فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)}.
سُؤْل: أي: الشيء المسئول مثل خُبز أي: مخبوز، فالمراد: أعطيناك ما سألتَ، بل وأعطيناك قبل أن تسأل، بل وقبل أن تعرف كيف تسأل: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى}.
{مّننا} من المنة، وهي العطاء بلا مقابل على خلاف الجزاء، وهو العطاء مقابل عمل {مَرَّةً أخرى} [طه: 37] إذن: هناك مرة أولى، لكن المراد بالمنّة هنا ما حدث من الوحي إلى أم موسى وهو صغير، فهي في الحقيقة المنّة الأولى إنما قال هنا {مَرَّةً أخرى} [طه: 37] هذا ترتيب ذكري حَسْب ذِكْر الأحداث.
فمتى كانت هذه المنّة؟
{إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38)}.
إذ: يعني وقت أنْ أوحينا إلى أمك ما يُوحَى. فكانت هذه هي المنة الأولى عليك حين وُلدت في عام، يقتل فيه فرعون الذكور، فمنَّنا عليك لما قلنا لأمك: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} [القصص: 7].
ومعنى {مَا يوحى} [طه: 38] أي: أمرًا عظيمًا لك أن تقدره أنت فتذهب فيها نفسك كل مذهب، كما جاء في قوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] ويُفصِّل الحق سبحانه هذا الوحي لأم موسى، فيقول تعالى: {أَنِ اقذفيه فِي التابوت}.
هذا ما أوحينا به إلى أم موسى.
واليمُّ: البحر الكبير، سواء أكان مالحًا أم عَذْبًا، فلما تكلّم الحق سبحانه عن فرعون قال: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليم} [الأعراف: 136] والمراد: البحر الأحمر، أما موسى فقد وُلِد في مصر وأُلْقِي تابوته في النيل، وكان على النيل قصر فرعون.
وبالله.. أي أم هذه التي تُصدِّق هذه الكلام: إنْ خِفْتِ على ولدك فألقيه في اليم؟ وكيف يمكن لها أن تنقذه من هلاك مظنون وترمي به في هلاك مُتيقّن؟
ومع ذلك لم تتردد أم موسى لحظة في تنفيذ أمر الله، ولم تتراجع، وهذا هو الفرق بين وارد الرحمن ووارد الشيطان، وارد الرحمن لا تجد النفس له ردًّا، بل تتلقاه على أنه قضية مُسلَّمة، فوارد الشيطان لا يجرؤ أن يزاحم وارد الرحمن، فأخذتْ الأم الوليد وأَلْقَتْه كما أوحى إليها ربها.
وتلحظ في هذه الآيات أن آية القصص لم تذكر شيئًا عن مسألة التابوت: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم} [القصص: 7] هكذا مباشرة.
قالوا: لأن الحق سبحانه تكلم عن الغاية التي تخيف، وهي الرَّمي في اليم، وطبيعي في حنان الأم أنْ تحتال لولدها وتعمل على نجاته، فتصنع له مثل هذا التابوت، وتُعِدّه إعدادًا مناسبًا للطَفْو على صفحة الماء.
فالكلام هنا لإعداد الأم وتهيئتها لحين الحادثة، وفَرْق بين الخطاب للإعداد قبل الحادثة والخطاب حين الحادثة، فسوف يكون للأمومة ترتيب ووسائل تساعد على النجاة، صنعتْ له صندوقًا جعلت فيه مَهْدًا ليّنًا واحتاطتْ للأمر، ثم يطمئنها الحق سبحانه على ولدها: {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني} [القصص: 7] فسوف نُنجيه؛ لأن له مهمة عندي {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} [القصص: 7].
فإذا ما جاء وقت التنفيذ جاء الأمر في عبارات سريعة متلاحقة: {أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} [طه: 39].
لذلك، تجد السياق في الآية الأولى هادئًا رتيبًا يناسب مرحلة الإعداد، أما في التنفيذ فقد جاء السياق سريعًا متلاحقًا يناسب سرعة التنفيذ، فكأن الحق سبحانه أوحى إاليها: أسرعي إلى الأمر الذي سبق أنْ أوحيتُه إليك، هذا الكلام في الحبْكة الأخيرة لهذه المسألة.
وقوله تعالى: {فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} [طه: 39] أي: تحمله الأمواج وتسير به، وكأن لديها أوامر أن تُدخِله في المجرى الموصِّل لقصر فرعون.
فعندنا إذن لموسى ثلاثة إلقاءات: إلقاء الرحمة والحنان في التابوت، وإلقاء التابوت في اليم تنفيذًا لأمر الله، وإلقاء اليَمِّ للتابوت عند قصر فرعون.
وقوله تعالى: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} [طه: 39] {عَدُو لِي} أي: لله تعالى؛ لأن فرعون ادعى الألوهية، {وَعَدُوٌّ لَهُ} أي: لموسى؛ لأنه سيقف في وجهه ويُوقفه عند حَدِّه.
وفي الآية إشارة إلى إنفاذ إرادته سبحانه، فإذا أراد شيئًا قضاه، ولو حتى على يد أعدائه وهم غافلون، فمَنْ يتصور أو يصدق أن فرعون في جبروته وعُتوه وتقتيله للذكور من أولاد بني إسرائيل هو الذي يضم إليه موسى ويرعاه في بيته، بل ويُحبه ويجد له قبولًا في نفسه.
وهل التقطه فرعون بداية ليكون له عَدوًا؟ أم التقطه ليكون ابنًا؟ كما قالت زوجته آسية: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [القصص: 9].
إذن: كانت محبة، إلا أنها آلتْ إلى العداوة فيما بعد، آلتْ إلى أن يكون موسى هو العدو الذي ستُربيه بنفسك وتحافظ عليه ليكون تقويضُ ملكك على يديه؛ لذلك سيقول فرعون: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18].
ومسألة العداوة هذه استغلها المشككون في القرآن واتهموه بالتكرار في قوله تعالى: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} [طه: 39] ثم قال في آية أخرى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8].
والمتأمل في الآيتين يجد أن العداوة في الآية الأولى من جانب فرعون لموسى وربه تبارك وتعالى، أما العداوة في الآية الثانية فمن جانب موسى لفرعون، وهكذا تكون العداوة متبادلة، وهذا يضمن شراستها واستمرارها، وهذا مُرَاد في هذه القصة.
أمّا إنْ كانت العداوة من جانب واحد، فلربما تسامح غير العدو وخَجِل العدو فتكون المصالحة. والعداوة بين موسى وفرعون ينبغي أن تكونَ شرسة؛ لأنها عداوة في قضية القِمَّة، وهي التوحيد.
ولكن، لماذا لم يُلفِت مجيء موسى على هذه الحالة انتباه فرعون فيسأل عن حكايته ويبحث في أمره؟ إنها إرادة الله التي لا يُعجِزها شيء، فتحبه زوجة فرعون، وتقول: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ} [القصص: 9]؛ لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى بعدها: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} [طه: 39].
فأحبته آسية امرأة فرعون لما رأته، وأحبَّه فرعون لما رآه، وهذه محبة من الله بلا سبب للمحبة؛ لأن المحبة لها أسباب بين الناس، فتحب شخصًا لأنك تودّه، أو لأنه قريب لك أو صديق، أو أسْدى لك معروفًا، وقد يكون الحب من الله دون سبب من هذه الأسباب، فلا سببَ له إلا إرادة الله.
فمعنى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} [طه: 39] وليس فيك ما يُوجب المحبة، وليس لديك أسبابها، خاصة وقد كان موسى عليه السلام أسمر اللون، أجعد الشعر، أقنى الأنف، أكتف، وكأن هذه الخِلْقة جاءت تمهيدًا لهذه المحبة، وإثباتًا لإرادة الله التي طوَّعَتْ فرعون لمحبة موسى، كما قال تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24].
وهكذا، حوَّل الله قلب فرعون، وأدخل فيه محبة موسى ليُمرِّر هذه المسألة على هذا المغفل الكبير، فجعله يأخذ عدوه ويُربِّيه في بيته، ولم يكن في موسى الوسامة والجمال الذي يجذب إليه القلوب.
ثم يقول سبحانه: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 39] أي: تُربَّى على عَيْن الله وفي رعايته، وإنْ كان الواقع أنه يُربّى في بيت فرعون، فالحق تبارك وتعالى يرعاه، فإنْ تعرَّض لشيء في التربية تدخّل ربُّه عز وجل ليعلمه ويُربّيه.
ومن هذه المواقف أن فرعون كان يجلس وزوجته آسية، ومعهما موسى صغير يلعب، فإذا به يمسك بلحية فرعون ويجذبها بشدة أغاظته، فأمر بقتله، فتدخلّت امرأته قائلة: إنه ما يزال صغيرًا لا يفقه شيئًا، إنه لا يعرف التمرة من الجمرة.
فأتوا له بتمرة وجمرة ليمتحنوه، فأزاح الله يده عن التمرة إلى الجمرة لِيُفوّت المسألة على هذا المغفل الكبير، بل وأكثر من هذا، فأخذها موسى رغم حرارتها حتى وضعها في فمه، فلدغتْ لسانه، وسبَّبت له هذه العُقْدة في لسانه التي اشتكى منها فيما بعد.
وكأن الحق تبارك وتعالى يُطمئِن نبيه موسى عليه السلام: لا تخف، فأنت تحت عيني وفي رعايتي، وإنْ فعلوا بك شيئًا سأتدخل، وفي آية أخرى قال: {واصطنعتك لِنَفْسِي} [طه: 41] فأنا أرعاك وأحافظ عليك؛ لأن لك مهمة عندي. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)}.
قوله: {سُؤْلَكَ}: فعل هنا بمعنى مَفْعول نحو: أُكْل بمعنى مَأْكول، وخُبْر بمعنى مَخْبور. ولا ينقاس.
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)}.
و{مرة} مصدرٌ. و{أخرى} تأنيث أخَر بمعنى غير. وزعم بعضُهم أنها بمعنى آخِرَة، فتكونُ مقابِلةً للأولى، وتحيَّل لذلك بأن قال: سَمَّاها أخرى وهي أولى لأنها أخرى في الذِّكْرِ.
قوله: {إِذْ أَوْحَيْنَآ}: العاملُ في {إذ} {مَنَنَّا} أي: مَنَنَّا عليك في وقتِ إلجائنا إلى أمِّك، وأُبْهِم في قوله: {مَا يوحى} للتعظيم كقوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78].
قوله: {أَنِ اقذفيه}: يجوز أن تكون {أنْ} مفسرةً؛ لأنَّ الوَحْيَ بمعنى القول، ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه، وجوَّز غيرُه أن تكونَ مصدريةً. ومحلُّها حينئذٍ النصبُ بدلًا مِنْ {ما يوحى} والضمائرُ في قوله: {أَنِ اقذفيه} إلى آخرها عائدةٌ على موسى عليه السلام لأنه المُحَدَّثُ عنه. وجَوَّز بعضُهم أن يعودَ الضمير في قوله: {فاقذفيه فِي اليم} للتابوت، وما بعده وما قبله لموسى عليه السلام. وعابَه الزمخشريّ وجعله تنافرًا أو مُخْرِجًا للقرآن عن إعجازه فإنه قال: والضمائر كلُّها راجعة إلى موسى، ورجوعُ بعضها إليه وبعضِها إلى التابوت فيه هُجْنَةٌ لِما يُؤَدِّي إليه من تنافُرِ النَّظْم. فإنْ قلت: المقذوفُ في البحر هو التابوتُ وكذلك المُلْقى إلى الساحل. قلت: ما ضرَّك لو جَعَلْتَ المقذوفَ والمُلْقى به إلى الساحل هو موسى في جوفِ التابوت حتى لا تُفَرَّقَ الضمائرُ فيتنافرَ عليك النظمُ الذي هو أمُّ إعجاز القرآن والقانونُ الذي وقع عليه التحدِّي، ومراعاتُه أهمُّ ما يجب على المفسِّر.
قال الشيخ: ولقائلٍ أن يقولَ: إن الضمير إذا كان صالحًا لأَنْ يعودَ على الأقربِ وعلى الأبعدِ كان عودُه على الأقربِ راجحًا وقد نَصَّ النحويون على هذا فَعَوْدُه على التابوتِ في قوله: {فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم} راجحٌ. والجواب: أنَّ أحدَهما إذا كان مُحَدَّثًا عنه والآخرُ فضلةً، كان عودُه على المحدَّثِ عنه أرجحَ. ولا يُلْتَفَتُ إلى القُرْبِ؛ ولهذا رَدَدْنا على أبي محمد ابن حزم في دَعْواه: أنَّ الضميرَ في قولِه تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] عائدٌ على {خنزير} لا على {لحم} لكونه أقربَ مذكورٍ، فَيَحْرُمُ بذلك شحمُه وغُضْرُوْفُه وعظمُه وجِلْدُه، فإن المحدَّث عنه هو لحمَ خنزيرٍ لا خنزير. قلت: قد تقدَّمَتْ هذه المسألة في الأنعام وما تكلَّم الناسُ فيها.
قوله: {فَلْيُلْقِهِ اليم} هذا أمرٌ معناه الخبرُ، ولكنه أمرًا لفظًا جُزِم جوابُه في قوله: {يَأْخُذْهُ}. وإنما خَرَجَ بصيغة الأمر مبالغةً؛ إذ الأمرُ أقطعُ الأفعالِ وآكدُها. وقال الزمخشري: لَمَّا كانَتْ مشيئةُ اللهِ وإرادتُه أَنْ لا تُخْطِىءَ جَرْيَةُ ماءِ اليَمِّ الوصولَ به إلى الساحل، وألقاه إليه، سلك في ذلك سبيلَ المجاز، وجعل اليَمَّ كأنه ذو تمييزٍ، أمر بذلك ليطيع الأمرَ ويَمْتَثِلَ رسمَه.
وبالساحل يحتمل أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أن الباءَ للحالِ أي: ملتبسًا بالساحل، وأَنْ يتعلَّقَ بنفسِ الفعل على أنَّ الباءَ ظرفيةٌ بمعنى في.
قوله: {مِّنِّي} فيه وجهان. قال الزمخشري: لا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يتعلقَ ب {أَلْقَيْتُ} فيكون المعنى: على أني أَحْبَبْتُك، ومَنْ أحبَّه اللهُ أحبَّتْه القلوبُ، وإمَّا أن يتعلقَ بمحذوفٍ هو صفةٌ ل {محبةً} أي: محبةً حاصلةً، أو واقعةً مني، قد رَكَزْتُها أنا في القلوب وزَرَعْتُها فيها.
قوله: {وَلِتُصْنَعَ} قرأ العامَّةُ بكسر اللام وضم التاء وفتحِ النون على البناءِ للمفعول، ونصبِ الفعلِ بإضمار أَنْ بعد لام. وفيه وجهان، أحدهما: أن هذه العلةَ معطوفةٌ على علةٍ مقدرة قبلها. والتقديرُ: ليتلطَّفَ بك ولتُصْنَعَ، أو ليعطفَ عليك وتُرامَ ولتصنعَ. وتلك العلةٌ المقدرةُ متعلقةٌ بقوله: {وألقيتُ} أي: ألقيتُ عليكم المحبة ليَعْطفَ عليك ولتُصْنَعَ. ففي الحقيقة هو متعلقٌ بما قبله من إلقاءِ المحبة.
والثاني: أن هذه اللامَ تتعلقُ بمضمرٍ/ بعدها تقديرُه: ولتُصْنَعَ على عيني فعلتُ ذلك، أو كان كيت وكيت. ومعنى لتُصْنَعَ أي: لتربى ويُحْسَنَ إليك، وأنا مراعِيْكَ ومراقُبكَ كما يراعي الإِنسانُ الشيءَ بعينِه إذا اعتنى به. قاله الزمخشري.
وقرأ الحسن وأبو نهيك {ولِتَصْنَعَ} بفتح التاء. قال ثعلب: معناه لتكون حركتُك وتصرُّفُك على عينٍ مني. وقال قريبًا منه الزمخشري. وقال أبو البقاء: أي لتفعلَ ما آمُرك بمرأى مني.
وقرأ أبو جعفر وشَيْبَةُ {ولْتُصْنَعْ} بسكون اللام والعين وضم التاء وهو أمرٌ معناه: ليُرَبَّ وليُحْسَن إليك. وروي عن أبي جعفر في هذه القراءةِ كسرُ لامِ الأمر. قلت: ويحتمل مع كسرِ اللام أو سكونِها حالةً تسكينِ العين أن تكونَ لامَ كي، وإنم سُكِّنَتْ تشبيهًا بكَتْف وكَبْد، والفعل منصوب. والتسكينُ في العين لأجل الإِدغام لا يُقْرأ في الوصل إلاَّ بالإِدغام فقط. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)}.
أعطيناكَ ما سألتَ، وتناسيت ابتداءَ حالِكَ حين حفظناك في اليمِّ وَنَجَّيْنَا اُمَّكَ من ذلك الغَمِّ، ورَبَّيْنَاك في حِجْرِ العَدُوِّ.... فأين- حينذاك- كان سؤالُكَ واختيارُكَ ودعاؤُك؟
وأثبتنا في قلب امرأة فرعون شفقتك، وألقينا عليكَ المحبةَ حتى أحبّكَ عدوُّك، وربَّاكَ حتى قَتَلَ بِسَبَبِكَ ما لا يُحْصَى من الولدان، والذي بَدَأَكَ بهذه المِنَنِ هو الذي آتاك سُوْلَكَ، وحقَّقَ لك مأموَلَكَ.
قوله جلّ ذكره: {إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيِه في التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ في الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأخُذُهُ عَدُوٌّ لَّهُ}.
كان ذلك وحيَ إلهامٍ؛ ألقَى اللَّهُ في قلبها أن تجعله في تابوت، وتلقيه في اليمِ يعني نهر النيل، فَفَعَلَتْ، فألقاه النهر على الساحل، فَحُمِلَ إلى فرعون. فَلَمَّا وَقَعَ بَصَرُ امرأةِ فرعون عليه باشر حبُّه قلبَها، وكذلك وقعت محبتُه في قلبِ فرعون، ولكنها كانت أضعفَ قلبًا، فسبقت بقولها: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِىّ وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ} [القصص: 9]، ولولا أنها عَلِمَتْ أنه أخذ شعبةً من قلبِ فرعون ما أخذ من قلبها لم تقل: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِىّ وَلَكَ} [القصص: 9].
قوله: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِىّ وَعَدُوٌّ لَّهُ}: ربَّاه في حِجْرِ العدو وكان قد قَتَلَ بسببه ألوفًا من الوالدان... ولكنْ مِنْ مَأمنِهِ يُؤْتى الحَذِرُ! وبلاءُ كلِّ أحدٍ كان بَعْدَه إلا بَلاءَ موسى عليه السلام فإنه تَقَدَّمَ عليه بسنين؛ ففي اليوم الذي أخذ موسى في حِجْرِه كان قد أمر بقتل كثير من الولدان، ثم إنه ربَّاه ليكونَ إهلاكُ مُلْكِهِ على يده.... لِيُعْلَمَ أَنَّ أَسرارَ الأقدار لا يعلمها إلا الجبارُ.
يقال كان فرعون يُسَمَّى والدَ موسى وأباه- ولم يكن. وكان يقال لأُمِّ موسى ظئر موسى- ولم تكن؛ فَمِنْ حيثُ الدعوى بالأبوة لم يكن لها تحقيق، ومن حيث كان المعنى والحقيقة لم يكن عند ذلك خبر ولا عند الآخر من ذلك معرفة... هكذا الحديث والقصة.
ولقد جاء في القصة أنّ موسى لمَّا وَضِعَ في حِجْر فرعون لَطَمَ وجهه فقال: إنَّ هذا من أولاد الأعداء فيجب أَنْ يُقْتَلَ، فقالت امرأتُه: إنه صبيٌّ لا تمييزَ له، ويشهد لهذا أنه لا يُمَيِّزُ بين النار وبين غيرها من الجواهر والأشياء، وأرادت أن يصدِّق زوجُها قالتَها، فاستحضرت شيئًا من النار وشيئًا من الجواهر، فأراد موسى عليه السلام أن يمدَّ يَدَه إلى الجواهر فأخذ جبريلُ عليه السلام بيده وصَرَفَها إلى إلى النار فأخَذَ جَمْرةً بيده، وقرَّبها مِنْ فيه فاحترقَ لِسانُه- ويقال إنَّ العقدةَ التي كانت على لسانه كانت من ذلك الاحتراق- فعند ذلك قالت امرأةُ فرعون: ها قد تبينَّ أن هذا لا تمييزَ له، فقد أخذ الجمرة إلى فيه. وتخلَّص موسى بهذا مما حصل منه من لَطْمِ فرعون.
ويقال إنهم شاهدوا ولم يشعروا أنه لم يحترق مِنْ أَخْذِ الجمرة وهو صبيٌ رضيع، ثم احترق لسانه، فعلم الكلُّ أن هذا الأمر ليس بالقياس. فإنه سبحانه فعَّال لما يريد.
قوله جلّ ذكره: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنّى} أي أحببتك. ويقال في لفظ الناس: فلانٌ ألقى محبته على فلان أي أَحَبَّه. ويقال: {ألقيت عليك محبة مني}: أي طَرَحْتُ في قلوب الناس محبةً لك، فالحقُّ إذا أحبَّ عبدًا فكلُّ مَنْ شاهده أحبَّه. ويقال لملاحةٍ في عينيه؛ فكان لا يراه أحدٌ إلا أَحَبَّه.
ويقال: {ألقيت عليك محبةً مني}: أي أثْبَتُّ في قلبك محبتي؛ فإن محبةَ العبدِ لله لا تكون إلا بإثباتِ الحق- سبحانه- ذلك في قلبه، وفي معناه أنشدوا:
إنَّ المحبةَ أَمْرُها عَجَبٌ ** تُلْقَى عليكَ وما هلا سَبَبُ

قوله جلّ ذكره: {ولِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى} أي بمرأىً مني، ويقال لا أُمَكِّن غيري بأَنْ يستَبْعِدَكَ عني.
ويقال أحفظك من كل غَيْرٍ، ومن كلِّ حديثٍ سوى حديثنا. ويقال ما وَكَلْنَا حِفْظَكَ إلى أحدٍ. اهـ.