فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومنة أخرى: {وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي}..
ذلك حين كبر وشب في قصر فرعون، ثم نزل المدينة يومًا فوجد فيها رجلين يقتتلان أحدهما إسرائيلي والآخر مصري، فاستعانه الإسرائيلي فوكز المصري بيده فخر صريعًا. ولم يكن ينوي قتله إنما كان ينوي دفعه. فامتلأت نفسه بالغم على هذه الفعلة وهو المصنوع على عين الله منذ نشأته؛ وتحرج ضميره وتأثم من اندفاعه.. فربه يذكره هنا بنعمته عليه، إذ هداه إلى الاستغفار فشرح صدره بهذا ونجاه من الغم. ولم يتركه مع هذا بلا ابتلاء ليربيه ويعده لما أراد؛ فامتحنه بالخوف والهرب من القصاص؟ وامتحنه بالغربة ومفارقة الأهل والوطن؛ وامتحنه بالخدمة ورعي الغنم، وهو الذي تربى في قصر أعظم ملوك الأرض، وأكثرهم ترفًا ومتاعًا وزينة..
وفي الوقت المقدر. عندما نضج واستعد، وابتلي فثبت وصبر؛ وامتحن فجاز الامتحان. وتهيأت الظروف كذلك والأحوال في مصر، وبلغ العذاب ببني إسرائيل مداه..
في ذلك الوقت المقدر في علم الله جيء بموسى من أرض مدين، وهو يظن أنه هو جاء: {فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى}.
جئت في الوقت الذي قدرته لمجيئك.. {واصطنعتك لنفسي} خالصًا مستخلصًا ممحضًا لي ولرسالتي ودعوتي.. ليس بك شيء من هذه الدنيا ولا لهذه الدنيا. إنما أنت للمهمة التي صنعتك على عيني لها واصطنعتك لتؤديها. فما لك في نفسك شيء. وما لأهلك منك شيء، وما لأحد فيك شيء. فامض لما اصطنعتك له:
{اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولًا لينا لعله يتذكر أو يخشى}..
اذهب أنت وأخوك مزودين بآياتي وقد شهد منها آية العصا وآية اليد ولا تنيا في ذكري فهو عدتكما وسلاحكما وسندكما الذي تأويان منه إلى ركن شديد.. اذهبا إلى فرعون. وقد حفظتك من شره من قبل. وأنت طفل وقد قذفت في التابوت، فقذف التابوت في اليم، فألقاه اليم بالساحل، فلم تضرك هذه الخشونة، ولم تؤذك هذه المخاوف. فالآن أنت معد مهيأ، ومعك أخوك.
فلا عليك وقد نجوت مما هو أشد، في ظروف أسوأ وأعنف.
اذهبا إلى فرعون فقد طغى وتجبر وعتا {فقولا له قولًا لينًا} فالقول اللين لا يثير العزة بالإثم؛ ولا يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة. ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان.
اذهبا إليه غير يائسين من هدايته، راجيين أن يتذكر ويخشى. فالداعية الذي ييأس من اهتداء أحد بدعوته لا يبلغها بحرارة، ولا يثبت عليها في وجه الجحود والإنكار.
وإن الله ليعلم ما يكون من فرعون. ولكن الأخذ بالأسباب في الدعوات وغيرها لابد منه. والله يحاسب الناس على ما يقع منهم بعد أن يقع في عالمهم. وهو عالم بأنه سيكون. فعلمه تعالى بمستقيل الحوادث كعلمه بالحاضر منها والماضي في درجة سواء.
وإلى هنا كان الخطاب لموسى عليه السلام وكان المشهد هو مشهد المناجاة في الفلاة. وهنا يطوي السياق المسافات والأبعاد والأزمان، فإذا هارون مع موسى. وإذا هما معًا يكشفان لربهما عن خوفهما من مواجهة فرعون، ومن التسرع في أذاه، ومن طغيانه إذا دعواه:
{قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى}.
وهارون لم يكن مع موسى قطعًا في موقف المناجاة الطويل الذي تفضل المنعم فيه على عبده، فأطال له فيه النجاء، وبسط له في القول، وأوسع له في السؤال والجواب فردهما معا بقولهما: {إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} لم يكن في موقف المناجاة. إنما هو السياق القرآني يطوي الزمان والمكان، ويترك فجوات بين مشاهد القصص، تعلم من السياق ليصل مباشرة إلى المواقف الحية الموحية ذات الأثر في سير القصص وفي وجدان الناس.
ولقد اجتمع موسى وهارون عليهما السلام إذن بعد انصراف موسى من موقف المناجاة بجانب الطور. وأوحى الله إلى هارون بمشاركة أخيه في دعوة فرعون ثم هاهما ذان يتوجهان إلى ربهما بمخاوفهما: {قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى}..
والفرط هو التسرع بالأذى للوهلة الأولى، والطغيان اشمل من التسرع وأشمل من الأذى. وفرعون الجبار يومئذ لا يتحرج من أحدهما أو كليهما.
هنا يجيئهما الرد الحاسم الذي لا خوف بعده، ولا خشية معه:
{قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى}..
إنني معكما.. إنه القوي الجبار الكبير المتعال. إنه الله القاهر فوق عباده. إنه موجد الأكوان والحيوات والأفراد والأشياء بقولة: كن.
ولا زيادة.. إنه معهما.. وكان هذا الإجمال يكفي. ولكنه يزيدهما طمأنينة، ولمسا بالحس للمعونة: {أسمع وأرى} فما يكون فرعون وما يملك وما يصنع حين يفرط أو يطغى؟ والله معهما يسمع ويرى؟
ومع الطمأنينة الهداية إلى صورة الدعوة وطريق الجدال:
{فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى}..
إنه البدء بإيضاح قاعدة رسالتهما: {إنا رسولا ربك} ليشعر منذ اللحظة الأولى بأن هناك إلهًا هو ربه. وهو رب الناس. فليس هو إلهًا خاصًا بموسى وهارون أو ببني إسرائيل، كما كان سائدًا في خرافات الوثنية يومذاك أن لكل قوم إلهًا أو آلهة؛ ولكل قبيل إلهًا أو آلهة. أو كما كان سائدًا في بعض العصور من أن فرعون مصر إله يعبد فيها لأنه من نسل الآلهة.
ثم إيضاح لموضوع رسالتهما: {فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم}.. ففي هذه الحدود كانت رسالتهما إلى فرعون. لاستنقاذ بني إسرائيل، والعودة بهم إلى عقيدة التوحيد، وإلى الأرض المقدسة التي كتب الله لهم أن يسكنوها إلى أن يفسدوا فيها، فيدمرهم تدميرًا.
ثم استشهاد على صدقهما في الرسالة: {قد جئناك بآية من ربك} تدل على صدقنا في مجيئنا إليك بأمر ربك، في هذه المهمة التي حددناها.
ثم ترغيب واستمالة: {والسلام على من اتبع الهدى}: فلعله منهم يتلقى السلام ويتبع الهدى.
ثم تهديد وتحذير غير مباشرين كي لا يثيرا كبرياءه وطغيانه: {إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى}.. فلعله لا يكون ممن كذب وتولى!
هكذا ألقى الله الطمأنينة على موسى وهارون. وهكذا رسم لهما الطريق. ودبر لهما الأمر. ليمضيا آمنين عارفين هاديين.
وهنا يسدل الستار ليرفع. فإذا هما أمام الطاغية في حوار وجدال.
لقد أتيا فرعون والسياق لا يذكر كيف وصلا إليه اتياه وربهما معهما يسمع ويرى. فأية قوة وأي سلطان هذا الذي يتكلم به موسى وهارون، كائنًا فرعون ما كان؛ ولقد أبلغاه ما أمرهما ربهما بتبليغه. والمشهد هنا يبدأ بما دار بينه وبين موسى عليه السلام من حوار:
{قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}..
إنه لا يريد أن يعترف بأن رب موسى وهارون هو ربه، كما قالا له: {إنا رسولا ربك} فهو يسأل موجهًا الكلام إلى موسى لما بدا له أنه هو صاحب الدعوى: {فما ربكما يا موسى} من ربكما الذي تتكلمان باسمه وتطلبان اطلاق بني إسرائيل؟
فأما موسى عليه السلام فيرد بالصفة المبدعة المنشئة المدبرة من صفات الله تعالى: {قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}.
. ربنا الذي وهب الوجود لكل موجود في الصورة التي أوجده بها وفطره عليها. ثم هدى كل شيء إلى وظيفته التي خلقه لها؛ وأمده بما يناسب هذه الوظيفة ويعينه عليها. وثم هنا ليست للتراخي الزمني. فكل شيء مخلوق ومعه الاهتداء الطبيعي الفطري للوظيفة التي خلق لها، وليس هناك افتراق زمني بين خلق المخلوق وخلق وظيفته. إنما هو التراخي في الرتبة بين خلق الشيء واهتدائه إلى وظيفته؛ فهداية كل شيء إلى وظيفته مرتبة أعلى من خلقه غفلًا..
وهذا الوصف الذي يحكيه القرآن الكريم عن موسى عليه السلام يلخص أكمل آثار الألوهية الخالقة المدبرة لهذا الوجود: هبة الوجود لكل موجود.. وهبة خلقه على الصورة التي خلق بها. وهبة هدايته للوظيفة التي خلق لها.. وحين يجول الإنسان ببصره وبصيرته- في حدود ما يطيق- في جنبات هذا الوجود الكبير تتجلى له آثار تلك القدرة المبدعة المدبرة في كل كائن صغير أو كبير. من الذرة المفردة إلى أضخم الأجسام، ومن الخلية الواحدة إلى أرقى أشكال الحياة في الإنسان.
هذا الوجود الكبير المؤلف مما لا يحصى من الذرات والخلايا، والخلائق والأحياء؛ وكل ذرة فيه تنبض، وكل خلية فيه تحيا، وكل حي فيه يتحرك، وكل كائن فيه يتفاعل أو يتعامل مع الكائنات الأخرى.. وكلها تعمل منفردة ومجتمعة داخل إطار النواميس المودعة في فطرتها وتكوينها بلا تعارض ولا خلل ولا فتور في لحظة من اللحظات!
وكل كائن بمفرده كون وحده وعالم بذاته، تعمل في داخله ذراته وخلاياه وأعضاؤه وأجهزته وفق الفطرة التي فطرت عليها، داخل حدود الناموس العام، في توافق وانتظام.
وكل كائن بمفرده ودعك من الكون الكبير يقف علم الإنسان وجهده قاصرًا محدودًا في دراسة خواصه ووظائفه وأمراضه وعلاجه. دراستها مجرد دراسة لا خلقها ولا هدايتها إلى وظائفها، فذلك خارج كلية عن طوق الإنسان. وهو خلق من خلق الله.. وهبه وجوده، على الهيئة التي وجد بها؟ للوظيفة التي خلق لها، كأي شيء من هاته الأشياء!
إلا أنه للإله الواحد.. ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى..
وثنى فرعون بسؤال آخر:
{قال فما بال القرون الأولى}.
ما شأن القرون التي مضت من الناس؟ أين ذهبت؟ ومن كان ربها؟ وما يكون شأنها وقد هلكت لا تعرف إلهها هذا؟
{قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى}..
بهذا أحال موسى ذلك الغيب البعيد في الزمان. الخافي عن العيان، إلى ربه الذي لا يفوت علمه شيء ولا ينسى شيئًا. فهو الذي يعلم شأن تلك القرون كله. في ماضيها وفي مستقبلها.
والغيب لله والتصرف في شأن البشر لله.
ثم يستطرد فيعرض على فرعون آثار تدبير الله في الكون وآلائه على بني الإنسان. فيختار بعض هذه الآثار المحيطة بفرعون، المشهودة له في مصر ذات التربة الخصبة والماء الموفور والزروع والأنعام:
{الذي جعل لكم الأرض مهدًا وسلك لكم فيها سبلًا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجًا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى}..
والأرض كلها مهد للبشر في كل مكان وزمان. مهد كمهد الطفل. وما البشر إلا أطفال هذه الأرض. يضمهم حضنها ويغذوهم درها! وهي ممهدة لهم كذلك للسير والحرث والزرع والحياة. جعلها الخالق المدبر كذلك يوم أعطى كل شيء خلقه. فأعطى هذه الأرض خلقها على الهيئة التي خلقت بها صالحة للحياة التي قدرها فيها؛ وأعطى البشر خلقهم كذلك على الهيئة التي خلقهم بها صالحين للحياة في هذه الأرض التي مهدها لهم وجعلها مهدهم.. المعنيان متقاربان متصلان.
وصورة المهد وصفة التمهيد لا تبدو في بقعة من الأرض كما تبدو في مصر. ذلك الوادي الخصيب الأخضر السهل الممهد الذي لا يحوج أهله إلا إلى أيسر الكد في زرعه وجناه. وكأنما هو المهد الحاني على الطفل يضمه ويرعاه والخالق المدبر الذي جعل الأرض مهدًا، شق للبشر فيها طرقًا وأنزل من السماء ماء. ومن ماء المطر تتكون الأنهار وتفيض ومنها نهر النيل القريب من فرعون فيخرج النبات أزواجًا من أجناس كثيرة. ومصر أظهر نموذج لإخراج النبات لطعام الإنسان ورعي الحيوان.
وقد شاء الخالق المدبر أن يكون النبات أزواجًا كسائر الأحياء. وهي ظاهرة مطردة في الأحياء كلها. والنبات في الغالب يحمل خلايا التذكير، وخلايا التأنيث في النبتة الواحدة وأحيانًا يكون اللقاح في نبتة ذكر منفردة كما هو الحال في الفصائل الحيوانية. وبذلك يتم التناسق في نواميس الحياة ويطرد في كل الفصائل والأنواع.. {إن في ذلك لآيات لأولي النهى}.. وما من عقل مستقيم يتأمل هذا النظام العجيب ثم لا يطلع فيه على آيات تدل على الخالق المدبر الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى..
ويكمل السياق حكاية قول موسى بقول مباشر من الله جل وعلا:
{منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى}.
من هذه الأرض التي جعلناها لكم مهدًا وسلكنا لكم فيها سبلًا وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا به أزواجًا من نبات شتى، للأكل والمرعى.. من هذه الأرض خلقناكم، وفي هذه الأرض نعيدكم، ومنها نخرجكم بعد موتكم.
والإنسان مخلوق من مادة هذه الأرض. عناصر جسمه كلها من عناصرها إجمالًا. ومن زرعها يأكل، ومن مائها يشرب، ومن هوائها يتنفس. وهو ابنها وهي له مهد.
وإليها يعود جثة تطويها الأرض، ورفاتًا يختلط بترابها، وغازًا يختلط بهوائها ومنها يبعث إلى الحياة الأخرى، كما خلق في النشأة الأولى.
وللتذكير بالأرض هنا مناسبة في مشهد الحوار مع فرعون الطاغية المتكبر، الذي يتسامى إلى مقام الربوبية؛ وهو من هذه الأرض وإليها؛ وهو شيء من الأشياء التي خلقها الله في الأرض وهداها إلى وظيفتها.. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} [طه: 53]، وقال في سورة الزخرف: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف: 10]، للسائل أن يسأل عن وجه الاختلاف بين سلك وجعل؟ ووجه اختصاص كل من السورتين بما ورد فيها؟
والجواب عن ذلك: أن العبارتين في السورتين معناهما متقارب وهو ما هيأه سبحانه لعباده من المذكور في قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك: 15]، والمراد بسلك وجعل ما خلق وذلل سبحانه منها وهيأه لتصرفنا في معايشنا ومنافعها.
والجواب عن الثاني أن اختصاص كل واحدة من العبارتين بموضعها في آية طه مقصود بها التلطف بالدعاء إلى الله عز وجل على ما تقدم من أمره تعالى لموسى وهارون، عليهما السلام، في قوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44]، فلما بني الكلام على هذا وأعقب بقوله: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه: 53- 54]، ولا إشكال في أن هذا من التلطف والرفق في الدعاء- ناسب ذلك العبارة بسلك عما أنهج تعالى من السبل ولاطرق لمرافق العباد ومصالحهم، وهي منبئة عما تعطيه جعل في الآية الأخرى مع زيادة الوضوح وكمال التهيئة، فهي أنسب لما قصد في هذه السورة، تقول: منهج سالك أي واضح، ولو قلت مجعول لم يعط هذا المعنى من الوضوح. أما آية الزخرف فمبنية على توبيخ من كفر من العرب وترقيعهم، ألا ترى قوله سبحانه: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5]، وقوله إخبارًا عن مكذبي الأمم: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزخرف: 7]، وقوله: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا} [الزخرف: 8] أي من هؤلاء الذين كذبوك يا محمد، فهذا كله توبيخ للجاحدين والمعاندين، وتأمل ما افتتحت به السورة من قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]، والتعقل لا يستلزم الاهتداء والإيمان، ألا ترى قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75]، فأين موقع قوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} من قوله: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} و{لَعَلَّكُمْ تُفِلحُونَ} و{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}؟ فتدبر ذلك يلح لك الفرق، فناسب هذا ما ينبئ عن الخلق والاختراع من غير زيادة، فعبر هنا بجعل.
وأيضًا فقد اكتنف لفظ جعل في الزخرف قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]، وقوله بعدها: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12] فناسب هذا ذكر الجعل، ولم يناسب هنا هذه المناسبة لفظ سلك، فجاء كل على ما يجب ويناسب، والله أعلم. اهـ.