فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)}.
إذا جاء الاستفهام من الله تعالى فاعلم أنه استفهام على غير حقيقته، فلا يُرَاد هنا طب الفهم، لأن أخبار محمد تأتيه من ربه عز وجل فكيف يستفهم منه. إنما المراد بالاستفهام هنا التشويق لما سيأتي كما تقول لصاحبك: هل بلغك ما حدث بالأمس؟ فيُشوِّقه لسماع ما حدث.
والحديث: أي الخبر عنه سواء أكان بالوحي، أو بغير الوحي، كأن حكيت له قصة موسى عليه السلام.. فهل بلغتْك هذه القصة؟ اسمعها الآن مني: {إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ}.
{إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)}.
نلحظ هنا أن السياق لم يذكر قصة موسى من أولها لما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7] ثم خروجه من المدينة خائفًا وذهابه إلى شعيب.... إلخ، وإنما قصد إلى مَنَاط الأمر، وهي الرسالة مباشرة.
وقوله: {إني آنَسْتُ نَارًا لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى} [طه: 10] آنست: أي أبصرت، وشعرت بشيء يستأنس به ويُفرَح به ويُطمأن إليه، ومقابلها توجست للشر الذي يخاف منه كما في قوله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} [طه: 67].
{لَعلَّي} رجاء أنْ أجدَ فيها القبس، وهو شعلة النار التي تُتَّخذ من النار إنْ إدركت النار وهي ذات لَهَب، فتأخذ منها عودًا مشتعلًا مثل الشمعة.
وفي سياق آخر قال: {جذوة} وهي النار حينما ينطفىء لهبها ويبقى منها جمرات يمكن أن تشعل منها النار. وفي موضع آخر قال: {سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} [النمل: 7].
وهذه كلها صور متعددة، وحالات للنار، ليس فيها تعارض كما يحلو للبعض أن يقول، فموسى عليه السلام حينما قال: {لعلي آتِيكُمْ} [طه: 10] يرجو أن يجد القبس، لكن لا يدري حال النار عندما يأتيها، أتكون قَبَسًا أم جَذوة؟
وقد طلب موسى عليه السلام القَبَس لأهله؛ لأنهم كانوا في ليلة مطيرة شديدة البرد، وهم غرباء لا يعلمون شيئًا عن المكان، فهو غير مطروق لهم فيسيرون لا يعرفون لهم اتجاهًا، فماذا يفعل موسى عليه السلام ومعه زوجته وولده الصغير وخادمه؟
إنهم في أمسِّ الحاجة للنار، إما للتدفئة في هذا الجو القارس، وإما لطلب هداية الطريق، لذلك قال: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى} [طه: 10] أي: هاديًا يدلّنا على الطريق.
وفي موضع آخر قال: {لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} [القصص: 29].
لذلك لما أبصر موسى عليه السلام النار أسرع إليها بعد أنْ طمأن أهله: {امكثوا إني آنَسْتُ نَارًا} [طه: 10].
وهذه المسألة من قصة موسى كانت مثَارَ تشكيك من خصوم الإسلام، حيث وجدوا سياقات مختلفة لقصة واحدة، فمرة يقول: {امكثوا إني آنَسْتُ نَارًا لعلي آتِيكُمْ} [طه: 10]، وفي موضع آخر يقول: {لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} [القصص: 29].
ومرة يقول: {قَبَس} وأخرى يقول {بِشهَابٍ قَبَسٍ} ومرة {بجَذْوَة} ومرة يقول: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى} [طه: 10] ومرة يقول: {لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} [القصص: 29].
والمتأمل في الموقف الذي يعيشه الآن موسى وامرأته وولده الصغير وخادمه في هذا المكان المنقطع وقد أكفهرَّ عليهم الجو، يجد اختلاف السياق هنا أمرًا طبيعيًا، فكلُّ منهم يستقبل الخبر من موسى بشكل خاص، فلما رأى النار وأخبرهم بها أراد أنْ يُطمئنهم فقال: {سَآتِيكُمْ} [النمل: 7] فلما رآهم مُتعلِّقين به يقولون: لا تتركنا في هذا المكان قال: {امكثوا} [طه: 10] وربما قال هذه لزوجه وولده وقال هذه لخادمه. فلابد أنهم راجعوه. فاختلفت الأقوال حول الموقف الواحد.
كذلك في قوله: قَبَسٍ أو جَذْوةٍ لأنه حين قال: {لعلي آتِيكُمْ} [طه: 10] يرجو أن يجد هناك القبس، لكن لعله يذهب فيجد النار جَذْوة. وفي مرة أخرى يجزم فيقول: {سَآتِيكُمْ} [النمل: 7].
إذن: هي لقطات مختلفة تُكوِّن نسيج القصة الكاملة، وتعددتْ الكلمات لأن الموقف قابلٌ للمراجعة، ولا ينتهي بكلمة واحدة.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ}.
يقال: إن موسى عليه السلام لما أتاها وجد نورًا يتلألأ في شجرة، لكن لا خضرةُ الشجرة تؤثر في النور فتبهته، ولا النورُ يطغي على خضرة الشجرة فيمنع عنها الخضرة، فهي إذن مسألة عجيبة لا يقدر عليها إلا الله.
فكانت هذه النار هي أول الإيناس لموسى في هذا المكان الموحِش، وكأن هذا المنظر العجيب الذي رآه إعداد إلهي لموسى حتى يتلقَّى عن ربه، فليستْ المسألة مجرد منظر طبيعي.
وقوله تعالى: {نُودِيَ ياموسى} [طه: 11] أي: في هذه الدهشة {نُودِيَ} [طه: 11] فالذي يناديه يعرفه تمامًا؛ لذلك ناداه باسمه {ياموسى} [طه: 11] وما دام الأمر كذلك فطَمع الخير فيه موجود، وبدأ موسى يطمئن إلى مصدر النداء، ويأنَسُ به، ويبحث عن مصدر هذا الصوت، ولا يعرف من أين هو؛ لذلك اعتبرها مسألة عجيبة مثل منظر الشجرة التي ينبعث منها النور.
{إني أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ}.
فساعة أنْ كلَّمه ربه: {إني أَنَاْ رَبُّكَ} [طه: 12] أزال ما في نفسه من العجب والدهشة لما رآه وسمعه، وعلم أنها من الله تعالى فاطمأنَّ واستبشر أنْ يرى عجائب أخرى؟
ونلحظ في قوله تعالى: {إني أَنَاْ رَبُّكَ} [طه: 12] أن الحق تبارك وتعالى حينما يتحدَّث عن ذاته تعالى يتحدث بضمير المفرد {إني أَنَاْ رَبُّكَ} [طه: 12] وحينما يتحدث عن فِعْله يتحدث بصيغة الجمع، كما في قوله عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9] {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا} [مريم: 40].
فلماذا تكلَّم عن الفعل بصيغة الجمع، في حين يدعونا إلى توحيده وعدم الإشراك به؟ قالوا: الكلام عن ذاته تعالى لابد فيه من التوحيد، كما في: {إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني وَأَقِمِ الصلاة لذكري} [طه: 14].
لكن في الفعل يتكلم بصيغة الجمع؛ لأن الفعل يحتاج إلى صفات متعددة وإمكانات شتَّى، يحتاج إلى إرادة تريده، وقدرة على تنفيذه وإمكانات وعلم وحكمة.
إذن: كل صفات الحق تتكاتف في الفعل؛ لذلك جاء الحديث عنه بصيغة الجمع، ويقولون في النون في قوله: {نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9] {نَرِثُ الأرض} [مريم: 40] أنها: نون التعظيم.
وقد جاء الخطاب لموسى بلفظ الربوبية {إني أَنَاْ رَبُّكَ} [طه: 12] لإيناس موسى؛ لأن الربوبية عطاء، فخطابه بربك أي الذي يتولّى رعايتك وتربيتك، وقد خلقك من عَدَم، وأمدك من عُدم، ولم يقُلْ: إني أنا الله؛ لأن الألوهية مطلوبها تكليف وعبادة وتقييد للحركة بافعل كذا ولا تفعل كذا.
وقوله تعالى: {إني أَنَاْ رَبُّكَ} [طه: 12] أي: ربك أنت بالذات لا الرب المطلق؛ لأن الرسل مختلفون عن الخَلْقِ جميعًا، فلهم تربية مخصوصة، كما قال تعالى: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 39] وقال: {واصطنعتك لِنَفْسِي} [طه: 41].
إذن: فالحق تبارك وتعالى يُربِّي الرسل تربيةً تناسب المهمة التي سيقومون بها.
وقوله تعالى: {فاخلع نَعْلَيْكَ} [طه: 12] هذا أول أمر، وخَلْعِ النعل للتواضع وإظهار المهابة؛ ولأن المكان مُقدَّس والعلة {إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى} [طه: 12] فاخلع نعليك حتى لا تفصل بينك وبين مباشرة ذرات هذا التراب.
ومن ذلك ما نراه في مدينة رسول الله من أناس يمشون بها حافيي الأقدام، يقول أحدهم: لَعلِّي أصادف بقدمي موضع قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {طُوًى} [طه: 12] اسم الوادي وهذا كلام عام جاء تحديده في موضع آخر، فقال سبحانه: {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن فِي البقعة المباركة مِنَ الشجرة} [القصص: 30].
والبعض يرى في الآية تكرارًا، وليست الآية كذلك، إنما هو تأسيس لكلام جديد يُوضِّح ويُحدِّد مكان الوادي المقدس طوى أين هو، فإنْ قلتَ: أين طوى؟ يقول لك: في الواد الأيمن، لكن الواد الأيمن نفسه طويل، فأين منه هذا المكان؟ يقول لك: عند البقعة المباركة من الشجرة.
إذن: فالآية الثانية تحدد لك المكان، كما تقول أنت: أسكن في حي كذا، وفي شارع كذا، في رقم كذا.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَأَنَا اخترتك فاستمع}.
أي: وإنْ كنتُ ربًا لك وربًا للكافرين فسوف أزيدك خصوصية لك {وَأَنَا اخترتك} [طه: 13] أي: للرسالة، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
لذلك لم نزل القرآن على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اعترض كفار مكة على القرآن، ولم يجدوا فيه عيبًا فيما يدعو إليه من أخلاق فاضلة ومُثل عليا، ولم يجدوا فيه مَأْخذًا في أسلوبه، وهم أمة ألِفتْ الأسلوب الجيد، وعَشقَتْ آذانها فصاحة الكلام، فتوجهوا بنقدهم إلى رسول الله فقالوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
فكلُّ اعتراضهم أنْ ينزلَ القرآن على محمد بالذات؛ لذلك رَدَّ عليهم القرآن بما يكشف غباءهم في هذه المسألة، فقال: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] كيف ونحن قد قسمنا بينهم معيشتهم الأدْنى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ} [الزخرف: 32].
وهم يريدون أنْ يقسموا رحمة الله فيقولون: نزل هذا على هذا، وهذا على هذا؟
ثم يقول تعالى: {فاستمع لِمَا يوحى} [طه: 13] مادة: سمع. منها: سمع، واستمع وتسمَّع. قولنا: سمع أي مصادفة وأنت تسير في الطريق تسمع كلامًا كثيرًا. منه ما يُهمك وما لا يهمك، فليس على الأذن حجاب يمنع السمع كالجفْنِ للعين، مثلًا حين ترى منظرًا لا تحبه.
إذن: أنت تسمع كل ما يصل إلى أذنك، فليس لك فيه خيار.
إنما: استمع أنْ تتكلَّف السماع، والمتكلم حُر في أنْ يتكلم أو لا يتكلم.
وتسمَّع. أي: تكلّف أشدّ تكلّفًا لكي يسمع.
لذلك؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم حين يخبر أنه ستُعم بلوى الغِنَاء، وستنتشر الأجهزة التي ستشيع هذه البلوى، وتصبها في كل الآذان رَغْمًا عنها يقول: «مَنْ تسمَّع إلى قَيْنة صب الآنك في أذنيه».
أي: تكلَّف أنْ يسمع، وتعمَّد أن يوجه جهاز الراديو أو التلفزيون إلى هذا الغناء، ولم يقُل: سمع، وإلاّ فالجميع يناله من هذا الشر رَغْمًا عنه.
وهنا قال تعالى: {فَاسْتَمِعْ} ولم يقُلْ: تسمَّع: لأنه لا يقترح على الله تعالى أنْ يتكلم، ومعنى: استمع أي: جَنِّد كلَّ جوارحك، وهيىء كُلَّ حواسّك لأن تسمع، فإنْ كانت الأذن للسمع، فهناك حواسّ أخرى يمكن أنْ تشغلها عن الانتباه، فالعين تبصر، والأنف يشمّ، واللسان يتكلم.
فعليك أنْ تُجنِّد كل الحواسّ لكي تسمع، وتستحضر قلبك لتعي ما تسمعه، وتنفذ ما طلب منك؛ لذلك حين تخاطب صاحبك فتجده مُنْشغِلًا عنك تقول: كأنك لست معنا. لماذا؟ لأن جارحة من جوارحه شردتْ، فشغلتْه عن السماع.
وقوله تعالى: {لِمَا يوحى} [طه: 13] الوحي عمومًا: إعلام بخفاء من أيٍّ لأيٍّ في أيٍّ، خيرًا كان أم شرًا، أمّا الوحي الشرعي فهو: إعلام من الله إلى رسول أرسله بمنهج خَيْر للعباد، فإنْ كان الوحي من الله إلى أم موسى مثلًا، أو إلى الحواريين فليس هذا من الوحي الشرعي.
وهكذا تحدَّدَتْ من أيٍّ لأيٍّ في أيٍّ.
لكن، كيف ينزل الوحي من الله تعالى على الرسول؟ كيف تلتقى الألوهية في عُلُوِّها بالبشرية في دُنوها؟ إذن: لابد من واسطة؛ لذلك قال تعالى: {الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلًا وَمِنَ الناس} [الحج: 75].
فالمصطفى من الملائكة يتقبَّل من الله، ويعطي للمصطفى من البشر؛ لأن الأعلى لا يمكن أنْ يلتقي بالأدنى مباشرة {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51].
فاستعداد الإنسان وطبيعته لا تُؤهّله لهذا اللقاء، كيف ولما تجلَّى الحق سبحانه للجبل جعله دَكًّا، ومن عظمته سبحانه أننا لا نراه ولا نتكلم معه مباشرة، ولا نُحِسّه بأيّ حاسة من حواسنا، ولو حُسَّ الإله بأيِّ حاسة ما استحق أنْ يكونَ إلهًا.
وكيف يُحَسُّ الحق تبارك وتعالى ومن خَلْقه وصَنْعته مَا لا يُحَسُّ، كالروح مثلًا؟ فنحن لا نعلم كُنْهها، ولا أين هي، ولا نُحِسّها بأيّ حاسّة من حواسنا، فإذا كانت الروح المخلوقة لم نستطع أنْ ندركها، فكيف ندرك خالقها؟
الحق الذي يدَّعيه الناس ويتمسَّحون فيه، ويفخر كل منهم أنه يقول كلمة الحق، وكذلك العدل وغيرها من المعاني: أتدركها، أتعرف لها شكلًا؟ فكيف إذن تطمع في أنْ تدرك الخالق عز وجل؟
إذن: من عظمته سبحانه أنه لا تدركه الحواس، ولا يلتقي بالخَلْق لقاءً مباشرًا، فالمصطفى من الملائكة يأخذ عن الله، ويعطي للمصطفى من الخَلْق، ثم المصطفى من الخَلْق يعطي للخَلْق، ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم يجهد، ويتصبَّب جبينه عَرَقًا في أول الوحي؟
ولذلك شاء الحق سبحانه أنْ يحجبَ الوحي عن رسوله فترة ليستريح من مباشرة المَلِك له، وبانقطاع الوحي تبقى لرسول الله حلاوة ما أوحي إليه ويتشوّق إلى الوحي من جديد، فيهون عليه ما يلاقي في سبيله من مشقة؛ لأن انشغال القلب بالشيء يُنسي متاعبه؟.
وقد رُوي أنه صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي يُسمَع حوله دَوِيٌّ كدَويِّ النحل، ولو صادف أن رسول الله وضع رجله على أحد أصحابه حين نزول الوحي عليه فكان الصحابي يشعر كأنها جبل، وإن نزل الوحي وهو على دابة كانت تنخ وتئن من ثِقَله.
وقد مثّلنا للواسطة بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية بالتيار الكهربائي حين نُوصِّله بمصباح صغير لا يتحمل قوة التيار، فيضعون له جهازًا ينظم التيار، ويعطي للمصباح على قَدْر حاجته وإلاّ يحترق.
ثم يقول الحق سبحانه: {إنني أَنَا الله}.
في الآية قبل السابقة خاطبه ربه: {إني أَنَاْ رَبُّكَ} [طه: 12] ليُطمئنه ويُؤنسه بأنه المربِّي العطوف، يعطي حتى للكافر الذي يعصاه، لكن هنا يخاطبه بقوله: {إنني أَنَا الله} [طه: 14] أي: صاحب التكاليف، والمعبود المطاع في الأمر والنهي، وأوّل هذه التكاليف وقمّتها، والينبوع الذي يصدر عنه كل السلوك الإيماني: {إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ} [طه: 14].