فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {إِذْ تمشي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ}.
اختلف في العامل الناصب للظرف الذي هو {إذْ} من قوله: {إِذْ تمشي أُخْتُكَ} فقيل: هو {أَلْقَيْتُ} أي ألقيت عليك محبة مني حين تمشي أختك. وقيل: هو {تصنع} على عيني حين تمشي أختك. وقيل: هو بدل من {إذ} في قوله: {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ} [طه: 38].
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلت: كما يصح وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل: لقيت فلانًا سنة كذا. فتقول: وأنا لقيتُه إذ ذاك. وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها.
وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من كون أخته مشت إليهم، وقالت لهم {هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ} أوضحه جل وعلا في سورة القصص فبين أن أخته المذكورة مرسلة من قبل أمها لتتعرف خبره بعد ذهابه في البحر، وأنها أبصرته من بعد وهم لا يشعرون بذلك. وأن الله حرم عليه المراضع غير أمه تحريمًا كونيًا قدريًا. فقالت لهم أخته {هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ} أي على مرضع يقبل هو ثديها وتكفله لكم بنصح وأمانة وذلك في قوله تعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [القصص: 11_13] فقوله تعالى في آية القصص هذه {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ} أي قالت أم موسى لأخته وهي ابنتها {قُصِّيهِ} أي اتبعي أثره، وتطلبي خبره حتى تطَّلعي على حقيقة أمره.
وقوله: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ} أي رأته من بعيد كالمعرضة عنه، تنظر إليه وكأنها لا تريده {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بأنها أخته جاءت لتعرف خبره فوجدته ممتنعًا من أن يقبل ثدي مرضعة، لأن الله يقول: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع} أي تحريمًا كونيًا قدريًا، أي منعناه منها ليتيسر بذلك رجوعه إلى أمه، لأنه لو قبل غيرها أعطوه لذلك الغير الذي قبله ليرضعه ويكفله فلم يرجع إلى أمه. وعن ابن عباس: أنه لما قالت لهم {هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} أخذوها وشكّوا في أمرها وقالوا لها: ما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه؟! فقالت لهم: نصحهم له، وشفقتهم عليه رغبة في سرور الملك، ورجاء منفعته، فأرسلوها. فلما قالت لهم ذلك وخلصت من أذاهم، ذهبوا معها إلى منزلهم فدخلوا به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا وذهب البشير إلى امرأة الملك فاستدعت أم موسى، وأحسنَتْ إليها، فالتقمه ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا وذهب البشير إلى امرأة الملك فاستدعت أم موسى، وأحسنَتْ إليها، وأعطتها عطاء جزيلًا وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة، ولكن لكونه قبل ثديها.
ثم سألتها آسية أن تقيم عندها فترضعه فأبَتْ عليها وقالت: إن لي بعلًا وأولادًا، ولا أقدر على المقام عندك، ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلتُ فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك، وأجْرَتْ عليها النفقة والصِّلات والكساوى والإحسان الجزيل. فرجعت أم موسى بولدها قد أبدلها الله بعد خوفها أمنًا في عزّ وجاه، ورزق دار. اهـ من ابن كثير.
وقوله تعالى في آية القصص: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} [القصص: 13] وعد الله المذكور هو قوله: {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} [القصص: 7] والمؤرخون يقولون: إن أخت موسى المذكورة اسمها مريم وقوله: {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} إن قلنا فيه: إن {كَيْ} حرف مصدري فاللام محذوفة، أي لكي تقرَّ. وإن قلنا: إنها تعليلية، فالفعل منصوب بأن مضمرة. وقوله: {تَقَرَّ عَيْنُهَا} قيل: أصله من القرار. لأن ما يحبه الإنسان تسكن عينه عليه، ولا تنظر إلى غيره: كما قال أبو الطيب:
وخصر تثبت الأبصار فيه ** كأن عليه من حدق نطاقا

وقيل: أصله من القر بضم القاف وهو البرد، تقول العرب: يومٌ قر بالفتح أي بارد، ومنه قول امرئ القيس:
تميم بن مر وأشياعها ** وكندة حولي جميعًا صبر

إذا ركبوا الخيل واستللأموا ** تحرقت الأرض واليوم قر

ومنه أيضًا قول حاتم الطائي الجواد:
أوقد فإن الليل ليل قر ** والريح يا واقد ريح صر

عل يرى نارك من يمر ** إن جلبت ضيفًا فأنت حر

وعلى هذا القول: فقرة العين من بردها. لأن عين المسرور باردة، ودمع البكاء من السرور بارد جدًا، بخلاف عين المحزون فإنها حارة، ودمع البكاء من الحزن حار جدًا. ومن أمثال العرب: أحر من دمع المقلات. وهي التي لا يعيش لها ولد، فيشتد حزنها لموت أولادها فتشتد حرارة دمعها لذلك.
قوله تعالى: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا}.
لم يبين هنا جل وعلا في هذه الآية الكريمة سبب قلته لهذه النفس، ولا ممن هي، ولا يبين السبب الذي نجاه به من ذلك الغم، ولا الفتون الذي فتنه، ولكنه بين في سورة القصص خبر القتيل المذكور في قوله تعالى: {وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ وهذا مِنْ عَدُوِّهِ فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الذي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ قَالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} [القصص: 15-16] وأشار إلى القتيل المذكور في قوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} [القصص: 33] وهو المراد بالذنب في قوله تعالى عن موسى: {فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} [العشراء: 13-14] وهو مراد فرعون بقوله لموسى فيما ذكره الله عنه: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَك التي فَعَلْتَ} [الشعراء: 19] الآية. وقد أشار تعالى في القصص أيضا إلى غم موسى، وإلى السبب الذي أنجاه الله به منه في قوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة يسعى قَالَ ياموسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فاخرج إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السبيل وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فسقى لَهُمَا ثُمَّ تولى إِلَى الظل فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحياء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين} [القصص: 20-25]. وقوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} قال بعض أهل العلم: الفتون مصدر، وربما جاء مصدر الثلاثي المتعدي على فعول في المتعدي كالثبور والشكور والكفور. وجمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداء بتاء التأنيث كحجوز وبدور في حجزة وبدرة أي فتناك ضروبًا من الفتن. وقد جاء في تفسير الفتون المذكور حديث معروف عند أهل العلم بحديث الفتون، أخرجه النسائي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وساقه ابن كثير في تفسيره عن النسائي بسنده. وهو حديث طويل يقتضي: أن الفتون يشمل كل ما جرى: على موسى من المحن من فرعون في صغره وكبره، كالخوف عليه من الذبح وهو صغير، ومن أجل ذلك أُلقي في التابوت وقذف في اليم فألقاه اليم بالساحل. وكخوفه وهو كبير من أن يقتله فرعون بالقبطي الذي قتله. وعلى هذا فالآيات التي ذكرت فيها تلك المحن مبينة للفتون على تفسير ابن عباس للفتون المذكور.
وقال ابن كثير رحمه الله بعد أن ساق حديث الفتون بطوله: هكذا رواه النسائي في السنن الكبرى. وأخرجه أبو جعفر بن جرير، وابن أبي حاتم في تفسيريهما كلهم من حديث يزيد بن هارون به، وهو موقوف من كلام ابن عباس، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه، وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنه مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره. والله أعلم. وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزّي يقول ذلك أيضًا. اهـ.
قوله تعالى: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى}.
السنين التي لبثها في مدين هي المذكورة في قوله تعالى: {قَالَ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ} [القصص: 27] وقد قدمنا في سورة مريم أنه أتم العشر، وبينا دليل ذلك من السنة. وبه تعلم أن الأجل في قوله: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} [القصص: 29] أنه عشر سنين لا ثمان. وقال بعض أهل العلم: لبث موسى في مدين ثمان وعشرين سنة، عشر منها مهر ابنة صهره، وثمان عشرة أقامها هو اختيارًا، والله تعالى أعلم.
وأظهر الأقوال في قوله تعالى: {ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى} أي جئت على القدر الذي قدرته وسبق في ع لمي أنك تجيء فيه فلم تتأخر عنه ولم تتقدم، كما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] وقال: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8]، وقال: {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَرًا مَّقْدُورًا} [الأحزاب: 38]. وقال جرير يمدح عمر بن عبدالعزيز.
نال الخلافة أو كانت له قدرًا ** كما أتى ربه موسى على قدر

اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ}.
والاستفهام في {هَلْ أدُلُكُمْ} للعَرْض.
وأرادت ب {مَن يَكْفُلُهُ} أمّه.
فلذلك قال: {فرجعناك إلى أُمِّكَ}.
وهذه منّة عليه لإكمال نمائه، وعلى أمّه بنجاته فلم تفارق ابنها إلاّ ساعات قلائل، أكرمها الله بسبب ابنها.
وعطفُ نفي الحزن على قرّة العين لتوزيع المنّة، لأنّ قرّة عينها برجوعه إليها.
وانتفاءَ حزنها بتحقق سلامته من الهلاك ومن الغرق وبوصوله إلى أحسن مأوى.
وتقديم قرّة العين على انتفاء الحزن مع أنها أخص فيغني ذكرها عن ذكر انتفاء الحزن؛ روعي فيه مناسبة تعقيب {فرجعناك إلى أُمِّكَ} بما فيه من الحكمة، ثم أكمل بذكر الحكمة في مشي أخته فتقول: {هل أدلكم} على من يكفله في بيتها، وكذلك كان شأن المراضع ذوات الأزواج كما جاء في حديث حليمة، وكذلك ثبت في التّوراة في سفر الخروج.
جملة {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فنجيناك مِنَ الغم وفتناك فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ يا موسى واصطنعتك لِنَفْسِى} عطف على جملة {ولقد منّنا عليك مرة أخرى لأنّ المذكور في جملة وقتلت نفسًا} منّة أخرى ثالثة.
وقدم ذكر قتله النفس على ذكر الإنجاء من الغم لتعظيم المنّة، حيث افتتحت القصّة بذكر جناية عظيمة التبعة، وهي قتل النّفس ليكون لقوله: {فنجيناك} موقع عظيم من المنّة، إذ أنجاه من عقوبة لا ينجو من مثلها مثلُه.
وهذه النفس هي نفس القبطيّ من قوم فرعون الذي اختصم مع رجل من بني إسرائيل في المدينة فاستغاث الإسرائيلي بموسى لينصره فوكز موسى القبطيّ فقضى عليه كما قصّ ذلك في سورة القصص.
والغمّ: الحزن.
والمعنيّ به ما خامر موسى من خوف الاقتصاص منه، لأنّ فرعون لما بلغه الخبر أضمر الاقتصاص من موسى للقبطي إذ كان القبط سادة الإسرائيليين، فليس اعتداء إسرائيلي على قبطي بهيّن بينهم.
ويظهر أنّ فرعون الذي تبنى موسى كان قد هلك قبل ذلك.
والفُتون: مصدر فَتن، كالخُروج، والثُبور، والشُكور، وهو مفعول مطلق لتأكيد عامله وهو {فتنّاك} وتنكيرهُ للتعظيم، أي فتونًا قويًّا عظيمًا والفتون كالفتنة: هو اضطراب حال المرء في مدّة من حياته وتقدّم عند قوله تعالى: {والفتنة أشدّ من القتل} في سورة البقرة (191).
ويظهر أن الفتون أصل مصدر فتن بمعنى اختبر، فيكون في الشرّ وفي الخير.
وأما الفتنة فلعلّها خاصة باختبار المضرّ.
ويظهر أن التنوين في فتونًا للتقليل، وتكون جملة {وفتناك فُتُونًا} كالاستدراك على قوله: {فنجيناك مِنَ الغَمّ}، أي نجيناك وحصل لك خوف، كقوله: {فأصبح في المدينة خائفًا يترقب} [القصص: 18] فذلك الفتون.
والمراد بهذا الفتون خوف موسى من عقاب فرعون وخروجه من البلد المذكور في قوله تعالى: {فأصبح في المدينة خائفًا يترقب} إلى قوله: {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفًا يترقّب قال رب نجنّي من القوم الظالمين} [القصص: 18 21].
وذكر الفتون بين تعداد المنن إدماج للإعلام بأن الله لم يهمل دم القبطيّ الذي قتله موسى، فإنه نفس معصومة الدم إذ لم يحصل ما يوجب قتله لأنّهم لم تَرِد إليهم دعوة إلهية حينئذ.
فحين أنجى الله موسى من المؤاخذة بدمه في شرع فرعون ابتلَى موسى بالخوف والغربة عتابًا له على إقدامه على قتل النفس، كما قال في الآية الأخرى: {قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له} [القصص: 15 16].
وعباد الله الذين أراد بهم خيرًا ورعاهم بعنايته يجعل لهم من كلّ حالة كمالًا يكسبونه، ويُسمى مثل ذلك بالابتلاء، فكان من فتون موسى بقضيّة القبطيّ أن قدر له الخروج إلى أرض مدين ليكتسب رياضة نفس وتهيئةَ ضمير لتحمّل المصاعب، ويتلقّى التهذيب من صهره الرسول شعيب عليه السلام.
ولهذا المعنى عقب ذكر الفتون بالتفريع في قوله: {فَلِبثْتَ سِنينَ في أهلِ مَديَنَ ثمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ يامُوسى} فبين له كيف كانت عاقبة الفتون.
أو يكون الفتون مشتركًا بين محمود العاقبة وضدّه مثل الابتلاء في قوله: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} [الأعراف: 168]، أي واختبرناك اختبارًا، والاختبار: تمثيل لحال تكليفه بأمر التبليغ بحال من يختبر، ولهذا اختير هنا دون الفتنة.
وأهل مدين: قوم شعيب.
ومَدْيَن: اسم أحد أبناء إبراهيم عليه السلام سكنت ذريته في مواطن تسمى الأيْكة على شاطىء البحر الأحمر جنوب عقبة أيلة، وغلب اسم القبيلة على الأرض وصار علمًا للمكان فمن ثمّ أضيف إليه {أهل}.
وقد تقدم في سورة الأعراف.
ومعنى {جئتَ} حضرتَ لدينا، وهو حضوره بالواد المقدّس لتلقي الوحي.
و{على} للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن؛ جعل مجيئه في الوقت الصالح للخير بمنزلة المستعلي على ذلك الوقت المتمكن منه.
والقدَر: تقدير الشيء على مقدار مناسب لما يريد المقدّر بحيث لم يكن على سبيل المصادفة، فيكون غير ملائم أو في ملاءَمتِه خلَل، قال النّابغة:
فريع قلبي وكانتْ نظرةً عرضت ** يومًا وتوفيق أقدار لأقدار

أي موافقة ما كنتُ أرغبه.
فقوله: {ثم جئت على قدر يا موسى} يفيد أنّ ما حصل لموسى من الأحوال كان مقدّرًا من الله تقديرًا مناسبًا متدرجًا، بحيث تكون أعماله وأحواله قد قدّرها الله وحددها تحديدًا منظمًا لأجل اصطفائه وما أراد الله من إرساله، فالقدر هنا كناية عن العناية بتدبير إجراء أحواله على ما يسفر عن عاقبة الخير.
فهذا تقدير خاص، وهو العناية بتدرج أحواله إلى أن بلغ الموضع الذي كلّمه الله منه.
وليس المراد القَدر العام الذي قدّره الله لتكوين جميع الكائنات، فإن ذلك لا يُشعر بمزية لموسى عليه السلام.
وقد انتبَه إلى هذا المعنى جرير بذوقه السليم فقال في مدح عمر بن عبد العزيز:
أتى الخلافة إذْ كانت له قَدرًا ** كما أتَى ربّه موسى على قَدَر

ومن هنا ختم الامتنان بما هو الفذلكة، وذلك جملة {واصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} الذي هو بمنزلة ردّ العجز على الصدر على قوله: {ولتصنع على عيني إذ تمشي أختك} الآية، وهو تخلص بديع إلى الغرض المقصود وهو الخطاب بأعمال الرسالة المبتدأ من قوله: {وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى} [طه: 13] ومن قوله: {اذهب إلى فرعون إنّه طغى} [طه: 24].
والاصطناع: صنع الشيء باعتناء.
واللام للأجْل، أي لأجْل نفسي.
والكلام تمثيل لِهيئة الاصطفاء لتبليغ الشريعة بهيئة من يصطنع شيئًا لفائدة نفسه فيصرف فيه غاية إتقان صنعه. اهـ.