فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الجصاص:

قَوْله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا}.
قِيلَ فِي وَجْهِ سُؤَالِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَمَّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ لَهُ عَلَى أَنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ عَصًا لِيَقَعَ الْمُعْجِزُ لَهَا بَعْدَ التَّثَبُّتِ فِيهَا وَالتَّأَمُّلِ لَهَا، فَإِذًا أَجَابَ مُوسَى بِأَنَّهَا عَصًا يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْإِعْيَاءِ وَيَنْفُضُ بِهَا الْوَرَقَ لِغَنَمِهِ وَأَنَّ لَهُ فِيهَا مَنَافِعُ أُخْرَى فِيهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ إعْلَامَ اللَّهِ تعالى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى كَانَ أَعْلَمَ بِذَلِكَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا اقْتَضَى السُّؤَالُ مِنْهُ جَوَابًا لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ الْإِجَابَةِ بِذِكْرِ مَنَافِعِ الْعَصَا إقْرَارًا مِنْهُ بِالنِّعْمَةِ فِيهَا وَاعْتِدَادًا بِمَنَافِعِهَا وَالْتِزَامًا لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الشُّكْرِ لَهُ.
وَمِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ: إنَّمَا قَالَ اللَّهُ لَهُ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِك يَا مُوسَى} فَإِنَّمَا وَقَعَتْ الْمَسْأَلَةُ عَنْ مَاهِيَّتِهَا وَلَمْ تَقَعْ عَنْ مَنَافِعِهَا وَمَا تَصْلُحُ لَهُ، فَلِمَ أَجَابَ عَمَّا لَمْ يُسْأَلْ مِنْهُ؟ وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا وَهُوَ أَنَّهُ أَجَابَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ بَدِيًّا بِقَوْلِهِ: هِيَ عَصَايَ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَمَّا جَعَلَ اللَّهُ تعالى لَهُ مِنْ الْمَنَافِعِ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَافِ بِالنِّعْمَةِ وَإِظْهَارِ الشُّكْرِ عَلَى مَا مَنَحَهُ اللَّهُ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ سَبِيلُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تعالى وَالْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ مِثْلِهِ فِي الِاعْتِدَادِ بِالنِّعْمَةِ وَنَشْرِهَا وَإِظْهَارِ الشُّكْرِ عَلَيْهَا، وَقَالَ اللَّهُ تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
المسألة الأُولَى:
قَوْله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّمَا سَأَلَهُ عَنْهَا لَمَّا كَانَ أَضْمَرَ مِنْ الْآيَةِ لَهُ فِيهَا، حَتَّى إذَا رَجَعَ عَلَيْهَا، وَتَحَقَّقَ حَالَهَا، وَكُسِيَتْ تِلْكَ الْحُلَّةَ الثُّعْبَانِيَّةَ بِمَرًْاى مِنْهُ لِابْتِدَائِهَا كَانَ تَبْدِيلُهَا مَعَ الذِّكْرِ أَوْقَعَ فِي الْقَلْبِ وَأَيْسَرَ لَهُ مِنْ أَنْ يَغْفُلَ عَنْهَا، فَيَرَاهَا بِحُلَّةِ الثُّعْبَانِيَّةِ مَكْسُوَّةً، فَيَظُنُّ أَنَّمَا عَيَّنَ أُخْرَى سِوَاهَا.
المسألة الثَّانِيَةُ:
{قَالَ هِيَ عَصَايَ} قَالَ أَرْبَابُ الْقُلُوبِ: الْجَوَابُ الْمُطْلَقُ أَنْ يَقُولَ هِيَ عَصًا، وَلَا يُضِيفُ إلَى نَفْسِهِ شَيْئًا، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكُونَا اثْنَيْنِ أَفْرَدَ عَنْهَا بِصِفَةِ الْحَيَّةِ، فَبَقِيَ وَحْدَهُ لِلَّهِ، كَمَا يُحِبُّ، حَتَّى لَا يَكُونَ مَعَهُ إلَّا اللَّهُ، يَقُولُ اللَّهُ: أَنْتَ عَبْدِي، وَيَقُولُ مُوسَى: أَنْتَ رَبِّي.
المسألة الثَّالِثَةُ:
أَجَابَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْجَوَابِ أَرْبَعَةَ مَعَانٍ، وَكَانَ يَكْفِي وَاحِدٌ قَالَ: الْإِضَافَةُ، وَالتَّوَكُّؤُ، وَالْهَشُّ، وَالْمَآرِبُ الْمُطْلَقَةُ، وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَابِ السُّؤَالِ بِأَكْثَرَ مِنْ مُقْتَضَى ظَاهِرِهِ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ طَهُورِ مَاءِ الْبَحْرِ.
المسألة الرَّابِعَةُ:
الْهَشُّ: هُوَ أَنْ يَضَعَ الْمِحْجَنَ فِي أَصْلِ الْغُصْنِ وَيُحَرِّكَهُ فَيَسْقُطُ مِنْهُ مَا سَقَطَ، وَيَثْبُتُ مَا ثَبَتَ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَاعٍ يَعْضِدُ شَجَرَةً فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: «هُشُّوا وَارْعَوْا»، وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاقْتِصَادِ فِي الِاقْتِيَاتِ، فَإِنَّهُ إذَا عَضَّدَ الشَّجَرَةَ الْيَوْمَ لَمْ يَجِدْ فِيهَا غَدًا شَيْئًا وَلَا غَيْرَهُ مِمَّنْ يَخْلُفُهُ، فَإِذَا هَشَّ وَرَعَى أَخَذَ وَأَبْقَى، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ، فَلْيَأْخُذْ وَلْيَدْعُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ كَثِيرًا فَلْيَأْخُذْهُ كَيْفَ شَاءَ.
المسألة الخامسة:
تَعَرَّضَ قَوْمٌ لِتَعْدِيدِ مَنَافِعِ الْعَصَا، كَأَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ بِذَلِكَ قَوْلَ مُوسَى {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}، وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَ الْعَصَا فِي حَاجَةٍ عَرَضَتْ؛ أَمَّا إنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الدِّينِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ إجْمَاعًا وَهُوَ الْخُطْبَةُ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِاخْتِلَافٍ وَهُوَ التَّوَكُّؤُ عَلَيْهَا فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ هُنَا وَسِوَاهُ. اهـ.

.قال الماوردي:

{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}.
ليس هذا سؤال استفهام، وإنما هو سؤال تقرير لئلاّ يدخل عليه ارتياب بعد انقلابها حيةٌ تسعى.
{قَالَ هِيَ عَصَايَ} فتضمن جوابه أمرين:
أحدهما: الإِخبار بأنها عصا وهذا جواب كافٍ.
الثاني: إضافتها إلى ملكه، وهذه زيادة ذكرها ليكفي الجواب بما سئل عنه.
ثم أخبر عن حالها بما لم يُسأل عنه ليوضح شدة حاجته إليها واستعانته بها لئلا يكون عابئًا بحملها، فقال: {أَتَوكَّؤُاْ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَ عَلَى غَنَمِي} أي أخبط بها ورق الشجر لترعاه غنمي. قال الراجز:
أهش بالعصا على أغنامي ** من ناعم الأراك والبشام

وقرأ عكرمة {وأهس} بسين غير معجمة. وفي الهش والهس وجهان:
أحدهما: أنهما لغتان معناهما واحد.
والثاني: أن معناهما مختلف، فالهش بالمعجمة: خبط الشجر، والهس بغير إعجام زجر الغنم.
{وَلِيَ فِيهَا مَئَارِبُ أُخْرَى} أي حاجات أخرى، فنص على اللازم وكنّى عن العارض، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه كان يطرد بها السباع، قاله مقاتل.
الثاني: أنه كان يَقْدَحُ بها النار، ويستخرج الماء بها.
الثالث: أنها كانت تضيء له بالليل، قاله الضحاك.
قوله عز وجل: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ}.
فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: إلى عضدك، قاله مجاهد.
الثاني: إلى جيبك.
الثالث: إلى جنبك فعبر عن الجنب بالجناح لأنه مائل في محل الجناح. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله عز وجل: {وما تلك بيمينك يا موسى}.
تقرير مضمنه التنبيه وجمع النفس لتلقي ما يورد عليها وإلا فقد علم ما هي في الأزل، وقوله: {بيمينك} من صلة تلك وهذا نظير قول الشاعر يزيد بن ربيعة: الطويل:
عدسْ ما لعباد عليك إمارة ** نجوت وهذا تحملين طليق

قال ابن الجوهري: وروي في بعض الآثار أن الله تعالى عتب على موسى إضافة العصا إلى نفسه في ذلك الموطن فقيل له {ألقها} [طه: 19] ليرى منها العجب فيعلم أنه لا ملك له عليها ولا تضاف إليه، وقرأ الحسن وأبو عمرو بخلاف عنه {عصاي} بكسر الياء مثل غلامي، وقرأت فرقة {عصى} وهي لغة هذيل ومنه قول أبي ذؤيب: الكامل:
سبقوا هويَّ وأعنقوا لهواهم

وقرأ الجمهور: {عصايَ} بفتح الياء، وقرأ ابن أبي إسحاق {عصايْ} بياء ساكنة، ثم ذكر موسى عليه السلام من منافع عصاه عظمها وجمهورها، وأجمل سائر ذلك، وقرأ الجمهور: {وأهُشُّ} بضم الهاء والشين المنقوطة ومعناه أخبط بها الشجر حتى ينتثر بها الورق للغنم، وقرأ إبراهيم النخعي {وأهِش} بكسر والمعنى كالذي تقدم، وقرأ عكرمة مولى ابن عباس {وأهُسُّ} بضم الهاء والسين غير المنقوطة ومعناه أزجر بها وأخوف، وقرأت فرقة {علي غنمي} بالجر، وقرأت {غنمي} فأوقع الفعل على الغنم، وقرأت {غنْمي} بسكون النون ولا أعرف لها وجهًا، وقوله: {أخرى} فوحد مع تقدم الجمع وهو المهيع في توابع جمع ما لا يعقل والكناية عنه فإن ذلك يجري مجرى الواحدة المؤنثة كقوله تعالى: {الأسماء الحسنى} [طه: 8] وكقوله: {يا جبال أوبي معه} [سبأ: 10] وقد تقدم القول في هذا المعنى غير مرة، وعصا موسى عليه السلام هي التي كان أخذها من بيت عصا الأنبياء التي كان عند شعيب حين اتفقا على الرعية، وكانت عصا آدم هبط بها من الجنة وكانت من العير الذي في ورق الريحان وهو الجسم المستطيل في وسطها وقد تقدم شرح أمرها فيما مضى.
{قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19)}.
لما أراد الله تعالى أن يدربه في تلقي النبوءة وتكاليفها أمره بإلقاء العصا {فألقاها} موسى فقلب الله أوصافها وأعراضها، وكانت عصا ذات شعبتين فصار الشعبتان لها فمًا وصارت {حية تسعى} أي تنتقل وتمشي وتلتقم الحجارة، فلما رآها موسى رأى عبرة فولى مدبرًا ولم يعقب، فقال الله تعالى له: {خذها ولا تخف} وذلك أنه أوجس في نفسه خفية أي لحقه ما يلحق بالبشر، وروي أن موسى تناولها بكمي جبته فنهي عن ذلك، فأخذها بيده فصارت عصا كما كانت أول مرة وهي {سيرتها الأولى} ثم أمره الله عز وجل أن يضم يده إلى جنبه وهو الجناح استعارة ومجازًا ومنه قول الراجز: الرجز:
أضمه للصدر والجناح

وبعض الناس يقولون الجناح اليد وهذا كله صحيح على طريق الاستعارة، ألا ترى أن جعفر بن أبي طالب يسمى ذا الجناحين بسبب يديه حين أقيمت له الجناحان مقام اليدين بجناح طائر وكل مرعوب من ظلمة أو نحوها فإنه إذا ضم يده إلى جناحه فتر رعبه وربط جأشه فجمع الله لموسى عليه السلام تفتير الرعب مع الآية في اليد، وروي أن يد موسى خرجت بيضاء تشف وتضيء كأنها الشمس. وقوله: {من غير سوء}، أي من غير برص ولا مثله بل هو أمر ينحسر ويعود لحكم الحاجة إليه. وقوله: {لنريك من آياتنا الكبرى} يحتمل أن يريد وصف الآيات بالكبر على ما تقدم من قوله: {الأسماء الحسنى} [طه: 8]، و{مآرب أخرى} [طه: 18] ونحوه، ويحتمل أن يريد تخصيص هاتين الآيتين فإنهما أكبر الآيات كأنه قال لنريك الكبرى فهما معنيان. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وما تلك بيمينكَ}.
قال الزجاج: {تلك} اسم مبهم يجري مجرى {التي}، والمعنى ما التي بيمينك؟
قوله تعالى: {أتوكَّأُ عليها} التوكُّؤُ: التحامل على الشيء {وأَهُشُّ بها} قال الفراء: أضرب بها الشجر اليابس ليسقط ورقه فترعاه غنمي؛ قال الزجاج: واشتقاقه من أنّي أُحيل الشيء إِلى الهشاشة والإِمكان.
والمآرب: الحاجات، واحدها: مَأْرُبَة، ومَأْرَبَة.
وروى قتيبة، وورش: {مآرب} بامالة الهمزة.
فإن قيل: ما الفائدة في سؤال الله تعالى له: {وما تلك بيمينك} وهو يعلم؟ فعنه جوابان.
أحدهما: أن لفظه لفظ الاستفهام، ومجراه مجرى السؤال، ليجيب المخاطَب بالإِقرار به، فتثبت عليه الحجة باعترافه فلا يمكنه الجحد، ومثله في الكلام أن تقول لمن تخاطبه وعندك ماء: ما هذا؟ فيقول: ماءٌ، فتضع عليه شيئًا من الصبغ، فإن قال: لم يزل هكذا، قلت له: ألست قد اعترفت بأنه ماء؟ فتثبت عليه الحجة، هذا قول الزجاج: فعلى هذا تكون الفائدة أنه قرَّر موسى أنها عصًا لمّا أراد أن يريَه من قدرته في انقلابها حيَّة، فوقع المُعْجِز بها بعد التثبت في أمرها.
والثاني: أنه لما اطَّلع الله تعالى على ما في قلب موسى من الهيبة والإِجلال حين التكليم، أراد أن يؤانسه ويخفف عنه ثِقَل ما كان فيه من الخوف، فأجرى هذا الكلام للاستئناس، حكاه أبو سليمان الدمشقي.
فإن قيل: قد كان يكفي في الجواب أن يقول: {هي عصاي}، فما الفائدة في قوله: {أتوكَّأُ عليها} إِلى آخر الكلام، وإِنما يُشرح هذا لمن لا يعلم فوائدها؟ فعنه ثلاثة أجوبة.
أحدها: أنه أجاب بقوله: {هي عصاي}، فقيل له: ما تصنع بها؟ فذكر باقي الكلام جوابًا عن سؤال ثانٍ، قاله ابن عباس، ووهب.
والثاني: أنه إِنما أظهر فوائدها، وبيَّن حاجته إِليها، خوفًا من أن يأمره بإلقائها كالنعلين، قاله سعيد ابن جبير.
والثالث: أنه بيَّن منافعها لئلا يكون عابثًا بحملها، قاله الماوردي.
فإن قيل: فلم اقتصر على ذِكْر بعض منافعها ولم يُطِل الشرح؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه كره أن يشتغل عن كلام الله بتعداد منافعها.
والثاني: استغنى بعلم الله فيها عن كثرة التعداد.
والثالث: أنه اقتصر على اللازم دون العارض.
وقيل: كانت تضيء له بالليل، وتدفع عنه الهوام، وتثمر له إِذا اشتهى الثمار.
وفي جنسها قولان:
أحدهما: أنها كات من آس الجنة، قاله ابن عباس.
والثاني: أنها كانت من عوسج.
فإن قيل: المآرب جمع، فكيف قال: {أُخرى} ولم يقل: {أُخَر}؟ فالجواب: أن المآرب في معنى جماعة، فكأنه قال: جماعة من الحاجات أُخرى، قاله الزجاج.
قوله تعالى: {قال ألقها يا موسى} قال المفسرون: ألقاها، ظنًّا منه أنه قد أُمر برفضها، فسمع حِسًّا فالتفتَ فإذا هي كأعظم ثعبان تمر بالصخرة العظيمة فتبتلعها، فهرب منها.
وفي وجه الفائدة في إِظهار هذه الآية ليلة المخطابة قولان:
أحدهما: لئلا يخاف منها إِذا ألقاها بين يدي فرعون.
والثاني: ليريَه أن الذي أبعثك إِليه دون ما أريتك، فكما ذلَّلْتُ لك الأعظم وهو الحية، أُذلّلُ لكَ الأدنى.
ثم إِن الله تعالى أمره بأخذها وهي على حالها حيَّة، فوضع يده عَليها فعادت عصًا، فذلك قوله: {سنُعيدها سيرتها الأولى} قال الفراء: طريقتها، يقول: تردُّها عصى كما كانت.
قال الزجاج: و{سيرتها} منصوبة على إِسقاط الخافض وإِفضاء الفعل إِليها، المعنى: سنُعيدها إِلى سيرتها.
فإن قيل: إِنما كانت العصا واحدة، وكان إِلقاؤها مَرَّة، فما وجه اختلاف الأخبار عنها، فإنه يقول في [الأعراف: 107]: {فإذا هي ثُعبان مُبِين}، وهاهنا: {حية}، وفي مكان آخر: {كأنها جانّ} [النمل: 20]، والجانّ ليست بالعظيمة، والثعبان أعظم الحيات؟
فالجواب: أن صفتها بالجان عبارة عن ابتداء حالها، وبالثعبان إِخبار عن انتهاء حالها، والحيّة اسم يقع على الصغير والكبير والذكر والأنثى.
وقال الزجاج: خَلْقُها خَلْق الثعبان العظيم، واهتزازها وحركتها وخِفَّتها كاهتزاز الجانِّ وخِفَّته.
قوله تعالى: {واضمم يدكَ إِلى جناحكَ} قال الفراء: الجناح من أسفل العَضُد إِلى الإِبط.
وقال أبو عبيدة: الجناح ناحية الجَنْب، وأنشد:
أَضُمُّهُ للصَّدْر والجَنَاحِ

قوله تعالى: {تَخْرُجْ بيضاءَ من غير سوءٍ} أي: من غير بَرَص {آيةً أُخرى} أي: دلالة على صدقك سوى العصا.
قال الزجاج: ونصب {آيةً} على معنى: آتيناك آية، أو نؤتيك آية.
قوله تعالى: {لنريك من آياتنا الكبرى}.
إِن قيل: لِمَ لم يقل: الكُبَر؟ فعنه ثلاثة أجوبة.
أحدها: أنه كقوله: {مآرب أخرى} وقد شرحناه، هذا قول الفراء.
والثاني: أن فيه إِضمارًا تقديره: لنريك من آياتنا الآية الكبرى.
وقال أبو عبيدة: فيه تقديم وتأخير، تقديره: لنريك الكبرى من آياتنا.
والثالث: إِنما كان ذلك لوفاق رأس الآي، حكى القولين الثعلبي. اهـ.