فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{إِذْ أَوْحَيْنَا}.
أي: ألقينا بطريق الإلهام: {إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} أي: الصندوق: {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} أي: البحر، متوكلةً على خالقه: {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي} لدعواه الألوهية: {وَعَدُوٌّ لَهُ} لدعوته إلى نبذ ما يدعيه.
قال الزمخشريّ: لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته- أن لا تخطئ جرية اليم، الوصولَ به إلى الساحل، وإلقاءه إليه- سلك في ذلك سبيل المجاز وجعل اليم كأنه ذو تمييز أُمر بذلك، ليطيع الأمر ويمتثل رسمه. فقيل: {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} أي: على سبيل الاستعارة بالكناية. بتشبيه اليم بمأمور منقاد. وإثبات الأمر تخييل، وقوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} أي: واقعة مني، زرعتها في قلب من يراك. ولذلك أحبك فرعون: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أي: ولتربَّى بيد العدوّ على نظري بالحفظ والعناية. فعلى عيني استعارة تمثيلية للحفظ والصون، لأن المصون يجعل بمرأى. قيل: وعلى بمعنى الباء لأنه بمعنى بمرأى مني، في الأصل. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة. أنه منَّ على موسى مرة أخرى قبل مَنِّه عليه بالرسالة ورسالة أخيه معه، وذلك بإنجائه من فرعون وهو صغير، إذ أوحىى إلى أمه أي ألهمها وقذف في قلبها، وقال بعضهم: هي رؤيا منام. وقال بعضهم: أوحى إليها ذلك بواسطة ملك كلمها بذلك. ولا يلزم من الإيحاء في أمر خاص أن يكون الموحى إليه نبيًا، و{أن} في قوله: {أَنِ اقذفيه} هي المفسرة، لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه. والتعبير بالموصول في قوله: {مَا يوحى} للدلالة على تعظيم شأن الأمر المذكور، كقوله: {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78]، وقوله: {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى} [النجم: 10] والتابوت: الصندوق. واليم: البحر. والساحل: شاطئ البحر. والبحر المذكور: نيل مصر. والقذف: الإلقاء والوضع، ومنه قوله تعالى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب} [الأحزاب: 26] ومعنى {أَنِ اقذفيه فِي التابوت} أي ضعيه في الصندوق. والضمير في قوله: {أَنِ اقذفيه} راجع إلى موسى بلا خلاف. وأما الضمير في قوله: {فاقذفيه فِي اليم} وقوله: {فَلْيُلْقِهِ} فقيل: راجع إلى التابوت. والصواب رجوعه إلى موسى في داخل التابوت، لأن تفريق الضمائر غير حسن، وقوله: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} هو فرعون، وصيغة الأمر في قوله: {فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} فيها وجهان معروفان عند العلماء:
أحدهما أن صيغة الأمر معناها الخبر، قال أبو حيان في البحر المحيط: و{فَلْيُلْقِهِ} أمر معناه الخبر، وجاء بصيغة الأمر مبالغة، إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها.
الوجه الثاني أن صيغة الأمر في قوله: {فَلْيُلْقِهِ} أريد بها الأمر الكوني القدري، كقوله: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] فالبحر لابد أن يلقيه بالساحل، لأن الله أمره بذلك كونًا وقدرًا. وقد قدمنا ما يشبه هذين الوجهين في الكلام على قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدًّا} [مريم: 75].
وما ذكره جل وعلا في هذه الآيات أوضحه في غير هذا الموضع، كقوله في القصص: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 7- 8] وقد بين تعالى شدة جزع أمه عليه لما ألقته في البحر، وألقاه في اليم بالساحل، وأخذه عدوه فرعون في قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين} [القصص: 10].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {يَأْخُذْهُ} مجزوم في جواب الطلب الذي هو {فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} وعلى أنه بمعنى الأمر الكوني فالأمر واضح. وعلى أنه بمعنى الخبر فالجزم مراعاة لصيغة اللفظ. والعلم عند الله تعالى.
وذكر في قصتها أنها صنعت له التابوت وطلته بالقار وهو الزفت لئلا يتسرب منه الماء إلى موسى في داخل التابوت، وحشته قطنًا محلوجًا. وقيل: إن التابوت المذكور من شجر الجميز، وأن الذي نجره لها هو مؤمن آل فرعون، قيل: واسمه حزقيل. وكانت عقدت في التابوت حبلًا فإذا خافت على موسى من عيون فرعون أرسلته في البحر وأمسكت طرف الحبل عندها، فإذا أمنت جذبته إليها بالحبل. فذهبت مرة لتشد الحبل في منزلها فانفلت منها وذهب البحر بالتابوت الذي فيه موسى فحصل لها بذلك من الغم والهم ما ذكره الله تعالى في قوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغًا} [القصص: 10] الآية.
وما ذكره جلا وعلا في هذه الآية الكريمة من مننه المتتابعة على موسى حيث قال: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى} [طه: 37] أشار إلى ما يشبهه في قوله: {وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى وَهَارُونَ} [الصافات: 114] الآية.
قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي}.
من آثار هذه المحبة التي ألقاها الله على عبده ونبيه موسى وعليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ما ذكره جل وعلا في القصص في قوله: {وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ} [القصص: 9] الآية، قال ابن عباس {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي}: أي أحبه الله وحببه إلى خلقه. وقال ابن عطية: جعل عليه مسحة من جمال. لا يكاد يصبر عنه من رآه. وقال قتادة: كانت في عيني موسى ملاحة، ما رآه أحد إلا أحبه وعشقه. قاله القرطبي. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا موسى}.
وعد له بالإجابة، وتصديق له فيما توسمه من المصالح فيما سأله لنفسه ولأخيه.
والسُؤْلُ بمعنى المسؤول.
وهو وزن فُعْل بمعنى مفعول كالخُبز بمعنى المخبوز، والأكْل بمعنى المأكول.
وهذا يدل على أن العقدة زالت عن لسانه، ولذلك لم يحك فيما بعد أنّه أقام هارون بمجادلة فرعون.
ووقع في التّوراة في الإصحاح السابع من سفر الخروج: فقال الرب لموسى أنت تتكلّم بكلّ ما أمرك به وهارون أخوك يكلّم فرعون.
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)}.
جملة {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أَنِ} معطوفة على جملة {قد أوتيتَ سُؤْلك} [طه: 36] لأنّ جملة {قد أوتيت سؤلك} تتضمن منّة عليه، فعطف عليها تذكير بمنّة عليه أخرى في وقت ازدياده ليعلم أنّه لما كان بمحل العناية من ربّه من أوّل أوقات وجوده فابتدأه بعنايته قبل سؤاله فعنايته به بعدَ سؤاله أحْرى، ولأن تلك العناية الأولى تمهيد لما أراد الله به من الاصطفاء والرسالة، فالكرم يقتضي أن الابتداء بالإحسان يستدعي الاستمرار عليه.
فهذا طمأنة لفؤاده وشرح لصدره ليعلم أنه سيكون مؤيّدًا في سائر أحواله المستقبلة، كقوله تعالى لمحمد: {ولسوف يعطيك ربك فترضى ألم يجدك يتيمًا فآوى ووجدك ضالًا فهدى ووجدك عائلًا فأغنى} [الضحى: 5 8].
وتأكيد الخبر بلام القسم و{قد} لتحقيق الخبر، لأنّ موسى عليه السلام قد علم ذلك، فتحقيق الخبر له تحقيق للازمه المراد منه، وهو أن عناية الله به دائمة لا تنقطع عنه زيادة في تطمين خاطره بعد قوله تعالى: {قد أوتيت سؤلك} [طه: 36].
والمَرّة: فَعلة من المرور، غلبت على معنى الفَعلة الواحدة من عمل معيّن يعرف بالإضافة أو بدلالة المقام.
وقد تقدمت عند قوله تعالى: {وهم بدأوكم أول مرة} في سورة براءة (13).
وانتصاب {مَرَّةً} هنا على المفعولية المطلقة لفعل {مَنَنَّا}، أي مرّة من المنّ.
ووصفها بأخرى هنا باعتبار أنها غير هذه المنّة.
و{إذْ} ظرف للمنّة.
والوحي، هنا: وحي الإلهام الصادق.
وهو إيقاع معنى في النفس ينثلج له نفس الملقى إليه بحيث يجزم بنجاحه فيه وذلك من توفيق الله تعالى.
وقد يكون بطريق الرؤيا الصالحة التي يقذف في نفس الرائي أنها صدق.
و{ما يوحى} موصول مفيد أهمية ما أوحي إليها.
ومفيد تأكيد كونه إلهامًا من قبل الحق.
و{أنِ} تفسير لفعل {أوْحَيْنَا} لأنه معنى القول دون حروفه أو تفسير ليوحى.
والقذف: أصله الرمي، وأطلق هنا على الوضع في التابوت، تمثيلًا لهيئة المُخفى عمله، فهو يسرع وضعه من يده كهيئة من يقذف حجرًا ونحوه.
والتابوت: الصندوق.
وتقدّم عند قوله تعالى: {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت} في سورة البقرة (248).
واليمّ: البحر، والمراد به نهر النّيل.
والساحل: الشاطىء، ولام الأمر في قوله: {فَلْيُلْقِهِ} دالة على أمر التكوين، أي سخرنا اليَمّ لأن يلقيه بالساحل، ولا يبتعد به إلى مكان بعيد، والمراد ساحل معهود، وهو الذي يقصده آل فرعون للسباحة.
والضمائر الثلاثة المنصوبة يجوز أن تكون عائدة إلى موسى لأنّه المقصود وهو حاضر في ذهن أمّه الموحى إليها، وقَذفه في التّابوت وفي اليَمّ وإلقاؤه في الساحل كلها أفعال متعلّقة بضميره، إذ لا فرق في فعل الإلقاء بين كونه مباشرًا أو في ضمن غيره، لأنه هو المقصود بالأفعال الثلاثة.
ويجوز جعل الضميرين الأخيرين عائدين إلى التابوت ولا لبس في ذلك.
وجزم {يَأْخُذْهُ} في جواب الأمر على طريقة جزم قوله: {يفقهوا قولي} [طه: 28] المتقدم آنفًا.
والعدوّ: فرعون، فهو عدوّ الله لأنه انتحل لنفسه الإلهية، وعدوّ موسى تقديرًا في المستقبل، وهو عدوّه لو علم أنه من غلمان إسرائيل لأنّه اعتزم على قتل أبنائهم.
{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى}.
عطف على جملة {أوحينا} أي حين أوحينا إلى أمّك ما كان به سلامتك من الموت، وحين ألقيت عليك محبّة لتحصل الرقّة لواجده في اليَمّ، فيحرص على حياته ونمائه ويتخذه ولدًا كما جاء في الآية الأخرى {وقالت امرأة فرعون قرّةُ عينٍ لي ولك لا تقتلوه} [القصص: 9]؛ لأنّ فرعون قد غلب على ظنه أنّه من غلمان إسرائيل وليس من أبناء القبط، أو لأنه يخطر بباله الأخذ بالاحتياط.
وإلقاء المحبة مجاز في تعلّق المحبة به، أي خلق المحبّة في قلب المحبّ بدون سبب عاديّ حتى كأنه وضعٌ باليد لا مقتضي له في العادة.
ووصف المحبّة بأنها من الله للدّلالة على أنها محبّة خارقة للعادة لعدم ابتداء أسباب المحبّة العرفيّة من الإلف والانتفاع، ألا ترى قول امرأة فرعون: {عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا} [القصص: 9] مع قولها: {قرّة عين لي ولك} [القصص: 9]، فكان قرة عين لها قبل أن ينفعها وقبل اتخاذه ولدًا.
جملة {وَلِتُصْنَعَ على عينى إِذْ تمشى أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ فرجعناك إلى أُمِّكَ كَى تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فنجيناك} عطف على جملة {إذ أوحينا إلى أمك} إلخ.
جُعل الأمران إتمامًا لمنّة واحدة لأن إنجاءه من القتل لا يظهر أثره إلاّ إذا أنجاه من الموت بالذبول لترك الرضاعة، ومن الإهمال المفضي إلى الهلاك أو الوهن إذا ولي تربيته من لا يشفق عليه الشفقة الجبليّة.
والتقدير: وإذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله لأجل أن تُصنع على عيني.
والصنع: مستعار للتربية والتنمية، تشبيهًا لذلك بصنع شيء مصنوع، ومنه يقال لمن أنعم عليه أحد نعمة عظيمة: هو صنيعة فلان.
وأخت موسى: مريم ابنة عمران.
وفي التّوراة: أنّها كانت نبيئة كما في الإصحاح الخامس عشر من سفر الخروج.
وتوفيت مريم سنة ثلاث من خروج بني إسرائيل من مصر في برية صِين كما في الإصحاح التاسع عشر من سفر العدد.
وذلك سنة 1417 قبل المسيح.
وقرأه الجمهور بكسر اللام على أنها لام كي وبنصب فعل تُصنَعَ.
وقرأه أبو جعفر بسكون اللاّم على أنها لام الأمر وبجزم الفعل على أنّه أمر تكويني، أي وقلنا: لتصنع.
وقوله: {على عيني} على منه للاستعلاء المجازي، أي المصاحبة المتمكنة، فعلى هنا بمعنى باء المصاحبة قال تعالى: {فإنك بأعيننا} [الطور: 48].
والعَين: مجاز في المراعاة والمراقبة كقوله تعالى: {واصنع الفلك بأعيننا} [هود: 37]، وقول النابغة:
عهدتك ترعاني بعينٍ بصيرة ** وتبعثُ حُراسًا عليّ وناظِرا

ووقع اختصار في حكاية قصة مشي أخته، وفصّلت في سورة القصص. اهـ.