فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلِب غضبي» وأسند الخطيب أبو بكر عن أبي هريرة قال: كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستمع منه الحديث ويعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني أسمع منك الحديث يعجبني ولا أحفظه؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استعن بيمينك» وأومأ إلى الخطّ وهذا نصّ.
وعلى جواز كَتْب العلم وتدوينه جمهور الصحابة والتابعين؛ وقد أمر صلى الله عليه وسلم: بكَتْب الخطبة التي خطب بها في الحج لأبي شاه رجل من اليمن لما سأله كَتْبها، أخرجه مسلم.
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«قَيِّدُوا العلمَ بالكتابة» وقال معاوية بن قُرّة: من لم يكتب العلم لم يعد علمه علمًا.
وقد ذهب قوم إلى المنع من الكَتْب؛ فروى أبو نضرة قال: قيل لأبي سعيد: أنكتب حديثكم هذا؟ قال: لم تجعلونه قرآنًا؟ ولكن احفظوا كما حفظنا.
وممن كان لا يكتب الشعبي ويونس بن عبيد وخالد الحذّاء قال خالد: ما كتبت شيئًا قط إلا حديثًا واحدًا، فلما حفظته محوته وابن عون والزهري.
وقد كان بعضهم يكتب فإذا حفظ محاه؛ منهم محمد بن سيرين وعاصم بن ضَمْرة.
وقال هشام بن حسان: ما كتبت حديثًا قطّ إلا حديث الأعماق فلما حفظته محوته.
قلت: وقد ذكرنا عن خالد الحذّاء مثل هذا.
وحديث الأعماق خرجه مسلم في آخر الكتاب: «لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق» الحديث ذكره في كتاب الفتن.
وكان بعضهم يحفظ ثم يكتب ما يحفظ؛ منهم الأعمش وعبد الله بن إدريس وهشيم وغيرهم.
وهذا احتياط على الحفظ.
والكَتْب أولى على الجملة، وبه وردت الآي والأحاديث؛ وهو مرويّ عن عمر وعلي وجابر وأنس رضي الله عنهم، ومن يليهم من كبراء التابعين كالحسن وعطاء وطاوس وعروة بن الزبير، ومن بعدهم من أهل العلم؛ قال الله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} [الأنبياء: 105].
وقال تعالى: {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً} [الأعراف: 156] الآية.
وقال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} [القمر: 52 53].
وقال: {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} إلى غير هذا من الآي.
وأيضًا فإن العلم لا يضبط إلا بالكتاب، ثم بالمقابلة والمدارسة والتعهد والتحفظ والمذاكرة والسؤال والفحص عن الناقلين والثقة بما نقلوا، وإنما كره الكَتبْ من كره من الصدر الأوّل لقرب العهد، وتقارب الإسناد لئلا يعتمده الكاتب فيهمله، أو يرغب عن حفظه والعمل به؛ فأما والوقت متباعد، والإسناد غير متقارب، والطرق مختلفة، والنَّقَلة متشابهون، وآفة النسيان معترضة، والوهم غير مأمون؛ فإن تقييد العلم بالكتاب أولى وأشفى، والدليل على وجوبه أقوى؛ فإن احتج محتج بحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تكتبوا عني ومن كتب غير القرآن فليمحه» خرجه مسلم؛ فالجواب أن ذلك كان متقدمًا؛ فهو منسوخ بأمره بالكتابة، وإباحتها لأبي شاه وغيره.
وأيضًا كان ذلك لئلا يخلط بالقرآن ما ليس منه.
وكذا ما روي عن أبي سعيد أيضًا حرصنا أن يأذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة فأبى إن كان محفوظًا فهو قبل الهجرة، وحين كان لا يؤمن الاشتغال به عن القرآن.
الثالثة: قال أبو بكر الخطيب: ينبغي أن يكتب الحديث بالسواد؛ ثم الحبر خاصة دون المداد لأن السواد أصبغ الألوان، والحبر أبقاها على مر الدهور.
وهو آلة ذوي العلم، وعدّة أهل المعرفة.
ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي قال: رآني الشافعي وأنا في مجلسه وعلى قميصي حبر وأنا أخفيه؛ فقال: لم تخفيه وتستره؟ إن الحبر على الثوب من المروءة لأن صورته في الأبصار سواد، وفي البصائر بياض.
وقال خالد بن يزيد: الحبر في ثوب صاحب الحديث مثل الخَلُوق في ثوب العروس.
وأخذ هذا المعنى أبو عبد الله البَلَوي فقال:
مِدادُ المَحَابرِ طيبُ الرجال ** وطِيب النساءِ من الزّعفرانْ

فهذا يَليق بأثواب ذَا ** وهذا يليقُ بثوب الحَصَانْ

وذكر الماوردي أن عبد الله بن سليمان فيما حكى؛ رأى على بعض ثيابه أثر صفرة؛ فأخذ من مداد الدواة وطلاه به؛ ثم قال: المداد بنا أحسن من الزعفران؛ وأنشد:
إنّما الزّعفرانُ عِطرُ العَذَارَى ** ومِدادُ الدّويِّ عِطرُ الرِّجالِ

الرابعة: قوله تعالى: {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} اختلف في معناه على أقوال خمسة؛ الأول: إنه ابتداء كلام، تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين.
وقد كان الكلام تم في قوله: {في كتاب}.
وكذا قال الزجاج، وأن معنى {لا يضلّ} لا يهلك من قوله: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض} [السجدة: 10].
{وَلا يَنْسَى} شيئًا؛ نزّهه عن الهلاك والنّسيان.
القول الثاني: {لاَ يَضِلُّ} لا يخطىء؛ قاله ابن عباس؛ أي لا يخطىء في التدبير، فمن أنظره فلحكمة أنظره، ومن عاجله فلحكمة عاجله.
القول الثالث: {لا يضل} لا يغيب.
قال ابن الأعرابي: أصل الضلال الغَيبوبة؛ يقال: ضلّ الناسِي إذا غاب عنه حفظ الشيء.
قال: ومعنى {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} أي لا يغيب عنه شيء ولا يغيب عن شيء.
القول الرابع قاله الزجاج أيضًا وقال النحاس وهو أشبهها بالمعنى: أخبر الله عز وجل أنه لا يحتاج إلى كتاب؛ والمعنى؛ لا يضل عنه علم شيء من الأشياء ولا معرفتها، ولا ينسى ما علِمه منها.
قلت: وهذا القول راجع إلى معنى قول ابن الأعرابي.
وقول خامس: إن {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} في موضع الصفة ل {كتاب} أي الكتاب غير ضال عن الله عز وجل؛ أي غير ذاهب عنه.
{وَلاَ يَنسَى} أي غير ناسٍ له فهما نعتان ل {كتاب}.
وعلى هذا يكون الكلام متصلًا، ولا يوقف على {كتاب}.
تقول العرب: ضلّني الشيء إذا لم أجده، وأضللته أنا إذا تركته في موضع فلم تجده فيه.
وقرأ الحسن وقتادة وعيسى بن عمر وابن محيصن وعاصم الجَحْدري وابن كثير فيما روى شبل عنه {لاَ يُضِلُّ} بضم الياء على معنى لا يُضيعه ربّي ولا ينساه.
قال ابن عرفة: الضلالة عند العرب سلوك سبيل غير القصد؛ يقال: ضلَّ عن الطريق، وأضل الشيء إذا أضاعه.
ومنه قرأ من قرأ {لاَ يُضِلُّ رَبِّي} أي لا يُضيع؛ هذا مذهب العرب.
قوله تعال {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مِهَادًا}.
{الذي} في موضع نعت ل {ربي} أي لا يضل ربي الذي جعل.
ويجوز أن يكون خبر ابتداء مضمر أي هو {الذي}.
ويجوز أن يكون منصوبًا بإضمار أعني.
وقرأ الكوفيون {مَهْدًا} هنا وفي الزخرف بفتح الميم وإسكان الهاء.
الباقون {مِهَادًا} واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لاتفاقهم على قراءة {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا}.
النحاس: والجمع أولى لأن {مهدا} مصدر وليس هذا موضع مصدر إلا على حذف؛ أي ذات مهد.
المهدويّ: ومن قرأ {مَهْدًا} جاز أن يكون مصدرًا كالفَرْش أي مَهَد لكم الأرض مَهْدًا؛ وجاز أن يكون على تقدير حذف المضاف؛ أي ذات مهد.
ومن قرأ {مِهَادًا} جاز أن يكون مفردًا كالفراش.
وجاز أن يكون جمع مهدٍ استعمل استعمال الأسماء فكسّر.
ومعنى {مِهَادًا} أي فراشًا وقرارًا تستقرّون عليها.
{وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} أي طرقًا.
نظيره: {والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطًا لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح: 19 20].
وقال تعالى: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مِهَادًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف: 10].
{وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً} تقدم معناه.
وهذا آخر كلام موسى، ثم قال الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شتى}.
وقيل: كله من كلام موسى؛ والمعنى {فأخرجنا به} أي بالحرث والمعالجة؛ لأن الماء المنزل سبب خروج النبات.
ومعنى {أَزْوَاجًا} ضروبًا وأشباهًا، أي أصنافًا من النبات المختلفة الأزواج والألوان.
وقال الأخفش: التقدير أزواجًا شتى من نبات.
قال: وقد يكون النبات شتى؛ ف {شتى} يجوز أن يكون نعتًا لأزواج، ويجوز أن يكون نعتًا للنبات.
و{شَتّى} مأخوذ من شتَّ الشيءُ أي تفرق.
يقال: أمر شَتٌّ أي متفرّق.
وشَتَّ الأمرُ شتًّا وشَتاتًا تفرق؛ واشتتَّ مثله.
وكذلك التَّشتت.
وشَتَّته تَشْتِيتًا فرّقه.
وأَشتَّ بي قومي أي فرّقوا أمري.
والشَّتيت المتفرّق.
قال رُؤبة يصف إبلًا:
جَاءتْ مَعًا وَاطَّرَقتْ شَتِيتَا ** وهي تُثيرُ السَّاطِعَ السِّخْتِيتَا

وثَغْر شَتيتٌ أي مُفلَّج.
وقوم شَتَّى، وأشياء شتَّى، وتقول: جاءوا أشتاتًا؛ أي متفرقين؛ واحدهم شتٌّ؛ قاله الجوهري.
قوله تعالى: {كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ} أمر إباحة.
{وارعوا} من رعت الماشية الكلأ، ورعاها صاحبها رعاية؛ أي أسامها وسرحها؛ لازم ومتعد {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى} أي العقول.
الواحدة نُهْية.
قال لهم ذلك؛ لأنهم الذين يُنْتهى إلى رأيهم.
وقيل: لأنهم ينهون النفس عن القبائح.
وهذا كله من موسى احتجاج على فرعون في إثبات الصانع جوابًا لقوله: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يا موسى}.
وبين أنه إنما يستدل على الصانع اليوم بأفعاله.
قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} يعني آدم عليه السلام لأنه خلق من الأرض؛ قاله أبو إسحاق الزجاج وغيره.
وقيل: كل نطفة مخلوقة من التراب؛ على هذا يدل ظاهر القرآن.
وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا وقد ذُرَّ عليه من تراب حُفْرته» أخرجه أبو نعيم الحافظ في باب ابن سيرين، وقال: هذا حديث غريب من حديث عون لم نكتبه إلا من حديث أبي عاصم النبيل، وهو أحد الثقات الأعلام من أهل البصرة.
وقد مضى هذا المعنى مبينًا في سورة الأنعام عن ابن مسعود.
وقال عطاء الخراساني: إذا وقعت النطفة في الرحم انطلق الملك الموكل بالرحم فأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذرّه على النطفة، فيخلق الله النّسمة من النّطفة ومن التراب؛ فذلك قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى}.
وفي حديث البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العبد المؤمن إذا خرجت روحه صعدت به الملائكة فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة فيقولون فلان ابن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا فيستفتحون لها فيفتح فيشيّعه من كل سماء مقرَّبوها إلى السماء التي تليها حتى تنتهى بها إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل: اكتبوا لعبدي كتابًا في عِلّيين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فتعاد روحه في جسده» وذكر الحديث.
وقد ذكرناه بتمامه في كتاب التذكرة وروي من حديث عليّ رضي الله عنه؛ ذكره الثعلبي.
ومعنى {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} أي بعد الموت {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ} أي للبعث والحساب.
{تَارَةً أخرى} يرجع هذا إلى قوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} لا إلى {نُعِيدُكُمْ}.
وهو كقولك: اشتريت ناقة ودارًا وناقة أخرى؛ فالمعنى: من الأرض أخرجناكم ونخرجكم بعد الموت من الأرض تارة أخرى. اهـ.

.قال أبو حيان:

قال: {فمن ربكما يا موسى} خاطبهما معًا وأفرد بالنداء موسى. قال ابن عطية: إذ كان صاحب عظم الرسالة وكريم الآيات.
وقال الزمخشري لأنه الأصل في النبوة وهارون وزيره وتابعه، ويحتمل أن يحمله خبثه وذعارته على استدعاء كلام موسى دون كلام أخيه لما عرف من فصاحة هارون والرتة في لسان موسى، ويدل عليه قوله: {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين} انتهى.
واستبد موسى عليه السلام بجواب فرعون من حيث خصه بالسؤال والنداء معًا ثم أعلمه من صفات الله تعالى بالصفة التي لا شرك لفرعون فيها ولا حيث خصه بالسؤال والنداء معًا ثم أعلمه من صفات الله تعالى بالصفة التي لا شرك لفرعون فيها ولا بوجه مجاز.
قال الزمخشري: ولله در هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالبًا للحق انتهى.
والمعنى أعطى كل ما خلق خلقته وصورته على ما يناسبه من الإتقان لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرًا.
وقال الشاعر:
وله في كل شيء خلقة ** وكذلك الله ما شاء فعل

وهذا قول مجاهد وعطية ومقاتل وقال الضحاك {خلقه} من المنفعة المنوطة به المطابقة له {ثم هدى} أي يسر كل شيء لمنافعه ومرافقه، فأعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه.