فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى}.
آية مشكلة؛ فروي عن سعيد بن جبير أنه قرأ {أَكَادُ أَخْفِيهَا} بفتح الهمزة؛ قال: أظهرها.
{لتجزى} أي الإظهار للجزاء؛ رواه أبو عبيد عن الكسائي عن محمد بن سهل عن وِقَاء بن إياس عن سعيد بن جبير.
وقال النحاس: وليس لهذه الرواية طريق غير هذا.
قلت: وكذا رواه أبو بكر الأنباري في كتاب الرد؛ حدثني أبي حدثنا محمد بن الجهم حدثنا الفراء حدثنا الكسائي؛ ح وحدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا يوسف حدثنا يحيى الحِمانيّ حدثنا محمد بن سهل.
قال النحاس؛ وأجود من هذا الإسناد ما رواه يحيى القطان عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد عن جبير: أنه قرأ {أَكَادُ أُخْفيها} بضم الهمزة.
قلت: وأما قراءة ابن جبير {أَخْفِيهَا} بفتح الهمزة بالإسناد المذكور فقال أبو بكر الأنباري قال الفراء: معناه أظهرها من خفيت الشيء أخفيه إذا أظهرته.
وأنشد الفراء لامرئ القيس:
فإنْ تَدفِنُوا الدَّاءَ لا نَخْفِهِ ** وإنْ تَبعثُوا الحربَ لا نَقعُد

أراد لا نظهره؛ وقد قال بعض اللغويين: يجوز أن يكون {أخْفِيهَا} بضم الهمزة معناه أظهرها لأنه يقال: خَفيتُ الشيء وأَخفيته إذا أظهرتَه؛ فأخفيته من حروف الأضداد يقع على الستر والإظهار.
وقال أبو عبيدة: خَفيت وأَخفيت بمعنى واحد.
النحاس: وهذا حسن؛ وقد حكاه عن أبي الخطّاب وهو رئيس من رؤساء اللغة لا يشك في صدقه؛ وقد روى عنه سيبويه وأنشد:
وإِنْ تَكتُموا الداءَ لا نُخْفِهِ ** وإِنْ تَبعثُوا الحربَ لا نَقعُد

كذا رواه أبو عبيدة عن أبي الخطاب بضم النون.
وقال امرؤ القيس أيضًا:
خَفَاهنَّ من أنفاقِهنَّ كأنما ** خفاهنَّ وَدْقٌ من عَشِيِّ مُجَلِّبِ

أي أظهرهن، وروي: من سحاب مركَّب بدل من عَشيٍّ مجلِّب.
وقال أبو بكر الأنباري: وتفسير للآية آخر: {إِن الساعة آتية أكاد} انقطع الكلام على {أكاد} وبعده مضمر أكاد آتي بها، والابتداء {أُخفيها لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ}.
قال ضابىء البُرْجميّ:
هَممْتُ ولم أَفعلْ وكِدتُ وليتَنِي ** تَركتُ على عثمانَ تَبْكِي حَلاَئِلُهْ

أراد وكدت أفعل، فأضمر مع كدت فعلًا كالفعل المضمر معه في القرآن.
قلت: هذا الذي اختاره النحاس؛ وزيف القول الذي قبله فقال يقال: خَفى الشيءَ يخفيه إذا أظهره، وقد حكى أنه يقال: أخفاه أيضًا إذا أظهره، وليس بالمعروف؛ قال: وقد رأيت علي بن سليمان لما أشكل عليه معنى {أُخْفيها} عدل إلى هذا القول، وقال: معناه كمعنى {أَخْفيها}.
قال النحاس: ليس المعنى على أظهرها ولاسيما و{أَخْفيها} قراءة شاذة، فكيف تردّ القراءة الصحيحة الشائعة إلى الشاذة، ومعنى المضمر أولى؛ ويكون التقدير: إن الساعة آتية أكاد آتي بها؛ ودل {آتية} على آتي بها؛ ثم قال: {أُخْفيها} على الابتداء.
وهذا معنى صحيح؛ لأن الله عز وجل قد أخفى الساعة التي هي القيامة، والساعة التي يموت فيها الإنسان ليكون الإنسان يعمل، والأمر عنده مبهم، فلا يؤخر التوبة.
قلت: وعلى هذا القول تكون اللام في {لِتجزى} متعلقة ب {أُخفِيها}.
وقال أبو علي: هذا من باب السلب وليس من باب الأضداد، ومعنى {أُخفِيها} أزيل عنها خفاءها، وهو سترها كخِفاء الأخفية وهي الأكسية والواحد خفاء بكسر الخاء ما تلف به القربة، وإذا زال عنها سترها ظهرت.
ومن هذا قولهم: أشكيته، أي أزلت شكواه، وأعديته أي قبلت استعداءه ولم أحوجه إلى إعادته.
وحكى أبو حاتم عن الأخفش: أن كاد زائدة مؤكدة.
قال: ومثله {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] لأن الظلمات التي ذكرها الله تعالى بعضها يحول بين الناظر والمنظور إليه.
وروي معناه عن ابن جبير، والتقدير: إن الساعة آتية أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى.
وقال الشاعر:
سريعٌ إِلى الهيجاءِ شاكٍ سِلاحُهُ ** فما إِنْ يَكادُ قِرْنُهُ يَتنفَّسُ

أراد فما يتنفَّس.
وقال آخر:
وأَلاَّ ألوم النفسَ فيما أصابني ** وألاَّ أكاد بالذي نِلتُ أَنجحُ

معناه: وألا أنجح بالذي نلت؛ فأكاد توكيد للكلام.
وقيل: المعنى {أَكَادُ أُخْفِيهَا} أي أقارب ذلك؛ لأنك إذا قلت: كاد زيد يقوم، جاز أن يكون قام، وأن يكون لم يقم. ودل على أنه قد أخفاها بدلالة غير هذه على هذا الجواب. قال اللغويون: كدت أفعل معناه عند العرب: قاربت الفعل ولم أفعل، وما كدت أفعل معناه: فعلت بعد إبطاء.
وشاهده قول الله عزت عظمته {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] معناه: وفعلوا بعد إبطاء لتعذر وجدان البقرة عليهم. وقد يكون ما كدت أفعل بمعنى ما فعلت ولا قاربت إذا أكد الكلام بأكاد.
وقيل: معنى {أَكَادُ أُخْفِيهَا} أريد أخفيها.
قال الأنباري: وشاهد هذا القول الفصيح من الشعر:
كادتْ وكِدتُ وتِلكَ خيرُ إِرادةٍ ** لو عَادَ من لَهْوِ الصَّبابةِ ما مَضَى

معناه: أرادت وأردت.
وقال ابن عباس وأكثر المفسرين فيما ذكره الثعلبي: إن المعنى أكاد أخفيها من نفسي؛ وكذلك هو في مصحف أبيّ.
وفي مصحف ابن مسعود: أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق.
وفي بعض القراءات: فكيف أظهرها لكم.
وهذا محمول على أنه جاء على ما جرت به عادة العرب في كلامها، من أن أحدهم إذا بالغ في كتمان الشيء قال: كدت أخفيه من نفسي.
والله تعالى لا يخفى عليه شيء؛ قال معناه قطرب وغيره.
والله أعلم.
وقال الشاعر:
أيامَ تَصحبني هند وأخبرُهَا ** ما أَكتم النفسَ من حَاجِي وأَسْرَارِي

فكيف يخبرها بما تكتم نفسه.
ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» الزمخشري وقيل معناه: أكاد أخفيها من نفسي، ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف؛ ومحذوف لا دليل عليه مُطرَّح، والذي غرهم منه أن في مصحف أبيّ: أكاد أخفيها من نفسي؛ وفي بعض المصاحف: أكاد أخفيها من نفسي فكيف أظهركم عليها.
قلت: وقيل إن معنى قول من قال أكاد أخفيها من نفسي؛ أي إن إخفاءها كان من قِبلي ومن عندي لا من قِبل غيري.
وروي عن ابن عباس أيضًا: أكاد أخفيها من نفسي؛ ورواه طلحة بن عمرو عن عطاء.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا أظهر عليها أحدًا.
وروي عن سعيد بن جبير قال: قد أخفاها.
وهذا على أن كاد زائدة.
أي إن الساعة آتية أخفيها، والفائدة في إخفائها التخويف والتهويل.
وقيل: تعلق {لتجزى} بقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصلاة} فيكون في الكلام تقديم وتأخير؛ أي أقم الصلاة لتذكرني.
{لِتُجْزَى كل نفسٍ بِما تسعى} أي بِسعيها {إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا}.
والله أعلم.
وقيل: هي متعلقة بقوله: {آتية} أي إن الساعة آتية لتجزى.
{فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} أي لا يصرفنك عن الإيمان بها والتصديق لها {مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا واتبع هَوَاهُ}.
{فتردى} أي فتهلك.
وهو في موضع نصب بجواب النهي. اهـ.

.قال أبو حيان:

ولما ذكر تعالى الأمر بالعبادة وإقامة الصلاة ذكر الحامل على ذلك وهو البعث والمعاد للجزاء فقال: {إن الساعة آتية} وهي التي يظهر عندها ما عمله الإنسان وجزاء ذلك إما ثوابًا وإما عقابًا.
وقرأ أبو الدرداء وابن جبير والحسن ومجاهد وحميد أَخْفِيها بفتح الهمزة ورويت عن ابن كثير وعاصم بمعنى أظهرها أي إنها من صحة وقوعها وتيقن كونها تكاد تظهر، ولكن تأخرت إلى الأجل المعلوم وتقول العرب: خفيت الشيء أي أظهرته.
وقال الشاعر:
خفاهن من إيقانهن كأنما ** خفاهن ودق من عشي مجلب

وقال آخر:
فإن تدفنوا الداء لا نخفه ** وإن توقدوا الحرب لا نقعد

ولام {لتجزَى} على هذه القراءة متعلقة بأخفيها أي أظهرها {لتجزَى} كل نفس.
وقرأ الجمهور: {أُخْفِيها} بضم الهمزة وهو مضارع أخفي بمعنى ستر، والهمزة هنا للإزالة أي أزلت الخفاء وهو الظهور، وإذا أزلت الظهور صار للستر كقولك: أعجمت الكتاب أزلت عنه العجمة.
وقال أبو علي: هذا من باب السلب ومعناه، أزيل عنها خفاءها وهو سترها، واللام على قراءة الجمهور.
قال صاحب اللوامح متعلقة بآتية كأنه قال: {إن الساعة آتية} لنجزي انتهى، ولا يتم ذلك إلاّ إذا قدرنا {أكاد أخفيها} جملة اعتراضية، فإن جعلتها في موضع الصفة لآتية فلا يجوز ذلك على رأي البصريين لأن أسم الفاعل لا يعمل إذا وصف قبل أخذ معموله.
وقيل: {أخفيها} بضم الهمزة بمعنى أظهرها فتتحد القراءتان، وأخفى من الأضداد بمعنى الإظهار وبمعنى الستر.
قال أبو عبيدة: خفيت وأخفيت بمعنى واحد وقد حكاه أبو الخطاب وهو رئيس من رؤساء اللغة لا شك في صدقه و{أكاد} من أفعال المقاربة لكنها مجاز هنا، ولما كانت الآية عبارة عن شدة إخفاء أمر القيامة ووقتها وكان القطع بإتيانها مع جهل الوقت أهيب على النفوس بالغ في إبهام وقتها فقال: {أكاد أخفيها} حتى لا تظهر ألبتة، ولكن لابد من ظهورها.
وقالت فرقة {أكاد} بمعنى أريد، فالمعنى أريد إخفاءها وقاله الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم.
قال أبو مسلم: ومن أمثالهم لا أفعل ذلك: ولا أكاد أي لا أريد أن أفعله.
وقالت فرقة: خبر كاد محذوف تقديره {أكاد} أتى بها لقربها وصحة وقوعها كما حذف في قول صابيء البرجمي:
هممت ولم أفعل وكذت وليتني ** تركت على عثمان تبكي حلائله

أي وكدت أفعل.
وتم الكلام ثم استأنف الإخبار بأنه يخفيها واختاره النحاس.
وقالت فرقة: معناه {أكاد أخفيها} من نفسي إشارة إلى شدة غموضها عن المخلوقين وهو مروي عن ابن عباس.
ولما رأى بعضهم قلق هذا القول قال معنى من نفسي: من تلقائي ومن عندي.
وقالت فرقة {أكاد} زائدة لا دخول لها في المعنى بل الإخبار أن الساعة آتية وأن الله يخفي وقت إتيانها، وروي هذا المعنى عن ابن جبير، واستدلوا على زيادة كاد بقوله تعالى: {لم يكد يراها} وبقول الشاعر وهو زيد الخيل:
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه ** فما إن يكاد قرنه يتنفس

وبقول الآخر:
وأن لا ألوم النفس مما أصابني ** وأن لا أكاد بالذي نلت أنجح

ولا حجة في شيء من هذا.
وقال الزمخشري: {أكاد أخفيها} فلا أقول هي آتية لفرط إرادتي إخفاءها، ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به.
وقيل: معناه {أكاد أخفيها} من نفسي ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف، ومحذوف لا دليل عليه مطرح.
والذي غزهم منه أن في مصحف أبي {أكاد أخفيها} من نفسي وفي بعض المصاحف {أكاد أخفيها} من نفسي فكيف أظهركم عليها انتهى.
ورويت هذه الزيادة أيضًا عن أُبَيّ ذكر ذلك ابن خالويه.
وفي مصحف عبد الله {أكاد أخفيها} من نفسي فكيف يعلمها مخلوق.
وفي بعض القراءات وكيف أظهرها لكم وهذا محمول على ما جرت به عادة العرب من أن أحدهم إذا بالغ في كتمان الشيء قال: كذت أخفيه من نفسي، والله تعالى لا يخفى عليه شيء قال معناه قطرب وغيره.
وقال الشاعر:
أيام تصحبني هند وأخبرها ** ما كدت أكتمه عني من الخبر

وكيف يكتم من نفسه ومن نحو هذا من المبالغة، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، والضمير في {أخفيها} عائد على {الساعة} و{الساعة} يوم القيامة بلا خلاف، والسعي هنا العمل. والظاهر أن الضمير في {عنها} و{بها} عائد على الساعة. وقيل: على الصلاة.
وقيل {عنها} عن الصلاة و{بها} أي بالساعة، وأبعد جدًا من ذهب إلى أن الضمير في {عنها} يعود على ما تقدم من كلمة {لا إله إلاّ أنا فاعبدني}. والظاهر أن الخطاب في {فلا يصدنك} لموسى عليه السلام، ولا يلزم من النهي عن الشيء إمكان وقوعه ممن سبقت له العصمة، فينبغي أن يكون لفظًا وللسامع غيره ممن يمكن وقوع ذلك منه، وأبعد من ذهب إلى أنه خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم لفظًا ولأمته معنى.
وقال الزمخشري: فإن قلت: العبارة أنهى من لا يؤمن عن صدّ موسى، والمقصود نهي موسى عن التكذيب بالبعث أو أمره بالتصديق؟ قلت: فيه وجهان:
أحدهما: أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب، فذكر السبب ليدل على المسبب.
والثاني: أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته، فذكر المسبب ليدل على السبب كقولهم لا أرينك هاهنا.
المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته وذلك سبب رؤيته إياه، فكان ذكر المسبب دليلًا على السبب كأنه قيل: فكن شديد الشكيمة صلب المعجم حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه {فتردى} يجوز أن يكون منصوبًا على جواز النهي وأن يكون مرفوعًا أي فأنت تردى.
وقرأ يحيى فَتِردى بكسر التاء. اهـ.