فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد تقدمت نظائره في القرآن غير مرّة.
والتذكّر: من الذُّكر بضم الذال أي النظر، أي لعلّه ينظر نظر المتبصّر فيعرف الحق أو يخشى حلولَ العقاب به فيُطيع عن خشية لا عن تبصر.
وكان فرعون من أهل الطغيان واعتقاد أنه على الحق، فالتذكر: أن يعرف أنه على الباطل، والخشيةُ: أن يتردد في ذلك فيخشى أن يكون على الباطل فيحتاط لنفسه بالأخذ بما دعاه إليه موسى.
وهنا انتهى تكليم الله تعالى موسى عليه السلام.
{قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)}.
فصلت الجملتان لوقوعهما موقع المحاورة بين موسى مع أخيه وبين الله تعالى على كلا الوجهين اللذين ذكرناهما آنفًا، أي جمعا أمرهما وعزم موسى وهارون على الذهاب إلى فرعون فناجيا ربّهما {قَالاَ رَبَّنا إنَّنا نَخَافُ أن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أو أن يطغى}، لأنّ غالب التفكير في العواقب والموانع يكون عند العزم على الفعل، والأخذِ في التهيُّؤ له، ولذلك أُعيد أمرهما بقوله تعالى: {فَأْتِيَاهُ}.
و{يَفْرُطَ} معناه يعجّل ويسبق، يقال: فَرط يفرُط من باب نصر.
والفارط: الذي يسبق الواردة إلى الحوض للشرب.
والمعنى: نخاف أن يعجّل بعِقابنا بالقتل أو غيره من العقوبات قبل أن نبلُغه ونحجّه.
والطغيان: التظاهر بالتكبر.
وتقدم آنفًا عند قوله: {اذهب إلى فرعون إنه طغى} [طه: 24]، أي نخاف أن يُخامره كبره فيعدّ ذكرنا إلهًا دونه تنقيصًا له وطعْنًا في دعواه الإلهية فيطغى، أي يصدر منه ما هو أثر الكبر من التحقير والإهانة.
فذكر الطغيان بعد الفَرط إشارة إلى أنّهما لا يطيقان ذلك، فهو انتقال من الأشدّ إلى الأضعف لأن {نخاف} يؤول إلى معنى النفي.
وفي النفي يذكر الأضعف بعد الأقوى بعكس الإثبات ما لم يوجد ما يقتضي عكس ذلك.
وحذف متعلّق {يطغى} فيحتمل أن حذفه لدلالة نظيره عليه، وأوثر بالحذف لرعاية الفواصل.
والتقدير: أو أن يطغى علينا.
ويحتمل أن متعلّقه ليس نظير المذكور قبله بل هو متعلّق آخر لكون التقسيم التقديري دليلًا عليه، لأنهما لما ذكر متعلّق {يفرط علينا} وكان الفَرْط شاملًا لأنواع العقوبات حتى الإهانة بالشتم لزم أن يكون التقسيم بأو منظورًا فيه إلى حالة أخرى وهي طغيانه على من لا يناله عقابه، أي أن يطغى على الله بالتنقيص كقوله: {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38] وقوله: {لعليّ اطّلِعُ إلى إله موسى} [القصص: 38]، فحذف متعلق {يطغى} حينئذ لتنزيهه عن التصريح به في هذا المقام.
والتقدير: أو أن يطغى عليك فيتصلّب في كفره ويعسر صرفه عنه.
وفي التحرز من ذلك غيرة على جانب الله تعالى، وفيه أيضًا تحرز من رسوخ عقيدة الكفر في نفس الطاغي فيصير الرجاء في إيمانه بعد ذلك أضعف منه فيما قبل، وتلك مفسدة في نظر الدّين.
وحصلت مع ذلك رعاية الفاصلة.
قال الله: {لاَ تَخَافَا}، أي لا تخافا حصول شيء من الأمرين، وهو نهي مكنى به عن نفي وقوع المنهي عنه.
وجملة {إنَّنِي مَعَكُمَا} تعليل للنهي عن الخوف الذي هو في معنى النفي، والمعيّة معيّة حفظ.
و{أسْمَعُ وأرى} حالان من ضمير المتكلم، أي أنا حافظكما من كل ما تخافانه، وأنا أعلم الأقوال والأعمال فلا أدَعُ عمَلًا أو قولًا تخافانه.
ونزل فعلاَ {أسْمَعُ وأرى} منزلة اللازمين إذ لا غرض لبيان مفعولهما بل المقصود: أني لا يخفى عليّ شيء.
وفرع عليه إعادة الأمر بالذهاب إلى فرعون.
والإتيان: الوُصول والحلول، أي فحُلاّ عنده، لأنّ الإتيان أثر الذهاب المأمور به في الخطاب السابق، وكانا قد اقتربا من مكان فرعون لأنهما في مدينته، فلذا أمِرا بإتيانه ودعوته.
وجاءت تثنية رسول على الأصل في مطابقة الوصف الذي يجري عليه في الإفراد وغيره.
وفَعول الذي بمعنى مفعول تجوز فيه المطابقة، كقولهم ناقة طروقَة الفَحل، وعدم المطابقة كقولهم: وَحشية خلوج، أي اختُلج ولدُها.
وجاء الوجهان في نحو رسول وهما وجهان مستويان.
ومن مجيئه غير مطابق قوله تعالى في سورة الشعراء (16): {فأتِيا فرعون فقولا إنا رسولُ ربّ العالمين} وسيجيء تحقيق ذلك هنالك إن شاء الله.
وأدخل فاء التفريع على طَلب إطلاق بني إسرائيل لأنّه جعل طلب إطلاقهم كالمستقرّ المعلوم عند فرعون؛ إما لأنّه سبقت إشاعَة عزمهما على الحضور عند فرعون لذلك المطلب، وإما لأنه جعله لأهميته كالمقرّر. وتفريع ذلك على كونهما مرسلَيْن من الله ظاهر، لأنّ المرسل من الله تجب طاعته.
وخصّا الربّ بالإضافة إلى ضمير فرعون قصدًا لأقصى الدعوة، لأنّ كون الله ربّهما معلوم من قولهما {إنَّا رَسُولاَ رَبّكَ} وكونه ربّ الناس معلوم بالأحْرى لأنّ فرعون علّمهم أنه هو الرب.
والتعذيب الذي سألاه الكفّ عنه هو ما كان فرعون يسخّر له بني إسرائيل من الأعمال الشاقّة في الخدمة، لأنه كان يعُدّ بني إسرائيل كالعبيد والخول جزاء إحلالهم بأرضه.
وجملة {قَدْ جئناك بِآيَةٍ مِن رَبّك} فيها بيان لجملة {إنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} فكانت الأولى إجمالًا والثانية بيانًا.
وفيها معنى التعليل لتحقيق كونهما مرسلَيْن من الله بما يظهره الله على يد أحدهما من دلائل الصدق.
وكلا الغرضين يوجب فصل الجملة عن التي قبلها.
واقتصر على أنهما مصاحبان لآيةٍ إظهارًا لكونهما مستعدّيْن لإظهار الآية إذا أراد فرعون ذلك.
فأما إن آمن بدون احتياج إلى إظهار الآية يكن إيمانه أكمل، ولذلك حكي في سورة الأعراف (16) قول فرعون: {قال إن كنت جئت بآية فإت بها إن كنت من الصادقين} وهذه الآية هي انقلاب العصا حيّة، وقد تبعتها آيات أخرى.
والاقتصار على طلب إطلاق بني إسرائيل يدلّ على أن موسى أُرسل لإنقاذ بني إسرائيل وتكوين أمّة مستقلّة؛ بأن يبثّ فيهم الشريعة المصلحة لهم والمقيمة لاستقلالهم وسلطانهم، ولم يرسل لخطاب القبط بالشريعة ومع ذلك دعا فرعون وقومه إلى التوحيد لأنه يجب عليه تغيير المنكر الذي هو بين ظهرانيه.
وأيضًا لأنّ ذلك وسيلة إلى إجابته طلب إطلاق بني إسرائيل.
وهذا يؤخذ مما في هذه الآية وما في آية سورة الإسراء وما في آية سورة النازعات والآيات الأخرى.
والسّلام: السلامة والإكرام.
وليس المراد به هنا التحيّة، إذ ليس ثَمّ معيّن يقصد بالتحيّة.
ولا يراد تحيّة فرعون لأنها إنما تكون في ابتداء المواجهة لا في أثناء الكلام، وهذا كقول النبي في كتابه إلى هرقل وغيره: أسلمْ تَسْلَمْ.
و{على} للتمكّن، أي سلامة من اتبع الهدى ثابتة لهم دون ريب.
وهذا احتراس ومقدمة للإنذار الذي في قوله: {إنَّا قد أُوحِي إلينا أنَّ العَذابَ على مَن كَذَّبَ وتولَّى}، فقوله: {والسلام على من اتّبع الهدى} [طه: 47] تعريض بأن يطلب فرعون الهدى الذي جاء به موسى عليه السلام.
وقوله: {إنَّا قد أُوْحِيَ إلينا} تعريض لإنذاره على التكذيب قبل حصوله منه ليبلغ الرسالة على أتمّ وجه قبل ظهور رأي فرعون في ذلك حتى لا يجابهه بعد ظهور رأيهِ بتصريح توجيه الإنذار إليه.
وهذا من أسلوب القول اللّين الذي أمرهما الله به.
وتعريف العَذَابَ تعريف الجنس، فالمعرّف بمنزلة النكرة، كأنّه قيل: إنّ عذابًا على من كذّب.
وإطلاق السّلام والعذاب دون تقييد بالدنيا أو الآخرة تعميم للبشارة والنذارة، قال تعالى في سورة النازعات [25، 26]: {فأخذه الله نكالَ الآخرة والأولى} إنّ في ذلك لعبرةً لمن يخشى.
وهذا كلّه كلام الله الذي أمرهما بتبليغه إلى فرعون، كما يدلّ لذلك تعقيبه بقوله تعالى: {قال فمَن ربُّكما يا موسى} [طه: 49] على أسلوب حكاية المحاورات.
وما ذكر من أول القصة إلى هنا لم يتقدّم في السور الماضية. اهـ.

.قال الشعراوي:

{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)}.
{بِآيَاتِي} [طه: 42] الآيات هنا هي المعجزات الباهرات التي تبهر فرعون، فلن تذهبا مُجرَّديْن، بل معكما دليل على صِدْق الرسالة التي تحملونها إليه: {لاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه: 42] من التَّواني أي: الفتور أو التقصير؛ لأنني أعددتكما الإعداد المناسب لهذه المهمة الشاقة، فإياكم والتهاون فيها، فإنْ حدث منكما تقصير فهو تقصير في الأداء، لا في الإعداد.
ومعنى: {فِي ذِكْرِي} [طه: 42] أي: لأكُنْ دائمًا على بالكما، فأنا الذي أرسلتُ، وأنا الذي أيدتُ بالمعجزات، وأنا الذي أرعاكما وأرقبكما، وأنا الذي سأجازيكما فلا يَغبْ ذلك عنكما.
ثم يقول الحق سبحانه: {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ}.
وهل هناك طغيان فوق ادعاء أنه رَبٌّ؟ وقد قال تعالى في موضع آخر: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين} [يونس: 83] والمسرف: هو الذي يتجاوز الحدود، وهو قد تجاوز في إسرافه وادَّعى الألوهية، فعَلاَ في الأرض علوَّ طاغية من البشر على غيره من البشر المستضعفين.
{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)}.
هذا لفرعون بعد أنْ طغى، ومن الذي حكم عليه بالطغيان؟ حين تحكم أنت عليه بالطغيان فهو طغيان يناسب قدرات وإمكانات البشر، أمّا أن يقول عنه الحق تبارك وتعالى {إِنَّهُ طغى} [طه: 43] فلابد أنه تجاوز كل الحدود، وبلغ قمة الطغيان، فربُّنا هو الذي يقول.
فقوله: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا} [طه: 44] فلابد أنْ تعطيه فُسْحة كي يرى حُجَجك وآياتك، ولا تبادره بعنف وغِلْضة، وقالوا: النصح ثقيل، فلا ترسله جبلًا، ولا تجعله جدلًا، ولا تجمع على المنصوح شدتين: أنْ تُخرِجه مما ألف بما يكره، بل تُخرِجه مما ألِف بما يحب.
وهذا منهج في الدعوة واضح وثابت، كما في قوله تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل: 125].
لأنك تخلعه مما اعتاد وألف، وتُخرجه عَمَّا أحبَّ من حرية واستهتار في الشهوات والملذات، ثم تُقيِّده بالمنهج، فليكُنْ ذلك برفق ولُطْف.
وهذه سياسة يستخدمها البشر الآن في مجال الدواء، فبعد أن كان الدواء مُرًّا يعافُه المرضى، توصلوا الآن إلى برشمة الدواء المر وتغليفه بطبقة حلوة المذاق حتى تتم علمية البَلْع، ويتجاوز الدواء منطقة المذاق.
وكذلك الحال في مرارة الحق والنصيحة، عليك أنْ تُغلِّفها بالقول اللين اللطيف.
وقوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] لعل: رجاء، فكيف يقول الحق تبارك وتعالى: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] وفي عِلْمه تعالى أنه لن يتذكَّر ولن يخشى، وسيموت كافرًا غريقًا؟
قالوا: لأن الحق سبحانه يريد لموسى أن يدخل على فرعون دخول الواثق من أنه سيهتدي، لا دخولَ اليائس من هدايته، لتكون لديه الطاقة الكافية لمناقشته وعَرْض الحجج عليه، أمّا لو دخل وهو يعلم هذه النتيجة لكان محبطًا لا يرى من كلامه فائدة، كما يقولون ضربوا الأعور على عينه قال خسرانه خسرانه.
فالحق سبحانه يعلم ما سيكون من أمر فرعون، لكنْ يريد أنْ يقيمَ الحجة عليه {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165].
وقوله: {يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] كأن الإنسان إذا ما ترك شراسة تفكيره، وغُمة شهواته في نفسه، لابد أنْ يهتدي بفطرته إلى وجود الله أو يتذكر عالم الذَّر، والعهد الذي أخذه الله عليه يوم أنْ قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ} [الأعراف: 172].
والذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنصِّرانه، أو يُمجِّسانه».
فلو تذكّر الإنسان، وجرَّد نفسه من هواها لابد له أنْ يهتدي إلى وجود الله، لكن الحق سبحانه وتعالى جعل للغفلة مجالًا، وأرسل الرسل للتذكير؛ لذلك قال: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [النساء: 165] ولم يقل: بادئين.
أمّا مسألة الإيمان بالله فكان ينبغي أن تكون واضحة معروفة للناس أن هناك إيمانًا بإله خالق قادر فقط ينتظرون ما يطلبه منهم وما يتعبّدهم به.
ماذا تفعل؟ وماذا تترك؟ وهذه هي مهمة الرسل.
وسبق أن ضربنا مثلًا برجل انقطعت به السُّبل في صحراء دَويَّة، لا يجد ماءً ولا طعامًا، حتى أشرف على الهلاك، ثم غلبه النوم فنام، فلما استيقظ إذا بمائدة عليها ألوان الطعام والشراب. بالله قبل أنْ يمد يده للطعام، ألاَ يسأل: مَنْ أتى إليه به؟
وهكذا الإنسان، طرأ على كون مُعَدٍّ لاستقباله: أرض، وسماء، وشمس، وقمر، وزرع، ومياه، وهواء. أليس جديرًا به أن يسأل: من الذي خلق هذا الكون البديع؟ فلو تذكرتَ ما طرأتَ عليه من الخير في الدنيا لا نتهيتَ إلى الإيمان.
فمعنى: {يَتَذَكَّرُ} [طه: 44] أي: النعم السابقة فيؤمن بالمنعم {أَوْ يخشى} [طه: 44] يخاف العقوبة اللاحقة، فيؤمن بالله الذي تصير إليه الأمور في الآخرة.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى عنهما: {قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ}.
الخوف: شعور في النفس يُحرِّك فيك المهابة من شيء، ومِمَّ يخافان؟ {أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ} [طه: 45] يفرط: أي: يتجاوز الحد.. ومضادها: فرَّط يعني: قصّر في الأمر؛ لذلك يقولون: الوسط فضيلة بين إفراط وتفريط.
ومَنْ أفرط يقولون: فَرَس فارط عندما يسبق في المضمار. ويقولون: حاز قَصْب السبق، وكانوا يضعون في نهاية المضمار قصبة يركزونها في الأرض، والفارس الذي يلتقطها أولًا هو الفائز، والفرس فارط يعني: سبق الحدِّ المعمول له، لا مجرد أن يسبق غيره.
لذلك عندما يُحدِّثنا القرآن عن الحدود، يقول مرة: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] أي: إياك أن تسبق الحد الذي وُضِع لك ومرة أخرى يقول: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] ففي المحلّلات قال: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] قِفُوا على الحدِّ لا تسبقوه، وفي المحرمات قال: {فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] لأنك لو اقتربتَ منها وقعتَ فيها.
فالمعنى إذن {يَفْرُطَ عَلَيْنَآ} [طه: 45] يتجاوز الحدّ، وربما عاجلنا بالقتل قبل أن نقول شيئًا فيسبق قتلُه لنا كلامنا له.
وقوله تعالى: {أَوْ أَن يطغى} [طه: 45] فلا يكتفي بقتلنا، بل ويخوض في حَقِّ ربنا، أو يقول كلامًا لا يليق، كما سبق له أن ادَّعى الألوهية.
ومن واجب الدعاة ألاَّ يَصِلوا مع المدعوين إلى درجة أن يخوضوا في حقِّ الله تبارك وتعالى؛ لذلك فالحق سبحانه يُؤدِّب المؤمنين به بأدب الدعوة في مجابهة هؤلاء فيقول: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].
ثم يقول الحق سبحانه: {قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ}.
أي: لن أسلمكما ولن أترككما، وأنا معكما أسمع وأرى؛ لأن الحركة إما قول يُسمع، أو فعل يُرى، فاطمئنّا، لأننا سنحفظكما، وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171173].
وهذه سُنة من سُنَن الله تعالى، فإنْ رأيتَ جندًا من الجنود منسوبين لله تعالى وهُزِمُوا، فاعلم أنهم انحلوا عن الجندية لله، وإلا فوعْد الله لجنوده لا يمكن أن يتخلف أبدًا.
والدليل على ذلك ما حدث للمسلمين في أُحُد، صحيح أن المسلمين هُزِموا في هذه الغزوة؛ لأنهم انحرفوا عن أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالفوه عندما قال للرماة: لاتتركوا أماكنكم على أيّ حال من الأحوال لكن بمجرد أنْ رأوا بوادر النصر تركوا أماكنهم، ونزلوا لجَمْع الغنائم، فالتف من خلفهم خالد بن الوليد وألحق بهم الهزيمة، وإن انهزم المسلمون فقد انتصر الإسلام؛ لأنهم لما خالفوا أوامر رسولهم انهزموا، وبالله لو انتصروا مع المخالفة أكان يستقيم لرسول الله أمر بعد ذلك؟
ففي الآية التي معنا يطمئنهم الحق تبارك وتعالى حتى لا يخافا، فقدرة الله ستحفظهما، وسوف تتدخل إنْ لزمَ الأمر كما تدخلْت في مسألة التمرة والجمرة، وهو صغير في بيت فرعون.
ثم يقول لهما الحق سبحانه وتعالى: {فَأْتِيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ}.
ونلحظ هنا أنهما لم يواجهاه بما ادعاه من الألوهية مرة واحدة، إنما أشارا إلى مقام الربوبية {رَسُولاَ رَبِّكَ} [طه: 47] وهذه هِزّة قوية تزلزل فرعون، ثم تحوّلا إلى مسألة أخرى، وهي قضية بني إسرائيل، وكان فرعون يُسخِّرهم في خدمته ويُعذِّبهم ويشقّ عليهم.
{فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ} [طه: 47] فقد جئنا لنأخذ أولادنا وننقذهم من هذا العذاب {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ} [طه: 47] أي: معجزة {مِّن رَّبِّكَ} [طه: 47] فأعادوا عليه هذه الكلمة مرة أخرى.
وقد علّمهما الحق سبحانه كيف يدخلون على فرعون؟ وكيف يتحدثون معه في أمر لا يمسّ كبرياءه وألوهيته.
وبنو إسرائيل هم البقية الباقية من يوسف عليه السلام وإخوته، لما جاءوا إلى مصر في أيام العزيز الذي قرَّب يوسف وجعله على خزائن الأرض، كما قال تعالى في قصة يوسف: {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 5455].
وقوله: {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} [طه: 47] وهذه ليست تحية؛ لأنك تُحيي مَنْ كان مُتبعًا للهدى، وتدعو له بالسلام، فإنْ لم يكُنْ كذلك فهي نهاية للكلام.
لذلك كان يكتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبه إلى المقوقس عظيم القبط، وإلى هرقل عظيم الروم، يقول: «اسلم تسلم، يؤتِكَ الله أجرك مرتين، فإنْ توليت فإنما عليك إثم الأريسيين والسلام على مَنِ اتبع الهدى».
قال موسى وهارون لفرعون: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ}.
فأعطاه هنا القضية النهائية: جاءنا في الوحي أن مَنْ كذّب وتولّى فله العذاب، ومعنى {أُوحِيَ إِلَيْنَآ} [طه: 48] أي: من ربك.
فلما سمع فرعون هذه المقولة أحب أنْ يدخل معهما في متاهات يشغلهم بها، ويطيل الجدل ليُرتِّب أفكاره، وينظر ما يقول: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يا موسى}. اهـ.