فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [طه: 47]، وفي سورة الشعراء: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الشعراء: 16-17)، ففي الأولى: {فَأْتِيَاهُ} وفي الثانية: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ}، وفي الأولى: {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} بالتثنية والإضافة إلى ضمير الخطاب وفي الثانية: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فورد هنا {رسول} بلفظ الإفراد وإضافة رب {إلى} العالمين، والظاهر أن أمر موس وهارون، عليهما السلام، في الآيتين كان أول أمر أُمرا به في إرسالهما إلأى فرعون، وأن أمرهما معًا بهذا لم يتكرر، وقد تقدم في سورة طه أمر موسى، عليه لاسلام منفردًا عن أخيه هارون في أول تكليم الله تعالى، وأمره بخلع نعليه، وإعطائه آيتي العصا واليد، وأمره بالذهاب إلى فرعون، وطلبه شرح صدره، إلى طلبه المعونة بأخيه هارون، وبعد ذلك أُمرا معًا بما في هاتين الآيتين، ثم لم يتكرر حسبما ذكرناه بمقتضى الظاهر، فللسائل أن يسأل عن وجه الاختلاف فيهما؟ ووجه اختصاص كل سورة بما ورد فيها؟
والجواب عن الأول: ما تقدم من أن الإخبار عن ذلك كله في كتابنا معتمد فيه المعنى، وقد تقدم بيان ذلك مستوفى، وأما وجه التخصيص، فإن ورود اسم فرعون مضمرًا في قوله: {فأتياه} إنما ذلك لتقدم ذكره في قوله: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} (طه: 43-44)، فلم تكن إعاجى اسمه ظاهرًا مع الاتصال والقرب، إذ لم يفصل بين ظاهره ومضمره إلا كلمتان. أما آية الشعراء فقد اجتمع فيها أمران: أحداهما الفصل بين مضمر الاسم وظاهره، مع إتيان الظاهر مضافًا إليه فضلة إلى ما ذكر إليه من الفصل ببضع وعشرين كلمة، والثاني أن أمر موسى، عليه السلام، أولًا إنما ورد بإتيان قوم فرعون، قال تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} [الشعراء: 10-11]، فقد يتوهم أن الجاري على هذا أن لو قيل عوض قوله: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ} فأتياه، إلا أنه لم يقصد إلا ذكر متبوعهم، فلم يكن بد من الإفصاح باسمه غير مضمر.
وأما قوله تعالى في الأولى: {فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} [طه: 47] بتثنية لف الرسول فوارد على اللغة الشهيرة، أما قوله في الثانية: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] فعلى لغة من يقول رسول للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، وعلى ذلك قول الهذلي:
ألكني إليها وخير الرسول ** أعلمهم بنواحي الخبرَّ

فورد الأول في الترتيب على اللغة الشهيرة، والثاني على اللغة الأخرى على ما تقدم في مثل هذا، وعكس الوارد مخالف للترتيب ولا يناسب.
وأما قوله: {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} بإضافة اسمه تعالى إلى ضمير الخطاب، فإنه يناسب من حيث ما فيه من {التلطف} والرفق لما تقدمه من قوله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44]، وقد تفسر هذا القول وتبين ما فيه من التلطف بقوله تعالى في سورة النازعات: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 18-19]، وناسب هذا ما بنيت عليه سورة طه من تأنيس نبينا صلى الله عليه وسلم وتأميس موسى كليمه صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه: 13] وما بعد إلى قوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 36] وما بعد، فلما كان بناء هذه السورة بجملتها على التلطلف والتأنيس ناسب ذلك ما أمر به موسى، عليه السلام، من دعاء فرعون آنسه وألطفه، وأمر موسى، عليه السلام، وأخوه هارون بذلك فقيل لهما: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا}، وجرى على ذلك قوله: {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ}، فأشعرت هذه الإضافة بالتلطف الرباني، ولما لم تكن سورة الشعراء مبنية على ما ذكر، وإنما تضمنت تعنيف فرعون وملئه وإغراقهم وأخذ المكذبين للرسل بتكذيبهم، وهذا في طرف من التلطف، ورد فيها: {فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بإضافة اسمه سبحانه إلى {العالمين} ليحصل منه أنه مالك الكل وأنهم تحت قهره تعالى وفي قبضته، وعدل عن الإضافة إلى ضمير الخطاب إذ لم يقصد هنا ما تقدم من التلطف، ونظير الوارد في هاتين الآيتين قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 137]، فقف على ذلك في سورة الأنعام، وقد تبين جليل النظم وعلي التناسب في كل ما تقدم، وأن عكس الوارد في هذه الآي لا يناسب، والله سبحانه أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)}.
تعلّلَ موسى عليه السلام لمَّا أرسله الحقُّ إلى فرعون بوجوهٍ من العِلل مثل قوله: {وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى} [القصص: 13]، {إِنِّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًَا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} [القصص: 33].. إلى غير ذلك من الوجوه، فلم ينفعه ذلك، وقال الله: {إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، فاستقل موسى عليه السلام بذلك، وقال: الآن لا أُبالي بعد ما أنت معي.
{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)}.
إنما أمرهما بالملاينة معه في الخطاب لأنه كان أول مَنْ دَعَوْه إلى الدِّين، وفي حال الدعوة يجب اللِّين؛ فإنه وقت المُهلةِ، فلابد من الإمهال ريثما ينظر؛ قال الله لنبينا صلى الله عليه وسلم {وَجَدِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]: وهو الإمهال حتى ينظروا ويستدلوا، وكذلك قال: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ} [سبأ: 46].
ثم إذا ظهر من الخَصمِ التمرُّدُ والإباء فحينئذٍ يُقابَلُ بالغلظة والحتف.
ويقال علَّمهما خطابَ الأكابرِ ذوي الحشمة؛ ففرعونُ- وإن كان كافرًا- إلا أنه كان سلطانَ وقتهِ، والمتسلِّطَ على عبادِ الله.
ويقال إذا كان الأمرُ في مخاطبة الأعداء بالرِّفق والملاينة... فكيف مع المؤمن في السؤال؟
ويقال في هذا إشارة إلى سهولة سؤال المَلَكَين في القبر للمؤمن.
ويقال إذا كان رِفْقُه بِمَنْ جَحَدَه فكيف رِفْقُه بِمَنْ وَحَدَه؟
ويقال إذا كان رَفْقُه بالكفَّارِ فكيف رفقُه بالأبرار؟
ويقال إذا كان رفقه بمن قال: أنا... فكيف رفقه بمن قال: أنت؟
ويقال إنه أَحْسَنَ تربيةَ موسى عليه السلام؛ فأراده أن يرفق به اليومَ في الدنيا على جهة المكافأة.
وقيل تفسير هذا ما قال في آية أخرى: {فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى} [النازعات: 18].
وقوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}: أي كُونَا على رجاء أن يُؤْمِنَ. ولم يحبرهما أنه لا يؤمن لئلا تتداخَلَهُما فَتْرَةٌ في تبليغ الرسالة عِلْمًا منه بأنه لا يؤمن ولا يقبل.
{قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)}.
في الآية دليلٌ على أَنَّ الخوفَ الذي تقتضيه جَبْلَةُ الإنسانِ غيرُ ملومٍ صاحبُه عليه، حيث قال مثل موسى ومثل هارون عليهما السلام: {إِنَّنَا نَخَافُ}.
ثم إنَّه سبحانه سَكَّنَ ما بهما من الخوف بوعد النصرة لهما.
ويقال لم يخافا على نَفْسَيْهِما شفقةً عليهما، ولكن قالا: إننا نخاف أن تحل بنا مكيدةٌ من جهته، فلا يحصل فيما تأمرنا به قيامٌ بأمرك، فكان ذلك الخوفُ لأجل حقِّ الله لا لأَجْلِ حظوظ أنفسهما.
ويقال لم يخافا من فرعون، ولكن خافا من تسليط الله إياه عليهما، ولكنهما تأّدّبا في الخطاب.
{قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)}.
تلَطَّفَ في استجلاب هذا القول من الحق سبحانه، وهو قوله: {إِنَّنِى مَعَكُمَا} بقولهما: {إِنَّنَا نَخَافُ}، وكان المقصود لهما أن يقول الحق لهما: {إِنَّنِى مَعَكُمَا} وإلا فأَنّي بالخوف لِمَنْ هو مخصوصٌ بالنبُوَّةِ؟!
ويقال سَكَّنَ فيهما الخوف بقوله: {إِنَّنِى مَعَكُمَا}، فَقَوبا على الذهاب إليه؛ إذ مِنْ شَرْط التكليف التمكين.
قوله جلّ ذكره: {فَأْتِيَاهُ فَقُولآَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ}.
طالَ البلاءُ ببني إسرائيل من جهة فرعون، فتدارَاكَهُم الحقُّ سبحانه ولو بعد حين، بذلك أجرى سُنَّتَهُ أنه يُرخي عِنَانَ الظالم، ولكن إذا أَخَذَهُ فإِنَّ أَخْذَهُ أليمٌ.
قوله جلّ ذكره: {قَدْ جِئْنَاكَ بِئَايَةٍ مِّن رَّبِّكَ}.
من شَرْطِ التكليفِ التمكينُ بالبيِّنة والآيةِ للرسولِ حتي يَتَّضِحَ ما يَدُلُّ على صِدْقِه فيما يدعو إليه من النبوة. ثم إن تلك الآية وتلك البيِّنة ما نفعتهم، وإنا تأكدتْ بهما عليهم الحُجَّةُ؛ فإِذا عَمِيَ بَصَرُ القلبِ فأَنَّى تنفع بصيرةُ الحجة؟ وفي معناه قالوا:
وفي نَظَرِ الصادي إلى الماء حَسْرَةٌ ** إذا كان ممنوعًا سبيل المواردِ

قوله جلّ ذكره: {وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتّبَعَ الهُدَى}.
إنما يَتّبع الهُدَى مَنْ كَحَّلَ قلبَه بنور العرفان، فأما من كانت على قلبِه غشاوة الجهل... فمتى يستمع إلى الهُدَى؟
{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)}.
ما بعث اللَّهُ نبيًا إلاَّ وقد أَنْذَرَ قومَه بالعذاب على تَرْكِ الأمر، وبَشَّرَهُم بالثوابِ على حِفظِ الأمر. والعذابُ مُعَجَّلُ. ومؤجَّلٌ؛ فمؤجَّلُه لا يُوقَفُ على تفصيله الأعداءُ وكذلك مُؤَجَّل الثوابُ، قال تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].
وأما مُعَجَّلُ العقوبةِ فأنواع، وعلى حسبت مقام المرءِ تَتَوَجَّهُ عليه المُطَالَبَاتُ، والزيادةُ في العقوبةِ تَدُلُّ على زيادةِ استحقاقِ الرّتْبَةِ؛ كالحرِّ والعَبْدِ في الحَدِّ. وقسوةُ القلب نوعُ عقوبة، وما يتداخل الطاعة نوعُ عقوبة، وخسرانُ نصيبٍ في المالِ والأَنْفُس نوعُ عقوبة... إلى غير ذلك. اهـ.

.قال ابن تيمية:

قَالَ اللَّهُ تعالى لِمُوسَى وَهَارُونَ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} وَقَالَ فِي السُّورَةِ بِعَيْنِهَا {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} إلَى قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا}. فَذَكَرَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الرِّسَالَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ- رِسَالَةِ مُوسَى وَرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ- أَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ التَّذَكُّرِ أَوْ الْخَشْيَةِ وَلَمْ يَقُلْ: لِيَتَذَكَّرَ وَيَخْشَى وَلَا قَالَ: لِيَتَّقُونِ وَيُحْدِثَ لَهُمْ ذِكْرًا؛ بَلْ جَعَلَ الْمَطْلُوبَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نِعْمَ الْعَبْدُ صهيب لَوْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى تَحْقِيقِ قَوْلِهِ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} وَقَوْلِهِ: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} وَقَوْلِهِ: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} وَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وَقَوْلِهِ: {إنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} وَقَوْلِهِ: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} الْآيَةُ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَيْرَ إمَّا بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا صَلَاحُ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ: الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ. وَالْعِلْمُ أَصْلُ الْعَمَلِ وَأَصْلُ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ مَا لَمْ يَحْصُلْ مُعَارِضٌ مَانِعٌ. فَالْعِلْمُ بِالْحَقِّ يُوجِبُ اتِّبَاعَهُ إلَّا لِمُعَارِضِ رَاجِحٍ: مِثْلَ اتِّبَاعِ الْهَوَى بِالِاسْتِكْبَارِ وَنَحْوَهُ كَحَالِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} وَقَالَ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} وَقَالَ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} وَلِهَذَا قَالَ: {يَا دَاوُدُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَإِنَّ أَصْلَ الْفِطْرَةِ الَّتِي فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهَا إذَا سَلِمَتْ مِنْ الْفَسَادِ إذَا رَأَتْ الْحَقَّ اتَّبَعَتْهُ وَأَحَبَّتْهُ. إذْ الْحَقُّ نَوْعَانِ: حَقٌّ مَوْجُودٌ فَالْوَاجِبُ مَعْرِفَتُهُ وَالصِّدْقُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ وَضِدُّ ذَلِكَ الْجَهْلُ وَالْكَذِبُ. وَحَقٌّ مَقْصُودٌ وَهُوَ النَّافِعُ لِلْإِنْسَانِ فَالْوَاجِبُ إرَادَتُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَضِدُّ ذَلِكَ إرَادَةُ الْبَاطِلِ وَاتِّبَاعُهُ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي النُّفُوسِ مَحَبَّةَ الْعِلْمِ دُونَ الْجَهْلِ وَمَحَبَّةَ الصِّدْقِ دُونَ الْكَذِبِ وَمَحَبَّةَ النَّافِعِ دُونَ الضَّارِّ وَحَيْثُ دَخَلَ ضِدُّ ذَلِكَ فَلِمُعَارِضِ مِنْ هَوًى وَكِبْرٍ وَحَسَدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ كَمَا أَنَّهُ فِي صَالِحِ الْجَسَدِ خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ مَحَبَّةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْمُلَائِمِ لَهُ دُونَ الضَّارِّ فَإِذَا اشْتَهَى مَا يَضُرُّهُ أَوْ كَرِهَ مَا يَنْفَعُهُ فَلِمَرَضِ فِي الْجَسَدِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا إذَا انْدَفَعَ عَنْ النَّفْسِ الْمُعَارِضُ مِنْ الْهَوَى وَالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: أَحَبَّ الْقَلْبُ مَا يَنْفَعُهُ مِنْ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ إذَا انْدَفَعَ عَنْهُ الْمَرَضُ أَحَبَّ مَا يَنْفَعُهُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ وُجُودِ الْمُقْتَضِي وَعَدَمِ الدَّافِعِ: سَبَبٌ لِلْآخَرِ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِصَلَاحِ حَالِ الْإِنْسَانِ وَضِدُّهُمَا سَبَبٌ لِضِدِّ ذَلِكَ فَإِذَا ضَعُفَ الْعِلْمُ غَلَبَ الْهَوَى الْإِنْسَانَ، وَإِنْ وُجِدَ الْعِلْمُ وَالْهَوَى وَهُمَا الْمُقْتَضِي وَالدَّافِعُ فَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَصَلَاحُ بَنِي آدَمَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَلَا يُخْرِجُهُمْ عَنْ ذَلِكَ إلَّا شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: الْجَهْلُ الْمُضَادُّ لِلْعِلْمِ فَيَكُونُونَ ضُلَّالًا وَالثَّانِي اتِّبَاعُ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ اللَّذَيْنِ فِي النَّفْسِ فَيَكُونُونَ غُوَاةً مَغْضُوبًا عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} وَقَالَ: {عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ} فَوَصَفَهُمْ بِالرُّشْدِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْغَيِّ وَبِالْهُدَى الَّذِي هُوَ خِلَافُ الضَّلَالِ وَبِهِمَا يَصْلُحُ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ جَمِيعًا وَيَصِيرُ الْإِنْسَانُ عَالِمًا عَادِلًا لَا جَاهِلًا وَلَا ظَالِمًا.