فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وضمير {عِلْمُها} عائد إلى {القُرُوننِ الأولى} لأنّ لفظ الجمع يجوز أن يؤنث ضميره.
وقوله: {في كتاب} يحتمل أن يكون الكتاب مجازًا في تفصيل العلم تشبيهًا له بالأمور المكتوبة، وأن يكون كناية عن تحقيق العلم لأنّ الأشياء المكتوبة تكون محققة كقول الحارث بن حِلِّزَة:
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء

ويؤكد هذا المعنى قوله: {لاَّ يَضِلُّ رَبي ولا يَنسَى}.
والضلال: الخطأ في العلم، شبّه بخطأ الطريق.
والنسيان: عدم تذكر الأمر المعلوم في ذهن العالم.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا}.
هذه جمل ثلاث معترضة في أثناء قصة موسى.
فالجملة الأولى منها مستأنفة ابتدائية على عادة القرآن من تفنّن الأغراض لتجديد نشاط الأذهان.
ولا يحتمل أن تكون من كلام موسى إذ لا يناسب ذلك تفريع قوله: {فأخْرَجْنَا بهِ أزواجًا}.
فقوله: {الذي جَعَلَ لكمُ الأرضَ مِهَادًا} خبر لمبتدأ محذوف، أي هو الذي جعل لكم الأرض مهادًا، والضمير عائد إلى الربّ المفهوم من {ربي} [طه: 52]، أي هو ربّ موسى.
وتعريف جزأي الجملة يُفيد الحصر، أي الجاعل الأرض مهادًا فكيف تعبدون غيره.
وهذا قصر حقيقي غير مقصود به الرد على المشركين ولكنّه تذكير بالنّعمة وتعريض بأن غيره ليس حقيقًا بالإلهية.
وقرأ الجمهور: {مِهادًا} بكسر الميم وألففٍ بعد الهاء وهو اسم بمعنى الممهُود مثل الفراش واللّباس.
ويجوز أن يكون جمع مَهْد، وهو اسم لما يمهد للصّبيّ، أي يوضع عليه ويحمل فيه، فيكون بوزن كِعاب جمعًا لكَعب.
ومعنى الجمع على اعتبار كثرة البقاع.
وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف {مَهْدًا} بفتح الميم وسكون الهاء، أي كالمهد الذي يمهد للصبي، وهو اسم بمصدر مَهدَه، على أنّ المصدر بمعنى المفعول كالخَلْق بمعنى المخلوق، ثمّ شاع ذلك فصار اسمًا لما يمهد.
ومعنى القراءتين واحد، أي جعل الأرض ممهودة مسهلة للسّير والجلوس والاضطجاع بحيث لا نُتوء فيها إلاّ نادرًا يمكن تجنبه، كقوله: {والله جعل لكم الأرض بساطًا لتسلكوا منها سُبلًا فجاجًا} [نوح: 19، 20].
{وسَلَكَ} فعل مشتق من السُلوك والسّلْك الذي هو الدخول مجتازًا وقاطعًا.
يقال: سلك طريقًا، أي دخله مجتازًا.
ويستعمل مجازًا في السّير في الطريق تشبيهًا للسائر بالشيء الداخل في شيء آخر.
يقال: سلك طريقًا.
فحق هذا الفعل أن يتعدّى إلى مفعول واحد وهو المدخول فيه، ويستعمل متعديًا بمعنى أسلك.
وحقه أن يكون تعديه بهمزة التعدية فيقال: أسلك المسمار في اللّوح، أي جعله سالكًا إياه، إلاّ أنّه كثر في الكلام تجريده من الهمزة كقوله تعالى: {نسلكه عذابًا صعدًا} [الجنّ: 17].
وكثر كون الاسم الذي كان مفعولًا ثانيًا يصير مجرورًا ب {في} كقوله تعالى: {ما سَلَكَكُم في سَقَر} [المدثر: 42] بمعنى أسلككم سقر.
وقوله: {كذلك سلَكْنَاه في قلوب المجرمين} في سورة الشعراء (200)، وقوله: {ألم تر أنّ الله أنزل من السّماء ماء فسَلَكه ينابيع في الأرض} في سورة الزمر (21).
وقال الأعشى:
كما سلك السّكيّ في الباب فيْتَق

أي أدخل المسمارَ في الباب نجارٌ، فصار فعل سلك يستعمل قاصرًا ومتعديًا.
فأما قوله هنا {وسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} فهو سَلك المتعدي، أي أسلك فيها سبلًا، أي جعل سبلًا سالكة في الأرض، أي داخلة فيها، أي متخللة.
وذلك كناية عن كثرتها في جهات الأرض.
والمراد بالسبل: كلّ سبيل يمكن السير فيه سواء كان من أصل خلقة الأرض كالسهول والرمال، أو كان من أثر فعل النّاس مثل الثنايا التي تكرر السير فيها فتعبدت وصارت طرقًا يتابعُ الناس السير فيها.
ولما ذَكَر منّة خلق الأرض شفعها بمنّة إخراج النّبات منها بما ينزل عليها من السماء من ماء.
وتلك منّة تنبىء عن خلق السماوات حيث أجرى ذكرها لقصد ذلك التذكير، ولذا لم يقل: وصببنا الماء على الأرض، كما في آية: {أنا صببنا الماء صبًا ثم شققنا الأرض شقًّا} [عبس: 25، 26].
وهذا إدماج بليغ.
والعدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلّم في قوله: {فأخرجنا} التفات.
وحسّنه هنا أنّه بعد أن حَجّ المشركين بحجّة انفراده بخلق الأرض وتسخير السماء مما لا سبيل بهم إلى نكرانه ارتقى إلى صيغة المتكلّم المطاع فإن الذي خلق الأرض وسخّر السماء حقيق بأن تطيعه القوى والعناصر، فهو يُخرج النّبات من الأرض بسبب ماء السماء، فكان تسخير النبات أثرًا لتسخير أصل تكوينه من ماء السماء وتراب الأرض.
ولملاحظة هذه النكتة تكرر في القرآن مثل هذا الالتفات عند ذكر الإنبات كما في قوله تعالى: {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء} [الأنعام: 99]، وقوله: {ألم ترَ أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمراتتٍ مختلفًا ألوانُها} [فاطر: 35]، وقوله: {أمّن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائقَ ذاتَ بهجة} [النمل: 60] ومنها قوله في سورة الزخرف (11): {والذي نزّل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتًا} وقد نبّه إلى ذلك في الكشاف، ولله درّه.
ونظائره كثيرة في القرآن.
والأزواج: جمع زوج.
وحقيقة الزوج أنه اسم لكلّ فرد من اثنين من صنف واحد.
فكلّ أحد منهما هو زوج باعتبار الآخر، لأنه يصير بسبق الفرد الأول إياه زوجًا.
ثم غلب على الذكر والأنثى المقترنين من نوع الإنسان أو من الحيوان، قال تعالى: {فاسلك فيها من كلّ زوجين اثنين} [المؤمنون: 27]، وقال: {فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} [القيامة: 39] وقال: {اسكن أنتَ وزوجُك الجنّة} [البقرة: 35].
ولمّا شاعت فيه ملاحظة معنى اتّحاد النّوع تطرقوا من ذلك إلى استعمال لفظ الزوج في معنى النوع بغير قيد كونه ثانيًا لآخر، على طريقة المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق، قال تعالى: {سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تُنْبت الأرض ومن أنفسهم وممّا لا يعلمون} [يس: 36]، ومنه قوله: {فأنبتنا فيها من كلّ زَوج كريم} [لقمان: 10].
وفي الحديث: «من أنفق زوجين في سبيل الله ابتدرتهُ حجبة الجنّة...» الحديثَ، أي من أنفق نوعين مثل الطعام والكسوة، ومثل الخَيل والرواحل. وهذا الإطلاق هو المراد هنا، أي فأنبتنا به أنواعًا من نبات.
وتقدّم في سورة الرعد.
والنّبات: مصدر سمي به النبات، فلكونه مصدرًا في الأصل استوى فيه الواحد والجمع.
وشتّى: جمع شتيت بوزن فَعلى، مثل: مريض ومَرضى.
والشّتيت: المشتّت، أي المبعّد.
وأريد به هنا التباعد في الصفات من الشكل واللّون والطعم، وبعضها صالح للإنسان وبعضها للحيوان.
والجملة الثانية {كُلُوا وارْعوا أنعامكُم} مقول قول محذوف هو حال من ضمير {فأخرجنا} والتقدير: قائلين: كُلوا وارعوا أنعامكم.
والأمر للإباحة مراد به المنّة.
والتقدير: كلوا منها وارعوا أنعامكم منها.
وهذا من مقابلة الجمع بالجمع لقصد التوزيع.
وفعل {رعى} يستعمل قاصرًا ومتعديًا.
يقال: رعت الدابةُ ورعاها صاحبها.
وفرق بينهما في المصدر فمصدر القاصر: الرّعي، ومصدر المتعدي: الرعاية.
ومنه قول النّابغة:
رأيتكَ ترعاني بعين بصيرة

والجملة الثالثة {إنَّ في ذلك لآياتٍ لأُوْلِى النهى} معترضة مؤكدة للاستدلال؛ فبعد أن أُشير إلى ما في المخلوقات المذكورة آنفًا من الدلالة على وجود الصانع ووحدانيته، والمنّة بها على الإنسان لمن تأمل، جُمعت في هذه الجملة وصرح بما في جميعها من الآيات الكثيرة.
وكلّ من الاعتراض والتوكيد مقتض لفصل الجملة.
وتأكيد الخبر بحرف {إنّ} لتنزيل المخاطبين منزلة المنكرين، لأنّهم لم ينظروا في دلالة تلك المخلوقات على وحدانية الله، وهم يحسبون أنفسهم من أولي النّهى، فما كان عدم اهتدائهم بتلك الآيات إلاّ لأنهم لم يَعُدوها آيات.
لا جرم أنّ ذلك المذكور مشتمل على آيات جمّة يتفطن لها ذوو العقول بالتأمّل والتفكّر، وينتبهون لها بالتذكير.
والنُهى: اسم جمع نُهْية بضم النون وسكون الهاء، أي العقل، سمي نُهية لأنّه سبب انتهاء المتحلي به عن كثير من الأعمال المفسدة والمهلكة، ولذلك أيضًا سمّي بالعقل وسمي بالحِجْر.
{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)}.
مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا.
وهذا إدماج للتذكير بالخلق الأول ليكون دليلًا على إمكان الخلق الثاني بعد الموت.
والمناسبة متمكنة؛ فإن ذكر خلق الأرض ومنافعها يستدعي إكمال ذكر المهم للنّاس من أحوالها، فكان خلق أصل الإنسان من الأرض شبيهًا بخروج النبات منها.
وإخراج النّاس إلى الحشر شبيه بإخراج النبات من الأرض.
قال تعالى: {والله أنبتكم من الأرض نباتًا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجًا} [نوح: 17، 18].
وتقديم المجرورات الثلاثة على متعلقاتها؛ فأما المجرور الأول والمجرور الثالث فللاهتمام بكون الأرض مبدأ الخلق الأول والخلق الثاني.
وأما تقديم {وفِيهَا نُعِيدكُم} فللمزاوجة مع نظيريه.
ودل قوله تعالى: {وفِيهَا نُعيدُكُم} على أن دفن الأموات في الأرض هو الطريقة الشرعيّة لمواراة الموتى سواء كان شَقًّا في الأرض أو لحْدًا، لأن كليهما إعادة في الأرض؛ فما يأتيه بعض الأمم غير المتدينة من إحراق الموتى بالنّار، أو إغراقهم في الماء، أو وضعهم في صناديق فوق الأرض، فذلك مخالف لسنّة الله وفطرته.
لأنّ الفطرة اقتضت أنّ الميت يسقط على الأرض فيجب أن يوارى فيها.
وكذلك كانت أول مواراة في البشر حين قتَل أحدُ ابني آدم أخَاه.
كما قال تعالى في سورة العقود (31) {فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض لِيُريَه كيف يُوارِي سوْأة أخيه قال يا ويْلَتَى أعجَزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوَارِيَ سوأة أخي} فجاءت الشرائع الإلهيّة بوجوب الدفن في الأرض.
والتّارة: المرة، وجمعها تارات.
وأصل ألفها الواو.
وقال ابن الأعرابي: أصل ألفها همزة فلمّا كثر استعمالهم لها تركوا الهمزة.
وقال بعضهم: ظهر الهمز في جمعها على فِعَل فقالوا: تِئَر بالهمز.
ويظهر أنّها اسم جامد ليس له أصل مشتق منه.
والإخراج: هو إخراجها إلى الحشر بعد إعادة هياكل الأجسام في داخل الأرض، كما هو ظاهر قوله: {ومنها نُخْرِجُكُم}، ولذلك جعل الإخراج تارة ثانية للخلق الأول من الأرض.
وفيه إيماء إلى أن إخراج الأجساد من الأرض بإعادة خلقها كما خلقت في المرّة الأولى، قال تعالى: {كما بدَأنا أوَّل خلق نُعيده} [الأنبياء: 104]. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)}.
ووجّه الخطاب إلى الرئيس الأصلي في هذه المهمة، وهو موسى عليه السلام.
{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)}.
معنى {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ} [طه: 50] أي: كل ما في الوجود، خلقه الله لمهمة، فجاء خَلْقه مناسبًا للمهمة التي خُلِق لها {ثُمَّ هدى} [طه: 50] أي: دلّ كل شيء على القيام بمهمته ويسّره لها.
والحق سبحانه أعطى كل شيء {خَلْقَهُ} الخَلْق يُطلَق، ويُراد به المخلوق، فالمخلوق شيء لابد له من مادة، لابد أن يكون له صورة وشكل، له لون ورائحة، له عناصر ليؤدي مهمته.
فإذا أراد الله سبحانه خَلْق شيء يقْدِر له كل هذه الأشياء فأمدَّ العين كي تبصر، والأنف كي يشم، واللسان كي يتذوق، ثم هدى كل شيء إلى الأمر المراد به لتمام مهمته، بدون أي تدخّل فيه من أحد.
وإذا كان الإنسان، وهو المقدور للقادر الأعلى يستطيع أن يصنع مثلًا القنبلة الزمنية، ويضبطها على وقت، فتؤدي مهمتها بعد ذلك تلقائيًا دون اتصال الصانع بها.
فالحق سبحانه خلق كل شيء وأقدره على أنْ يُؤدِّي مهمته على الوجه الأكمل تأدية تلقائية غريزية، فالحيوانات التي نتهمها بالغباء، ونقول عنها: بهائم هي في الحقيقة ليست كذلك، وقد أعطانا الحق سبحانه وتعالى صورة لها في مسألة الغراب الذي بعثه الله ليُعلِّم ولد آدم كيف يواري سوءة أخيه كما قال سبحانه: {فَبَعَثَ الله غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} [المائدة: 31].
فكيف صنع الغراب هذا الصنيع؟ صنعة بالغريزة التي جعلها الله فيه، ولو تأملتَ الحمار الذي يضربون به المثل في الغباء حين تريده أنْ يتخطى قناة مثلًا، تراه ينظر إليها ويُقدِّر مسافتها، فإن استطاع أنْ يتخطاها قفز دون تردد، وإنْ كانت فوق إمكانياته تراجع، ولم يُقْدِم مهما ضربته أو أجبرته على تخطيها، هذه هي الغريزة الفِطْرية.
لذلك تجد المخلوقات غير المختارة لا تخطىء؛ لأنها محكومة بالغريزة، وليس لها عقل يدعو إلى هوىً، وليس لها اختيار بين البدائل مثل العقل الإلكتروني الذي يعطيك ما أودعته فيه لا يزيد عليه ولا ينقص، أما الإنسان فيمكن أنْ يُغيّر الحقيقة، ويُخفِي ما تريده منه، لأن له عقلًا يفاضل: قُلْ هذه، ولا تقُلْ هذه، وهذا ما ميّز الله به الإنسان عن غيره من المخلوقات.
كذلك، ترى الحيوان إذا شبع يتمنع عن الطعام ولا يمكن أن تؤكله عود برسيم واحد مهما حاولتَ، إنما الإنسان صاحب العقل والهوى يقول لك: أرها الألوان تريك الأركان، فلا مانع بعد أن أكل حتى التخمة من تذوُّق أصناف شتّى من الحلوى والفاكهة وخلافه.