فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما الثانية التي هي جعله فيها سبلًا فقد جاء الامتنان والاستدلال بها في آيات كثيرة. كقوله في الزخرف: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف: 9-10]، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء: 31] وقد قدمنا الآيات الدالّة على هذا في سورة النحل في الكلام على قوله: {وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [النحل: 15].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجْنَا} فيه التفات من الغيبة إلى التكلم بصيغة التعظيم. ونظيره في القرآن قوله تعالى في الأنعام: {وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا} [الأنعام: 99] الآية، وقوله في فاطر {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} [فاطر: 27]، وقوله في النمل: {أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السماء مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60] الآية.
وهذا الالتفات من الغيبة إلى التكلم بصيغة التعظيم في هذه الآيات كلها في إنبات النبات يدل على تعظيم شأن إنبات النبات لأنه لو لم ينزل الماء ولم ينبت شيئًا ليهلك الناس جوعًا وعطشًا. فهو يدل على عظمته جل وعلا، وشدة احتياج الخلق إليه ولزوم طاعتهم له جل وعلا.
وقوله في هذه الآية: {أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شتى} أي أصنافًا مختلفة من أنواع النبات. فالأزواج: جمع زوج، وهو هنا الصنف من النبات، كما قال تعالى في سورة الحج: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] أي من كل صنف حسن من أصناف النبات، وقال تعالى في سورة لقمان: {خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان: 10] أي من كل نوع حسن من أنواع النبات، وقال تعالى في سورة يس: {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36] إلى غير ذلك من الآيات. وقوله: {شتى} نعت لقوله: {أَزْوَاجًا}. ومعنى قوله: {شتى} جمع ل {نبات} أي نبات مختلف كما بينا. والأظهر الأول، وقوله: {شتى} جمع شتيت. كمريض ومرضى. والشتيت: المتفرِّق. ومنه قول رؤبة يصف إبِلًا جاءت مجتمعة ثم تَفرَّقت، وهي تثير غبارًا مرتفعًا:
جاءت معًا وأطرقت شتيتا ** وهي تثير الساطع السختيتا

وثغر شتيت: أي متفلج لأنه متفرِّق الأسنان. أي ليس بعضها لاصقًا ببعض.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} قد قدمنا أن معنى السلك: الإدخال. وقوله: {سَلَكَ} هنا معناه أنه جعل في داخل الأرض بين أوديتها وجبالها سبلًا فجاجًا يمر الخلق معها. وعبر عن ذلك هنا بقوله: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} وعبر في مواضع أخر عن ذلك بالجعل، كقوله في «الأنبياء»: {وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء: 31] وقوله في الزخرف: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف: 10] وعبر في بعض المواضع عن ذلك بالإلقاء كقوله في النحل:
{وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [النحل: 15] لأن عطف السنبل على الرواسي ظاهر في ذلك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {كُلُواْ وارعوا} أي كلوا أيها الناس من الثمار والحبوب التي أخرجناها لكم من الأرض بالماء الذي أنزلنا من جميع ما هو غذاء لكم من الحبوب والفواكه ونحو ذلك، وارعوا أنعامكم. أي أسيموها وسَرحوها في المرعى الذي يصلح لأكلها. تقول: رعت الماشية الكلأ، ورعاها صاحبها: أي أسلمها وسرَّحها. يلزم ويتعدى. والأمر في قوله: {كُلُواْ وارعوا} للإباحة. ولا يخفى ما تضمنه من الامتنان والاستدلال على استحقاق المنعم بذلك العبادة وحده.
وما ذكره في هذه الآية الكريمة: من الامتنان على بني آدم بأرزاقهم وأرزاق أنعامهم جاء موضحًا في مواضع أخر. كقوله في سورة السجدة: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27]، وقوله في النازعات: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا والجبال أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 31-33]، وقوله في عبس: {أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَآئِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 25-32] وقوله في النحل: {هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَاءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {لأُوْلِي النهى} أي لأصحاب العقول. فالنهى: جمع نهية بضم النون، وهي العقل. لأنه ينهى صاحبه عمَّا لا يليق. تقول العرب: نهو الرجل بصيغة فعل بالضم: إذا كملت نهيته أي عقله. وأصله نُهي بالياء فأبدلت الياء واوًا لأنها لام فعل بعد ضم. كما أشار له في الخلاصة بقوله:
وواوًا إثر الضم رد اليا متى ** ألفى لام فعل أو من قبل تا

{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)}.
الضمير في قوله: {مِنْهَا} معًا، وقوله: {فِيهَا} راجع إلى {الأَرْضَ} المذكورة في قوله: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْدًا}.
وقد ذكر في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل:
الأولى: أنه خلق بني آدم مِن الأرض.
الثانية: أنه يعيدهم فيها.
الثالثة: أنه يخرجهم منها مرة أخرى. وهذه المسائل الثلاث المذكورة في هذه الآية جاءت مُوضَحة في غير هذه المواضع.
أما خلقه إياهم من الأرض فقد ذكره في مواضع من كتابه. كقوله: {يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ} [الحج: 5]، الآية، وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ} [الروم: 20] الآية، وقوله في سورة المؤمن: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ} الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
والتحقيق أن معنى خلقه الناس من تراب أنه خلق أباهم آدم منها. كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] الآية. ولما خلق أباهم من تراب وكانوا تبعًا له في الخلق صدق عليهم أنهم خُلقوا من تراب. وما يزعمه بعض أهل العلم من أن معنى خلقهم من تراب أن النطفة إذا وقعت في الرحم انطلق الملك الموكل بالرحم فأخذ من تراب المكان الذي يُدفن فيه فيذره على النطفة فيخلق الله النسمة من النطفة والتراب معًا فهو خلاف التحقيق. لأن القرآن يدل على أن مرحلة النطفة بعد مرحلة التراب بمهلة. فهي غير مقارنة لها بدليل الترتيب بينهما ب {ثُم} في قوله تعالى: {يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ} [الحج: 5]: الآية، وقوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} [غافر: 67] الآية، وقوله تعالى: {ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ} [السجدة: 6_8] وكذلك ما يزعمه بعض المفسِّرين من أن معنى خلقهم من تراب أن المراد أنهم خلقوا من الأغذية التي تتولد من الأرض فهو ظاهر السقوط كما ترى.
وأما المسألة الثانية:
فقد ذكرها تعالى أيضًا في غير هذا الموضع. وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْواتًا} [المرسلات: 25-26] فقوله: {كِفَاتًا} أي موضعهم الذي يكفتون فيه أي يضمون فيه: أحياء على ظهرها، وأمواتًا في بطنها. وهو معنى قوله: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}.
وأما المسألة الثالثة:
وهي إخراجهم من الأرض أحياء يوم القيامة فقد جاءت موضحة في آيات كثيرة. كقوله: {وَيُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19] أي من قبوركم أحياء بعد الموت، وقوله تعالى: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الخروج} [ق: 11] أي من القبور بالبعث يوم القيامة، وقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25]، وقوله تعالى: {حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الماء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57]، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43]، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصيحة بالحق ذَلِكَ يَوْمُ الخروج} [ق: 42]، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًا.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} الآية، كقوله تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 25]. والتارة في قوله: {تَارَةً أخرى} بمعنى المرة. وفي حديث السنن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر جنازة، فلما أرادوا دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال: {منها خلقناكم} ثم أخذ أخرى وقال: {وفيها نعيدكم} ثم أخرى وقال: {ومنها نخرجكم تارة أخرى}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)}.
هذا حكاية جواب فرعون عن الكلام الذي أمر الله موسى وهارون بإبلاغه فرعون، ففي الآية حذف جمل دلّ عليها السياق قصدًا للإيجاز.
والتقدير: فأتَيَاه فقالا له ما أمِرا به، فقال: فمن ربّكما؟.
ولذلك جاءت حكاية قول فرعون بجملة مفصولة على طريقة حكاية المحاورات التي استقريناها من أسلوب القرآن وبَينّاها في سورة البقرة وغيرها.
ووجّه فرعون الخطاب إليهما بالضمير المشترك، ثمّ خصّ موسى بالإقبال عليه بالنداء، لعلمه بأنّ موسى هو الأصل بالرسالة وأنّ هارون تابع له، وهذا وإن لم يحتو عليه كلامهما فقد تعيّن أن يكون فرعون عَلِمه من كيفيّة دخولهما عليه ومخاطبته، ولأنّ موسى كان معروفًا في بلاط فرعون لأنه ربيُّه أو رَبيّ أبيه فله سابقة اتصال بدار فرعون، كما دلّ عليه قوله له المحكي في آية سورة الشعراء (18): {قال ألم نربّك فينا وليدًا ولبثتَ فينا من عمرك سنين} الآية.
ولعلّ موسى هو الذي تولى الكلام وهارون يصدقه بالقول أو بالإشارة.
وإضافته الرب إلى ضميرهما لأنّهما قالا له {إنّا رسولا ربّك} [طه: 47].
وأعرض عن أن يقول: فمن ربي؟ إلى قوله: {فمن ربُّكما} إعراضًا عن الاعتراف بالمربوبية ولو بحكاية قولهما، لئلا يقع ذلك في سمع أتباعه وقومه فيحسبوا أنه متردد في معرفة ربّه، أو أنه اعترف بأنّ له ربًّا.
وتولى موسى الجواب لأنّه خصّ بالسؤال بسبب النّداء له دون غيره.
وأجاب موسى بإثبات الربوبية لله لجميع الموجودات جريًا على قاعدة الاستدلال بالكلية على الجزئية بحيث ينتظم من مجموعهما قياس، فإن فرعون من جملة الأشياء، فهو داخل في عموم {كل شيء}.
و{كُلَّ شَيْءٍ} مفعول أول ل {أعطى}.
و{خَلْقَهُ} مفعوله الثاني.
والخلق: مصدر بمعنى الإيجاد.
وجيء بفعل الإعطاء للتنبيه على أنّ الخلق والتكوين نعمة، فهو استدلال على الربوبية وتذكير بالنعمة معًا.
ويجوز أن يكون الخلق بالمعنى الأخصّ، وهو الخَلق على شكل مخصوص، فهو بمعنى الجَعْل، أي الذي أعطى كل شيء من الموجودات شكله المختصّ به، فكُونت بذلك الأجناسُ والأنواع والأصناف والأشخاص من آثار ذلك الخلق.
ويجوز أن يكون {كُلَّ شَيْءٍ} مفعولًا ثانيًا ل {أعطى} ومفعوله الأول {خَلْقَهُ}، أي أعطى خلقه ما يحتاجونه، كقوله: {فأخرجنا به نبات كل شيء} [الأنعام: 99].
فتركيب الجملة صالح للمعنيين.
والاستغراق المستفاد من {كلّ} عُرفي، أي كل شيء من شأنه أن يعطاه أصنافُ الخلق ويناسب المعطي، أو هو استغراق على قصد التوزيع بمقابلة الأشياء بالخلق، مثل: ركب القوم دوابّهم.
والمعنى: تأمل وانظر هل أنتَ أعطيت الخَلق أوْ لاَ؟ فلا شك أنه يعلم أنّه ما أعطى كلّ شيء خلقه، فإذا تأمل علم أن الرب هو الذي أفاض الوجود والنّعم على الموجودات كلّها، فآمن به بعنوان هذه الصفة وتلك المعرفة الموصّلة إلى الاعتقاد الحق.
و{ثُم} للترتيب بمعنييْه الزمني والرتبي، أي خلق الأشياء ثمّ هدى إلى ما خلقهم لأجله، وهداهم إلى الحق بعد أن خلقهم، وأفاض عليهم النّعم، على حد قوله تعالى: {ألم نجعل له عينين ولسانًا وشفتين وهديناه النجدين} [البلد: 8 10] أي طريقي الخير والشرّ، أي فرّقنا بينهما بالدلائل الواضحة.
قال الزمخشري في الكشاف: ولله درّ هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالبًا للحق.
{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)}.
والبال: كلمة دقيقة المعنى، تطلق على الحال المهمّ، ومصدره البالة بتخفيف اللاّم، قال تعالى: {كفّر عنهم سيّآتهم وأصلح بالهم} [محمد: 2]، أي حالهم.
وفي الحديث: «كل أمر ذي بال...».. إلخ، وتطلق على الرأي يقال: خطر كذا ببالي.
ويقولون: ما ألقى له بالًا، وإيثار هذه الكلمة هنا من دقيق الخصائص البلاغيّة.
أراد فرعون أن يحاجّ موسى بما حصل للقرون الماضية الذين كانوا على ملّة فرعون، أي قرون أهل مصر، أي ما حالهم، أفتزعم أنّهم اتفقوا على ضلالة.
وهذه شنشنة من لا يجد حجّة فيعمد إلى التشغيب بتخييل استبعاد كلام خصمه، وهو في معنى قول فرعون وملئه في الآية الأخرى {قالوا أجِئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا} [يونس: 78].
ويجوز أن يكون المعنى أنّ فرعون أرَاد التشغيب على موسى حين نهضت حجّته بأن ينقله إلى الحديث عن حال القرون الأولى: هل هم في عذاب بمناسبة قول موسى: {أنّ العذاب على من كذّب وتولّى} [طه: 48]، فإذا قال: إنّهم في عذاب، ثارت ثائرة أبنائهم فصاروا أعداء لموسى، وإذا قال: هم في سلام، نهضت حجّة فرعون لأنه متابع لدينهم، ولأنّ موسى لمّا أعلمه بربّه وكان ذلك مشعرًا بالخلق الأوّل خطر ببال فرعون أن يسأله عن الاعتقاد في مصير النّاس بعد الفناء، فسأل: ما بال القرون الأولى؟ ما شأنهم وما الخبر عنهم؟ وهو سؤال تعجيز وتشغيب.
وقول موسى في جوابه {عِلْمُهَا عند رَبِّي فِي كتاب} صالحٌ للاحتمالين، فعلى الاحتمال الأول يكون موسى صرفه عن الخوض فيما لا يجدي في مقامه ذلك الذي هو المتمحض لدعوة الأحياء لا البحث عن أحوال الأموات الذين أفضوا إلى عالم الجزاء، وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن ذراري المشركين فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين».
وعلى الاحتمال الثاني يكون موسى قد عدل عن ذكر حالهم خيبة لمراد فرعون وعدولًا عن الاشتغال بغير الغرض الذي جاء لأجله.
والحاصل أنّ موسى تجنّب التصدي للمجادلة والمناقضة في غير ما جاء لأجله لأنّه لم يبعث بذلك.
وفي هذا الإعراض فوائد كثيرة وهو عالم بمجمل أحوال القرون الأولى وغير عالم بتفاصيل أحوالهم وأحوال أشخاصهم.
وإضافة {عِلْمُهَا} من إضافة المصدر إلى مفعوله.