَعُمُّ مَا يَتَنَاوَلُ الْأَشْخَاصَ.
المسألة الثَّالِثَةُ:
قَوْلُهُ: {مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا} يَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّلَاةِ عَلَى كُلِّ ذَاكِرٍ إذَا ذَكَرَ، سَوَاءٌ كَانَ الذِّكْرُ دَائِمًا، كَالتَّارِكِ لَهَا عَنْ عِلْمٍ، أَوْ كَانَ الذِّكْرُ طَارِئًا، كَالتَّارِكِ لَهَا عَنْ غَفْلَةٍ، وَكُلُّ نَاسٍ تَارِكٌ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِقَصْدٍ وَبِغَيْرِ قَصْدٍ، فَمَتَى كَانَ الذِّكْرُ وَجَبَ الْفِعْلُ دَائِمًا أَوْ مُنْقَطِعًا.
فَافْهَمُوا هَذِهِ النُّكْتَةَ تُرِيحُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ شَغَبِ الْمُبْتَدِعَةِ، فَمَا زَالُوا يُزَهِّدُونَ النَّاسَ فِي الصَّلَاةِ، حَتَّى قَالُوا: إنَّ مَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا، وَنَسَبُوا ذَلِكَ إلَى مَالِكٍ.
وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذِهْنَهُ أَحَدُّ، وَسَعْيَهُ فِي حِيَاطَةِ الدِّينِ آكَدُ مِنْ ذَلِكَ، إنَّمَا قَالَ: إنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مُتَعَمِّدًا لَا يَقْضِي أَبَدًا.
كَمَا قَالَ فِي الْأَثَرِ: {مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا لَمْ يُجْزِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ} إشَارَةً إلَى أَنَّ مَا مَضَى لَا يَعُودُ، لَكِنْ مَعَ هَذَا لابد مِنْ تَوْفِيَةِ التَّكْلِيفِ حَقَّهُ بِإِقَامَةِ الْقَضَاءِ مَقَامَ الْأَدَاءِ، وَإِتْبَاعِهِ بِالتَّوْبَةِ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ.
المسألة الرَّابِعَةُ:
قَالَتْ الْمُتَزَهِّدَةُ: مَعْنَى: {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} أَيْ: لَا تَذْكُرْ فِيهَا غَيْرِي، فَإِنَّهُ قَالَ: فَاعْبُدْنِي، أَيْ لِي تَذَلَّلْ، وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِمُجَرَّدِ ذِكْرِي، تَحَرَّمَ عَنْ الدُّنْيَا، وَأَخْلِصْ لِلْأُخْرَى، وَاعْمُرْ لِسَانَك وَقَلْبَك بِذِكْرِ الْمَوْلَى.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ هُوَ الْأَوْلَى، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ كُتِبَ لَهُ مِنْهَا بِمِقْدَارِ ذَلِكَ فِيهَا، وَقَدْ مَهَّدْنَا هَذَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} أي قد أتاك حال موسى فيما اجتباه ربه لنبوته وحمله من رسالته. واحتمل ذلك أن يكون ذلك بما قصه عليه في هذا الموضع، واحتمل أن يكون بما عرفه في غيره.
{إِذْ رَءَا نَارًا} وكانت عند موسى نارًا، وعند الله نورًا، قال مقاتل: وكانت ليلة الجمعة في الشتاء.
{فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُواْ} أي أقيموا. والفرق بين المكث والإقامة أن الإقامة تدوم والمكث لا يدوم.
{إِنِّي أَنَسْتُ نَارًا} فيه وجهان:
أحدهما: رأيت نارًا.
والثاني: إني آنست بنار.
{لَّعَلِّي ءَآتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ} أي بنار تصطلون بها.
{أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} فيه وجهان:
أحدهما: هاديًا يهديني الطريق، قاله قتادة.
والثاني: علامة أستدل بها على الطريق. وكانوا قد ضلوا عنه فمكثوا بمكانهم بعد ذهاب موسى ثلاثة أيام حتى مر بهم راعي القرية فأخبره بمسير موسى، فعادوا مع الراعي إلى قريتهم وأقامواْ بها أربعين سنةً حتى أنجز موسى أمر ربه.
قوله تعالى: {فلمَّآ أتَاهَا} يعني النار، التي هو نور {نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ} وفي هذا النداء قولان:
أحدهما: أنه تفرد بندائه.
الثاني: أن الله أنطق النور بهذا النداء فكان من نوره الذي لا ينفصل عنه، فصار نداء منه أعلمه به ربه لتسكن نفسه ويحمل عنه أمره فقدم تأديبه بقوله: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} الآية. وفي أمرْه بخلعهما قولان:
أحدهما: ليباشر بقدميه بركة الوادي المقدس، قاله علي بن أبي طالب، والحسن، وابن جريج.
والثاني: لأن نعليه كانتا من جلد حمار ميت، قاله كعب، وعكرمة، وقتادة.
{إِنَكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} فيه وجهان:
أحدهما: أن المقدس هو المبارك، قاله ابن عباس، ومجاهد.
والثاني: أنه المطهر، قاله قطرب، وقال الشاعر:
وأنت وصول للأقارب مدره ** برئ من الآفات من مقدس

وفي {طُوىً} خمسة تأويلات:
أحدها: أنه اسم من طوى لأنه مر بواديها ليلًا فطواه، قاله ابن عباس.
الثاني: سمي طوى لأن الله تعالى ناداه مرتين. وطوى في كلامهم بمعنى مرتين، لأن الثانية إذا أعقبتها الأولى صارت كالمطوية عليها.
الثالث: بل سمي بذلك لأن الوادي قدس مرتين، قاله الحسن.
الرابع: أن معنى طوى: طَإِ الوادي بقدمك، قاله مجاهد.
الخامس: أنه الاسم للوادي قديمًا، قاله ابن زيد:
فخلع موسى نعليه ورمى بهما وراء الوادي.
قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: وأقم الصلاة لتذكرني فيها، قاله مجاهد.
والثاني: وأقم الصلاة بذكري، لأنه لا يُدْخَلُ في الصلاة إلا بذكره.
الثالث: وأقم الصلاة حين تذكرها، قاله إبراهيم. وروى سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ نَسِيَ صَلاَةَ فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَلاَةَ لِذَكرِي}. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)}.
هذا الأستفهام هو توقيف مضمنه تنبيه النفس إلى استماع ما يورد عليها، وهذا كما تبدأ الرجل إذا أدرت إخباره بأمر غريب فتقول أعلمت كذا وكذا، ثم تبدأ تخبره. والعامل في {إذ} ما تضمنه قوله: {حديث} من معنى الفعل، وتقديره {وهل أتاك} ما فعل موسى {إذ رأى نارًا} أو نحو هذا، وكان من قصة موسى عليه السلام أنه رجل من مدين بأهله بنت شعيب وهو يريد أرض مصر وقد طالت مدة جنايته هنالك فرجًا عن طريقه في ليلة مظلمة وندية ويروى أنه فقد الماء فلم يدر أين يطلبه فبينما هو كذلك وقد قدح بزنده فلم يور شيئًا {إذ رأى نارًا فقال لأهله امكثوا} أي أقيموا، وذهب هو إلى النار فإذا هي مضطرمة في شجرة خضراء يانعة قيل كانت من عناب، وقيل من عوسج، وقيل من عليقة، فلما دنا منها تباعدت منه ومشت، فإذا رجع عنها اتبعته فلما رأى ذلك أيقن أن هذا أمر من أمور الله تعالى الخارقة للعادة، وانقضى أمره كله في تلك الليلة، هذا قول الجمهور وهوالحق، وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال: أقام في ذلك الأمر حولًا ومكثه أهله ع: وهذا غير صحيح عن ابن عباس وضعيف في نفسه. و{آنست} معناه أحسست ومنه قول الحارث بن حلزة: الخفيف:
آنست نبأة وروعها القَنْ ** ناص ليلًا وقد دنا الإمساء

والنار على البعد لا تحس إلا بالأبصار، فلذلك فسر بعضهم اللفظ برأيت، و{آنس} أعم من {رأى} لأنك تقول آنست من فلان خيرًا أو شرًا. والقبس الجذوة من النار تكون على رأس العود أو القصبة أو نحوه، و{الهدى} أراد الطريق، أي لعلي أجد ذا هدى أي مرشدًا لي أو دليلا، وإن لم يكن مخبرًا. و{الهدى} يعم هذا كله وإنما رجا موسى عليه السلام هدى نازلته فصادف الهدى على الإطلاق، وفي ذكر قصة موسى بأسرها في هذه السورة تسلية للنبي عما لقي في تبليغه من المشقات وكفر الناس فإنما هي له على جهة التمثيل في أمره. وروي عن نافع وحمزة: {لأهلهُ امكثوا} بضمة الهاء وكذلك في القصص، وكسر الباقون الهاء فيهما. وقوله تعالى: {فلما أتاها} الضمير عائد على النار، وقوله: {نودي} كناية عن تكليم الله له، وفي {نودي} ضمير يقوم مقام الفاعل، وإن شئت جعلته موسى إذ قد جرى ذكره، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: {إني} بكسر الألف على الإبتداء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {أني} بفتح الألف على معنى لأجل أني {أنا ربك فاخلع نعليك}، و{نودي} قد توصل بحرف الجر وأنشد أبو علي: الكامل:
ناديت باسم ربيعة بن مكدم ** أن المنوه باسمه الموثوق

واختلف المتأولون في السبب الذي من أجله أمر بخلع النعلين، فقالت فرقة كانتا من جلد حمار ميت فأمر بطرح النجاسة، وقالت فرقة بل كانت نعلاه من جلد بقرة ذكي لكن أمر بخلعها لينال بركة الوادي المقدس وتمس قدماه تربة الوادي، وتحتمل الآية معنى آخر هو الأليق بها عندي، وذلك أن الله تعالى أمره أن يتواضع لعظم الحال التي حصل فيها، والعرف عند الملوك أن تخلع النعلان ويبلغ الإنسان إلى غاية تواضعه، فكأن موسى عليه السلام أمر بذلك على هذا الوجه، ولا نبالي كانت نعلاه من ميتة أو غيرها، و{المقدس} معناه المطهر، و{طوى} معناه مرتين مرتين، فقالت فرقة معناه قدس مرتين، وقالت فرقة معناه طويته أنت، أي سرت به، أي طويت لك الأرض مرتين من طيك، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: {طوىً} بالتنوين على أنه اسم المكان، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {طوى} على أنه اسم البقعة دون تنوين، وقرأ هؤلاء كلهم بضم الطاء، وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو بكسر الطاء، وقرأت فرقة {طاوي} وقالت فرقة هو اسم الوادي، و{طوى} على التأويل الأول بمنزلة قولهم ثنى وثنى أي مثنيًا، وقرأ السبعة غير حمزة {وأنا اخترتك} ويؤيد هذه القراءة تناسبها مع قوله: {أنا ربك} وفي مصحف أبي بن كعب {وأني اخترتك}، وقرأ حمزة {وأنّا اخترناك} بالجمع وفتح الهمزة وشد النون، والآية على هذا بمنزلة قوله: {سبحان الذي أسرى بعبده} [الأسراء: 1] ثم قال: {وآتينا} [الإسراء: 2] فخرج من إفراد إلى جمع، وقرأت فرقة: {وإنا اخترناك} بكسر الألف.
قال القاضي أبو محمد: وحدثني أبي رضي الله عنه قال: سمعت أبا الفضل بن الجوهري يقول: لما قيل لموسى {فاستمع} وقف على حجر، واستند إلى حجر، ووضع يمينه على شماله وألقى ذقنه على صدره، ووقف يستمع وكان كل لباسه وصوفًا. وقرأت فرقة {بالواد المقدس طاوي} وقوله: {وأقم الصلاة لذكري} يحتمل أن يريد لتذكيري فيها أو يريد لأذكرك في عليين بها فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول واللام لام السبب، وقالت فرقة معنى قوله: {لذكري} أي عند ذكري إذا ذكرتني وأمري لك بها، فاللام على هذا بمنزلتها في قوله: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء: 78] وقرأت فرقة {للذكرى}، وقرأت فرقة {لذكرى} بغير تعريف، وقرأت فرقة {للذكر}. اهـ.