فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لذلك قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: «خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله».
وما دام لا إله إلا هو فلا يصح أنْ نتلقَّى الأمر والنهي إلاَّ منه، ولا نعتمد إلا عليه، ولا يشغل قلوبنا غيره، وهو سبحانه يريد منا أنْ نكون وكلاء: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان: 58].
فالناصح الفطن الذي لا يتوكل على أحد غير الله، فربما توكّلت على أحد غيره، فأصبحت فلم تجده، وصدق الشاعر حين قال:
اجْعَلْ بربِّكَ كُلَّ عِ ** زِّكَ يسْتقِرُّ وَيثبتُ

فَإِذَا اعْتَززْتَ بمَنْ يمو ** تُ فإنَّ عِزَّكَ ميِّتُ

فكأن الحق سبحانه في قوله: {لا إله إلا أَنَاْ} [طه: 14] يقول لموسى: لا تخفْ، فلن تتلقى أوامر من غيري، كما قال سبحانه في أية أخرى: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلًا} [الإسراء: 42].
أي: لذهبَ هؤلاء الذي يدَّعُون الألوهية إلى الله يجادلونه أو يتودَّدون إليه، ولم يحدث شيء من هذا.
ويشترط فيمن يُعطي الأوامر ويُشرِّع ويُقنِّن ألاَّ ينتفع بشيء من ذلك، وأن تكون أوامره ونواهيه لمصلحة المأمورين، ومن هنا يختلف قانون الله عن قانون البشر الذي يدخله الهوى وتخالطه المصالح والأغراض، فمثلًا إنْ كان المشرِّع والمقنِّن من العمال انحاز لهم ورفعهم فوق الرأسماليين، وإن كان من هؤلاء رفعهم فوق العمال.
وكذلك ألاَّ يغيب عنه شيء يمكن أنْ يُستدرك فيما بعد، وهذه الشروط لا توجد إلا في التشريع الإلهي، فله سبحانه صفات الكمال قبل أن يخلق الخَلْق.
لذلك قال بعدها: {فاعبدني} [طه: 14] بطاعة أوامري واجتناب نواهيَّ، فليس لي هَوَى فيما آمرك به، إنما هي مصلحتك وسلامتك.
ومعنى العبادة: الناس يظنون أنها الصلاة والزكاة والصوم والحج، إنما للعبادة معنى أوسع من ذلك بكثير، فكلُّ حركة في الحياة تؤدي إلى العبادة، فهي عبادة كما نقول في القاعدة: كُلُّ ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب.
فالصلاة مثلًا لا تتم إلا بستْر العورة، وعليك أنْ تتأمل قطعة القماش هذه التي تستر بها عورتك: كم يد ساهمتْ فيها منذ كانتْ بذرة في الأرض، إلى أنْ أصبحتْ قماشًا رقيقًا يستر عورتك؟ فكلُّ واحد من هؤلاء كان في عبادة وهو يُؤدِّي مهمته في هذه المسألة.
كذلك رغيف العيش الذي تأكله، صنبور المياه الذي تتوضأ منه، كم وراءها من أيادٍ وعمال ومصانع وعلماء وإمكانات جُنِّدَتْ لخدمتك، لتتمكن من أداء حركتك في الحياة؟
لذلك، فالحق تبارك وتعالى حينما يُحدِّثنا عن الصلاة يوم الجمعة يقول: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 910].
وهكذا أخرجنا إلى الصلاة من عمل، وبعد الصلاة أمرنا بالعمل والسعي والانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله، فمخالفة الأمر في: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] كمخالفة الأمر في: {فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 10].
وخَصَّ البيع هنا؛ لأن البائع أحرص على بيْعه من المشتري على شرائه، وربما كان من مصلحة المشتري ألاَّ يشتري؟
فالإسلام إذن لا يعرف التكاسل، ولا يرضى بالتنبلة والقعود، ومَنْ أراد السكون فلا ينتفع بحركة متحرِّك.
وسيدنا عمر رضي الله عنه حينما رأى رجلًا يقيم بالمسجد لا يفارقه سأل: ومَنْ ينفق عليه؟ قالوا: أخوه، قال: أخوه أعبد منه. لماذا؟ لأنه يسهم في حركة الحياة ويوسع المنفعة على الناس.
إذن: فكلُّ عمل نافع عبادة شريطة أنْ تتوفر له النية، فالكافر يعمل وفي نيته أنْ يرزق نفسه، فلو فعل المؤمن كذلك، فما الفرق بينهما؟ المؤمن يعمل، نعم لِيقوتَ نفسه، وأيضًا ليُيسِّر لإخوانه قُوتَهم وحركة حياتهم. فسائق التاكسي مثلًا إذا عمل بمبلغ يكفيه، ثم انصرف إلى بيته، وأوقف سيارته، فمَنْ للمريض الذي يحتاج مَنْ يُوصِّله للطبيب؟ والبائع لو اكتسب رزقه، ثم أغلق دكانه مَنْ يبيع للناس؟
إذن: اعمل لنفسك، وفي بالك أيضًا مصلحة الغير وحاجتهم، فإنْ فعلتَ ذلك فأنت في عبادة. تعمل على قَدْر طاقتك، لا على قَدْر حاجتك، ثم تأخذ حاجتك من منتوج الطاقة، والباقي يُرَدُّ على الناس إما في صورة صدقة، وإما بثمن، وحَسْبك أنْ يسرت له السبيل.
إذن: نقول: العبادة كل حركة تؤدي خدمة في الكون نيتك فيها لله.
ثم يقول تعالى: {وَأَقِمِ الصلاة لذكري} [طه: 14] فلماذا خَصَّ الصلاة دون سائر العبادات؟
قالوا: لأن الصلاة هي العبادة الدائمة التي لا تنحلّ عن المؤمن، ما دام فيه نَفَس، فالزكاة مثلًا تسقط عن الفقير، والصيام يسقط عن المريض، والحج يسقط عن غير المستطيع، أمّا الصلاة فلا عذر أبدًا يبيح تركها، فتصلي قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا، فإنْ لم تستطيع تصلي، ولو إيماءً برأسك أو بجفونك، فإنْ لم تستطع فحَسْبُك أن تخطرها على قلبك، ما دام لك وَعْي، فهي لا تسقط عنك بحال.
كذلك، فالصلاة عبادة مُتكرِّرة: خمس مرات في اليوم والليلة؛ لتذكرك باستمرار إنْ أنستْك مشاغل الحياة رب هذه الحياة، وتعرض نفسك على ربك وخالقك خمس مرات كل يوم.
وما بالك بآلة تُعرَض على صانعها هكذا، أيمكن أن يحدث بها عُطّْل أو عَطَب؟
أما الزكاة فهي كل عام، أو كل محصول، والصوم شهر في العام، والحج مرة واحدة في العمر.
لذلك، كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما حَزَبه أمر قام إلى الصلاة ليعرض نفسه على ربه وخالقه عز وجل، ونحن نصنع هذا في الصنعة المادية حين نعرض الآلة على صانعها ومهندسها الذي يعرف قانون صيانتها.
وفي الحديث الشريف: «وجعلت قرة عيني في الصلاة».
وسبق أن ذكرنا أن للصلاة أهميتها؛ لأنها تُذكِّرك بربك كل يوم خمس مرات، وتُذكِّرك أيضًا بنفسك، وبقَدر الله في الآخرين حين ترى الرئيس ومرؤوسه جَنْبًا إلى جَنْب في صفوف الصلاة، فإنْ جئتَ قبل رئيسك جلستَ في الصف الأول، وجلس هو خلفك، ثم تراه وهو منُكسِر ذليل لله تعالى، وهو يعرف أنك تراه على هذه الهيئة فيكون ذلك أدْعى لتواضعه معك وعدم تعاليه عليك بعد ذلك.
وكم رأينا من أصحاب مناصب وقيادة يبكون عند الحرم، ويتعلقون بأستار الكعبة وعند المتلزم، وهو العظيم الذي يعمل له الناس ألف حساب. ففي الصلاة إذن استطراق للعبودية لله تعالى.
لذلك من أخطر ما مُنِي به المسلمون أنْ تجعلَ في المسجد أماكن خاصة لنوعية معينة يُخلَى لها المكَان، ويصاحبها الحرس حتى في بيت الله، ثم يأتي في آخر الوقت ويجلس في الصف الأول، وآخر يفرش سجادته ليحجز بها مكانًا لحين حضوره، فيجد المكان خاليًا.
وينبغي على عامة المسلمين أن يرفضوا هذا السلوك، وعليك أنْ تُنحِّي سجادته جانبًا، وتجلس أنت؛ لأن أولوية الجلوس بأولوية الحضور، فقد صفها الله في المسجد إقبالًا عليه. وهذه العادة السيئة تُوقع صاحبها في كثير من المحظورات، حيث يتخطى رقاب الناس، ويُميِّز نفسه عنهم دون حق، ويحدث انتقاص عبودي في بيت الله.
ولأهمية الصلاة ومكانتها بين العبادات تميِّزت في فرضها بما يناسب أهميتها، فكُلُّ العبادات فُرِضَتْ بالوحي إلا الصلاة، فقد استدعى الحق رسوله الصدق ليبلغه بها مباشرة لأهميتها.
وقد ضربنا لذلك مثلًا ولله المثل الأعلى بالرئيس إذا أراد أنْ يُبلِّغ مرؤوسه أمرًا يكتب إليه، فإنْ كان الأمر مهمًا اتصل به تليفونيًا، فإنْ كان أهمّ استدعاه إليه لِيُبلِّغه بنفسه. ولما قرَّبه الله إليه بفرض الصلاة جعل الصلاة تقرُّبًا لعباده إلى الله.
وقوله: {وَأَقِمِ الصلاة لذكري} [طه: 14] أقام الشيء: جعله قائمًا على أُسس محكمة، فإقامة الصلاة أن تؤديها مُحكَمة كاملة الأركان غير ناقصة.
{لذكري} [طه: 14] أي: لتذكري؛ لأن دوام ورتابة النعمة قد تُنسيك المنعم، فحين تسمع نداء الله أكبر، وترى الناس تُهرَع إلى بيوت الله لا يشغلهم عنها شاغل تتذكر إنْ كنتَ ناسيًا، وينتبه قلبك إنْ كنتَ غافلًا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 9-18]، وفي سورة النمل: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 7-8] إلى قوله: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} [النمل: 10].
وفي سورة القصص: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [القصص: 29-31]، هذه الآي من مشكلات الضرب الثاني الذي بنينا عليه مقصود هذا الكتاب، لأن محصولها الإخبار عن ابتداء أمر موسى، عليه السلام، في رسالته، وتكليم الله سبحانه إياه، وهو خبر واحد عن قصة واحدة قد وقعت وعين وقوعها ما وقعت عليه من الصفة التي التحدت بوقوعها وتبينت، فلا يمكن فيها العدول عما وقعت عليه، فكيف هذا الواقع الوارد في السورتين {امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارً} ولم يقع لفظ امكثوا في سورة النمل؟ وفي السورتين: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا} وفي النمل: {سَآتِيكُمْ مِنْهَا} فورد: سآتيكم عوض: لعلي؟ وفي طه {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} وفي النمل: {بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}، فقدم ذكر القبس في طه وآخر في السورتين، ثم اختلف التعبير عنه، فعبر عنه في القصص: {جَذْوَةٍ} وعوض في النمل فقيل {بِشِهَابٍ} مضافًا إلى القبس وكرر: {أَوْ آتِيكُمْ} في النمل ولم يقع ذلك في غيرها؟ وأفصح في السورتين الأخيرتين بالحاجة إلى النار وهو الاصطلاء ولم يقع ذلك في طه جملة؟ وعبر عن الخبر في طه بقوله: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} ولم يذكر ذلك في السورتين؟ فهذه مواضع اختلفت العبارة فيها، واختلفت في الزيادة والنقص، والتقديم والتأخير والتعويض، مع أن الإخبار عن واقعة معينة وقصة متحدة، والخبر الواحد الصدق لا تمكن فيه الزيادة ولا النقص ولا النسخ من حيث هو خبر ولا شيء مما ذكر، ويرجع السؤال فيها إلى شيئين: أجدهما وجه الاختلاف؟ والثاني وجه تخصيص كل موضع بما خص {به}؟.
فأقول مستعينًا بالله وسائلًا منه سبحانه {توفيقه} وإرشاده أن المعاني المتصورة في الأذهان المعقولة القائمة بنفوس العقلاء لا تحصل تعديتها إلى غير من قامت به إلا بالعبارات المترجمة عنها الألفاظ الاصطلاحية، وربما خوطب العالم بغيرها وما سوى اللفظ من إشارة وغيرها لا يستقل في تحصيل المعنى المترجم عنه استقلالها، وبالجملة فلم يخاطب إلا بها، وإذا تقرر هذا، فمن المعلوم أن اللفظ بالتفات مدلوله المعنوي يتعدد، ومرجع الألفاظ بالنظر إلى مسمياتها ينحصر في أربعة أقسام: إما أن يتحد اللفظ والمعنى، أو يختلف اللفظ والمعنى، أو يتحد اللفظ ويختلف المعنى، أو يختلف اللفظ ويتحد المعنى، ولا يقتضي النظر العقلي زائدًا على هذا التقسيم، وعلى مقتضاه دارت اللغات، وتخاطب العقلاء.
فالقسم الأول وهو المتحد اللفظ والمعنى هو المتواطئ، وهو دلالة لفظ على معنى، ثم يعرض لذلك المعنى عند التشخص كثرة فيكون ذلك اللفظ يدل على تلك الاشخاص بتواطئ، ومثاله: وجل وفرس وأسد، ومنه دلالة اسن النوع كالإنسان على أشخاصه، وكذلك دلالة الجنس على أنواعه كالحيوان على الإنسان والفرس والطائر.
والقسم الثاني هو مختلف اللفظ والمعنى، وهي الأسماء المتباينة، وهي أسماء مختلفة لمعان مختلفة، كل اسم منها يخص معناه الذي وضع له، نحو السواد والبياض والقدرة والعجز.
والقسم الثالث ما اتحد فيه اللفظ واختلف المعنى، وهي الأسماء المشتركة نحو عين للعضر الباصر وعين الماء ونحو ذلك، فاللفظ متحد والمعنى مختلف.
والقسم الرابع هو ما تعدد لفظه واتحد معناه، وهي المترادفة كالأسد والليث للحيوان المعروف، ثم يعرض للمشترك، وهو المتحد اللفظ مع اختلاف المعنى، تفاوت في قوة دلالته على ما تحته، وأعني بالتفاوت استقلال المعنى بنفسه غير مفتقر إلى الغير، وعدم استقلاله، {فينقسم} بحسب هذا إلأى متواطئ ومشكك كوقوع اسم موجود عليهما تفاوت بين، فهو في وقوعه على الجوهر {من} قسم المتواطئ، ووقوعه على العرض بتشكيك.
ثم من الألفاظ على الجملة مجازية، وهي الواقعة على مسمياتها {لا} على أنها أسماء لها بل وضعت لمناسبتها لما وضعت الأسماء الحقيقية بإزائها، ومن المعلوم في عوارض التركيب الضرب المسمى بلحن الخطاب، وهو خذف الكلمة من الجملة مع إرادتها، ودلالة السياق والمعنى عليها، كالواقع في قوله تعالى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63]، ولا شك أن المراد: فضرب فانفلق، ومما يلحق به عند الجمهور- إلا من قول بقول الكرخي- {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، والتقدير: فأفطر فعدة من أيام أخر، فهذا من لحن الخطاب ومن معروف التخاطب الجاري، وهي دلالة المنطوق على مسكوت عنه يفهمه السياق وقصد المتكلم من عرف اللغة، نحو فهم منع الضرب والشتم من قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، وهذا الضرب من المفهوم يجاري النصوص ولهذا لم يختلف فيه من أنكر القياس، فهذه جملة يستعان بها على تلقي ما يرد، وليست خاصة بالذي نحن فيه من هذه السورة ولا بموضوع دون موضوع.
ثم من المعلون-بإعلام الله سبحانه- أنه تعالى لم يرسل رسولًا إلا بلسان قومه، فموسى، عليه السلام، إنما خاطب أهله في هذه المحاورة باللسان العبراني الذي هو لسان قومه، وجل كلام ربنا عن الحرف والصوت والتقييد بالجملة، فالوارد في كتابنا إنما هو حكاية المعنى الذي خوطب به موسى، عليه السلام، وخاطب به، واللسان العبراني أقرب الألسنة إلى اللسان العربي، فما المانع أن يجري فيه ويطرد كل ما في اللسان العربي من الضروب المذكورة قل أو كثر ذلك.
ثم في الجواب عما تقدم ما لا يفتقر فيه إلى بنائه على ما مهدناه. فأقول مستعينًا بالله سبحانه في قول موسى، عليه السلام، لأهله: {امكثوا} وسقوط ذلك في سورة النمل قد يكون مما قاله، عليه السلام، نطقًا باللغة التي كلمهم بها، وقد يكون مما فهمه عنه أهله بإشارة أو قرينة أو حال، فيكون قد أمرهم بذلك على كل حال فإما بنطق أو غيره، فمرة حكى معنى نطقه أو مراده بما قد فهم عنه أهله الأمر، ومرة اكتفى بما بعد هذا الأمر اقتصارً على ما يحصل المقصود، فلا اختلاف ولا اعتراض في ذلك.
وأما قوله: {لَعَلِّي آتِيكُمْ} في السورتين وقوله في النمل: {سَآتِيكُمْ} فإن حرف التسويف يفهم الاستقبال، و{ولفظ} لعل أيضًا يعطي ذلك مع زيادة الترجي والطمع، فيمكن لتقارب معنييهما أن يكون في لسانهم عبارة موضوعة للمعنيين معًا، فلم يكن بد من ورود الحرفين عند الحكاية ليحرز ذلك وقوع المعنى وحصوله على ما هو في لسانهم.
وأما تقديم ذكر القبس في سورة طه على الخبر وتأخيره في السورتين فعنوان بين يعرف أن القصة محكية على معناها لضرورة اختلاف اللغتين ولو ورد الأخبار على التزام التقدين في إحداهما وتأخير الآخر على اللزوم لما أحرز ما ذكرنا.
وأما القبس والجذوة والشهاب من القبس فإن ذلك مما يتصل في لغتنا بمراعاة أدنى شيء يسوغ افتراق التسمية، وذلك كثير في لغتنا كقولهم: سيف وصارم ومهند، وقولهم في التمر طلع وضحك وإغريض وبلح وسياب إلى تمام أحواله العشر، له في كل حالة منها اسم والمسمى واحد، ومتى كان للعرب تعمم بشيء من الموجودات، وكان مما يكثر في كلامهم، وضعوا له عدة أسماء اتساعًا، حتى أنهم قد أنهو بعض المسميات إلى مائة اسم أو نحوها. وإنما ما كان هذا في لغة العرب لاضطرارهم إليه في الشعر والإسجاع، فلو لم تتسع اللغة العربية فيما ذكر لضاق عليهم الأمر واعتاص النظم والنثر، وأقرب شيء {أن} يكون التعبير في تلك اللغة وقع بلفظ واحد لا يعبر في لغتهم عن ذلك المراد المقصود لغيره، وقد أحرز وضع ذلك اللفظ العبراني ما عبر عنه في لغتنا بعدة أسماء، وسواء عني في كل اسم منها معنى ما في المسمى {أو كانت مترادفة على المسمى من غير أن يراعى في شيء منها معنى ما في المسمى}.
وأما تكرار: أو آتيكم في سورة النمل فليس فيه إلا تكرار ما يحرزالتأكيد، وتأكيد ما هو خبر ليس أمرًا ولا نهيًا إنما ثمرته وفائدته صدق الإخبار، وذلك حاصل هنا سواء تأكد أو لم يتأكد وإذا كان الكلام على ما قلنا والصدق حاصل على كل حال فلا ينكر إذا حكي بمعناه. أو يؤكد مرة ولا يؤكد أخرى، إذ لا زيادة للتأكيد فيه سوى الجري على مرتكبات العرب في مثله.
وأما الإفصاح في السورتين الأخريين بالحاجة إلى النار وهو الاصطلاء، ول يقع ذلك في طه، فإن ذلك إخبار بزيادة لا يعارضها شيء مما في سورة طه، فقوله: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه: 10]، فإفصاح بما هو معلوم من قوله في سورة النمل: {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} [النمل: 7]، لأن أهله لم يكن بهم من حاجة لغير الاصطلاء واستعلام طريقهم، فورد في سورة طه مفصحًا بالمقصود مفسرًا لما هو مفهوم في آيتي النمل والقصص من معنى الكلام وسياقه، فلا اختلاف في شيء من ذلك كله ولاتعارض ولا خلاف، والحمد لله.
والجواب عن السؤال الثاني: أن تخصيص كل سورة من هذه السور بما ورد فيها مقتضيه بين. أما أولًا فإن فواصل هذه السورة ومقاطع آيها مناسبة للوارد فيها، أما سورة طه فمقاطع آيها لازمة الألف المقصورة وعلى ذلك أي السور كلها، وأما النمل والقصص فقد اكتنف الواقع في آي هذه القصة فيها ما مقطعه النون الواقع قبلها الياء والواو الساكنتان بحسب ما تقدمهما من حركتي الضمة والكسرة. فإن قلت: إن السورتين مستويتان في هذا فما الفارق؟ قلت: الإيجاز والطول، أما سورة النمل فأوجز في هذا المقصد، وأما سورة القصص فإن خبر موسى، عليه السلام، فيها يكاد يستغرق آيها كلها، فناسبه طول الوارد فيها مما فيه الكلام، وذلك غير خاف. وتأمل الوارد في سورة طه من قوله تعالى مخبرًا عن نبيه موسى، عليه السلام، من قوله: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى}، ومناسبة ذلك لما بنيت عليه سورة طه من تأنيس نبينا صلى الله عليه وسلم، وافتتاحها بقوله تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 2]، يلح لك التلاؤم والتناسب، وقد وضح أن كل ما في كل سورة من السور الثلاث من هذه القصة لا يلائم غيرها، وأن كل قصة منها لا يحسن وقوعها في موضع الآخر لعدم المناسبة وبعد التلاؤم، والله أعلم. اهـ.