فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{قَالَ} أي: فرعون: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} أي: منح كل شيء من الأنفس البشرية، صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، فسواه بها وعدّله، ثم هداه بأن وهبه العقل الذي يميز بين الخير والشر. وهذه الآية في معناها كآية: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7- 8]، وآية: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10].
{قَالَ} أي: فرعون: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} أي: ما حال القرون السالفة وما جرى عليهم؟ وهذا السؤال إما لصرف موسى عليه السلام عما يدعوه إليه أمام ملئه، وإشغاله بما لا يعني ما أرسل به، وإما لتوهم أن الرسول يعلم الغيب، فأراد أن يقف على نبأ ما مضى، ويفتح بابًا للتخطئة والتكذيب، بالعناد واللجاج. فأجابه موسى عليه السلام بأن هذا سؤال عن الغيب وقد استأثر الله به. فلا يعلمه إلا هو. وليس من وظيفة الرسالة. وإنما علمها مكتوب في اللوح المحفوظ، محصى غير منسي. ويجوز أن يكون: {فِي كِتَابٍ} تمثيلًا لتمكنه وتقريره في علم الله عزَّ وجلَّ، بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة. قال في العناية: فيشبه علمه تعالى بها علمًا ثابتًا لا يتغير، بمن علم شيئًا وكتبه في جريدته، حتى لا يذهب أصلًا، فيكون قوله: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} ترشيحًا للتمثيل، واحتراسًا أيضًا. لأن من يفعل ذلك إنما يفعله لخوف النسيان. والله تعالى منزه عنه.
فالكتاب على هذا بمعناه اللغويّ. وهو الدفتر، لا اللوح المحفوظ.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} أي: فراشًا: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} أي: أصنافًا من نبات مختلفة الأجناس، في الطعم والرائحة والشكل والنفع.
لطيفة:
جعل الزمخشري قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا} من باب الالتفات. وناقشه الناصر؛ بأن الالتفات إنما يكون في كلام المتكلم الواحد. يصرّف كلامه على وجوه شتى. وما نحن فيه ليس كذلك. فإن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} ثم قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} إلى قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} فإما أن يجعل من قول موسى، فيكون باب قول خواص الملك: أمرنا وعمرنا وإنما يريدون الملك، وليس هذا بالتفات. وإما أن يكون كلام موسى قد انتهى عند قوله: {وَلا يَنْسَى} ثم ابتدأ الله تعالى وصف ذاته بصفات إنعامه على خلقه، فليس التفاتًا أيضًا. وإنما هو انتقال من حكاية إلى إنشاء خطاب. وعلى هذا التأويل ينبغي للقارئ أن يقف وُقَيْفَة عند قوله: {وَلا يَنْسَى} ليستقر بانتهاء الحكاية. ويحتمل وجهًا آخر وهو؛ أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفات على لفظ الغيبة. فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} فلما حكاه الله تعالى عنه، أسند الضمير إلى ذاته. لأن الحاكي هو المحكي في كلام موسى. فمرجع الضميرين واحد. وهذا الوجه وجه حسن رقيق الحاشية. وهذا أقرب الوجوه إلى الالتفات. لكن الزمخشري لم يعنه. والله أعلم. انتهى كلام الناصر.
{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} حال من ضمير فَأَخْرَجْنَا على إرادة القول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مِنْهَا} أي: من الأرض: {خَلَقْنَاكُمْ} أي: خلقنا أصلكم وهو آدم. أو خلقنا أبدانكم من النطفة المتولدة عن الأغذية، والمتولدة من الأرض بوسائط: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} أي: بالإماتة إعادة البذر إلى الأرض: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} أي: بردّهم كما كانوا، أحياء. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن موسى وهارون لما بلغا فرعون ما أُمرا إياه قال لهما: من ربكما الذي تزعمان أنه أرسلكما إلي!؟ زاعمًا أنه لا يعرفه. وأنه لا يعلم لهما إلهًا غير نفسه، كما قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38]، وقال: {قَالَ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} [الشعراء: 29]. وبين جلا وعلا في غير هذا الموضع أن قوله: {فَمَن رَّبُّكُمَا} تجاهل عارف بأنه عبد مربوب لرب العالمين، وذلك في قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَآئِرَ} [الإسراء: 102] الآية، وقوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 13-14] كما تقدم إيضاحه. وسؤال فرعون عن رب موسى، وجواب موسى له جاء موضحًا في سورة الشعراء بأبسط مما هنا، وذلك في قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِين} [الشعراء: 23-33] إلى آخر القصة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} فيه للعلماء أوجه لا يكذب بعضها بعضًا، وكلها حق، ولا مانع من شمول الآية لجميعها. منها أن معنى {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} أنه أعطى كل شيء نظير خلقه في الصورة والهيئة، كالذكور من بني آدم أعطاهم نظير خلقهم من الإناث أزواجًا. وكالذكور من البهائم أعطاها نظير خلقها في صورتها وهيئتها من الإناث أزواجًا. فلم يعط الإنسان خلاف خلقه فيزوجه بالإناث من البهائم، ولا البهائم بالإناث من الإنس، ثم هدى الجميع لطريق المنكح الذي منه النسل والنماء، كيف يأتيه، وهدى الجميع لسائر منافعهم من المطاعم والمشارب وغير ذلك.
وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق علي بن أبي طلحة، وعن السدي وسعيد بن جبير، وعن ابن عباس أيضًا: {ثُمَّ هدى} أي هداه إلى الألفة والاجتماع والمناكحة.
وقال بعض أهل العلم {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} أي: أعطى كل شيء صلاحه ثم هداه إلى ما يصلحه، وهذا مروي عن الحسن وقتادة.
وقال بعض أهل العلم {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى}: أي أعطى كل شيء صورته المناسبة له. فلم يجعل الإنسان في صورة البهيمة، ولا البهيمة في صورة الإنسان، ولكنه خلق كل شيء على الشكل المناسب له فقدره تقديرًا، كما قال الشاعر:
وله في كل شيء خلقة ** وكذاك الله ما شاء فعل

يعني بالخلقة: الصورة، وهذا القول مروي عن مجاهد ومقاتل وعطية وسعيد بن جبير {ثُمَّ هدى} كل صنف إلى رزقه وإلى زوجه.
وقال بعض أهل العلم {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ}: أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع. وكذلك الأنف والرجل واللسان وغيرها، كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه. وهذا القول روي عن الضحاك. وعلى جميع هذه الأقوال المذكورة فقوله تعالى: {كُلَّ شَيءٍ} هو المفعول الأول ل {أَعْطَى}، و{خلقه} هو المفعول الثاني.
وقال بعض أهل العلم: إن {خلقه} هو المفعول الأول، و{كل شيء} هو المفعول الثاني. وعلى هذا القول فالمعنى: أنه تعالى أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه، ثم هداهم إلى طريق استعماله. ومعلوم أن المفعول من مفعولي باب كسا ومنه «أَعْطَى» في الآية لا مانع من تأخيره وتقديم المفعول الأخير إن أمن اللبس، ولم يحصل ما يوجب الجري على الأصل كما هو معلوم في علم النحو. وأشار له في الخلاصة بقوله:
ويلزم الأصل لموجب عسرا ** وترك ذاك الأصل حتما قد يرى

قال مقيده عفا الله عنه: ولا مانع من شمول الآية الكريمة لجميع الأقوال المذكورة. لأنه لا شكّ أن الله أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه في الدنيا، ثم هداهم إلى طريق الانتفاع به. ولا شكّ أنه أعطى كل صنف شكله وصورته المناسبة له، وأعطى كل ذكر وأنثى الشكل المناسب له من جنسه في المناكحة والألفة والاجتماع. وأعطى كل عضو شكله الملائم للمنفعة المنوطة به فسبحانه جل وعلا؟ ما أعظم شأنه وأكمل قدرته؟!
وفي هذه الأشياء المذكورة في معنى هذه الآية الكريمة براهين قاطعة على أنه جلا وعلا رب كل شيء، وهو المعبود وحده جل وعلا: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88].
وقد حرر العلامة الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية رحمه الله في رسالته في علوم القرآن: أن مثل هذا الاختلاف من اختلاف السلف في معاني الآيات ليس اختلافًا متضادًا يكذب بعضه بعضًا، ولكنه اختلاف تنوعي لا يكذب بعضه بعضًا، والآيات تشمل جميعه، فينبغي حملها على شمول ذلك كله، وأوضح أن ذلك هو الجاري على أصول الأئمة الأربعة رضي الله عنهم، وعزاه لجماعة من خيار أهل المذاهب الأربعة. والعلم عند الله تعالى.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)}.
قرأ هذا الحرف عاصم وحمزة والكسائي {مَهْدًا} بفتح الميم وإسكان الهاء من غير ألف. وقرأ الباقون من السبعة بكسر الميم وفتح الهاء بعدها ألف. والمهاد: الفراش. والمهد بمعناه. وكون أصله مصدرًا لا ينافي أن يُسْتَعْمَل اسمًا للفراش.
وقوله في هذه الآية: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض} في محل رفع نعت ل {رَبِّي} من قوله قبله {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} [طه: 52] أي لا يضل ربي الذي جعل لكم الأرض مهدًا. ويجوز أن يكون خبرًا لمبتدأ محذوف. أي هو الذي جعل لكم الأرض. ويجوز أن ينصب على المدح، وهو أجود من أن يقدر عامل النصب لفظة أعني، كما أشار إلى هذه الأوجه من الإعراب في الخلاصة بقوله:
وارفع أو انصب إن قطعت مضمرًا ** مبتدأ أو ناصبًا لن يظهرا

هكذا قال غير واحد من العلماء. والتحقيق أنه يتعين كونه خبر مبتدأ محذوف. لأنه كلام مستأنف من كلام الله. ولا يصح تعلقه بقول موسى {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي} لأن قوله: {فَأَخْرَجْنَا} يعين أنه من كلام الله، كما نبه عليه أبو حيان في البحر، والعلم عند الله تعالى.
وقد بين جل وعلا في هاتين الآيتين أربع آيات من آياته الكبرى الدالة على أنه المعبود وحده. ومع كونها من آيات على كمال قدرته واستحقاقه العبادة وحده دون غيره فهي من النعم العظمى على بني آدم.
الأولى: فرشه الأرض على هذا النمط العجيب.
الثانية: جعله فيها سُبلًا يمر معها بنو آدم ويتوصلون بها من قطر إلى قطر.
الثالثة: إنزاله الماء من السماء على هذا النمط العجيب.
الرابعة: إخراجه أنواع النبات من الأرض.
أما الأولى التي هي جعله الأرض مهدًا فقد ذكر الامتنان بها مع الاستدلال بها على أنه المعبود وحده في مواضع كثيرة من كتابه. كقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْدًا} [الزخرف: 9-10] الآية، وقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَادًا والجبال أَوْتَادًا} [النبأ: 6-7]، وقوله تعالى: {والأرض فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الماهدون} [الذاريات: 48]، وقوله تعالى: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارا} [الرعد: 3] والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًا.