فصل: تفسير الآيات (56- 60):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وانظر إلى الفرق بين قوله تعالى: عن نبينا صلى الله عليه وسلم: {مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى} [النجم: 17] وقوله عن موسى عليه السلام: {قال هي عصاي} [طه: 18].. إلخ. ترى الفرق واضحًا بين الحبيب والكليم مع أن لكل رتبة التكريم صلى الله عليه وسلم.
وذكر بعضهم أن في الآيات ما يشعر بالفرق بينهما أيضًا عليهما الصلاة والسلام من وجه آخر وذلك أن موسى عليه السلام كان يتوكأ على العصا والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتكل على فضل الله تعالى ورحمته قائلًا مع أمته وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولذا ورد في حقه {حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} [الأنفال: 64] على معنى وحسب من اتبعك.
وأيضًا إنه عليه السلام بدأ بمصالح نفسه في قوله: {قَالَ هِىَ} ثم مصالح رعيته بقوله: {وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِى} [طه: 18] والنبي صلى الله عليه وسلم لم يشتغل إلا باصلاح أمر أمته اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون، فلا جرم يقول موسى عليه السلام يوم القيامة.
نفسي نفسي والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أمتي أمتي» انتهى، وهو مأخوذ من كلام الإمام بل لا فرق إلا بيسير جدًا.
ولعمري أنه لا ينبغي أن يقتدي به في مثل هذا الكلام كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
وإنما نقلته لأنبه على عدم الاغترار به نعود بالله تعالى من الخذلان {رَبّ اشرح لِى صَدْرِى} [طه: 25] لم يذكر عليه السلام بم يشرح صدره وفيه احتمالات.
قال بعض الناس: إنه تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور.
الأول: ذاته جل شأنه {الله نُورُ السموات والأرض} [النور: 35].
الثاني: الرسول صلى الله عليه وسلم: {قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ وكتاب} [المائدة: 15]. الثالث: الكتاب {واتبعوا النور الذى أُنزِلَ مَعَهُ} [الأعراف: 157].
الرابع: الإيمان: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله} [التوبة: 32].
الخامس: عدل الله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبّهَا} [الزمر: 69].
السادس: القمر {وَجَعَلَ القمر نُورًا} [النوح: 16].
السابع النهار {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1].
الثامن: البينات {إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44].
التاسع: الأنبياء عليهم السلام {نور على نور} [النور: 35].
العاشر: المعرفة {مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} [النور: 35] فكان موسى عليه السلام قال أولًا {رَبّ اشرح لِى صَدْرِى} [طه: 25] بمعرفة أنوار جلال كبريائك، وثانيًا {رَبّ اشرح لِى صَدْرِى} بالتخلق بأخرق رسلك وأنبيائك، وثالثًا {رَبّ اشرح لِى صَدْرِى} باتباع وحبيك وامتثال أمرك ونهيك، ورابعًا {رَبّ اشرح لِى صَدْرِى} بنور الإيمان والايقان بالهيتك، وخامسًا {رَبّ اشرح لِى صَدْرِى} بالاطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك وسادسا {رَبّ اشرح لِى صَدْرِى} بالانتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلال عزتك كما فعله إبراهيم عليه السلام، وسابعا {رَبّ اشرح لِى صَدْرِى} من مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل قهرك، وثامنا: {رب اشرح لي صدري} بالاطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسمواتك، وتاسعا {رَبّ اشرح لِى صَدْرِى} في أن أكون خلف صدق للأنبياء المتقدمين ومشابهًا لهم في الانقياد لحكم رب العالمين، وعاشرًا {رَبّ اشرح لِى صَدْرِى} بأن يجعل سراح الإيمان كالمشكاة التي فيها المصباح انتهى.
ولا يخفى ما بين أكثر ما ذكر من التلازم واغناء بعضه عن بعض، وقال أيضًا: إن شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير كالسراج، ولا يخفى أن مستوقد السراج مجتاح إلى سبعة أشياء زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن، فالزند زند المجاهدة {والذين جاهدوا} [العنكبوت: 69] والحجر حجر التضرع {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] والمسرجة الصبر {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] والفتيلة الشكر و{لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم 7] والدهن الرضا {واصبر لِحُكْمِ رَبّكَ} [الطور: 48] أي ارض بقضائه، ثم إذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغي أن تطلب المقصود من حضرة ربك جل وعلا قائلًا: {رَبّ اشرح لِى صَدْرِى} فهنالك تسمع {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا موسى موسى} [طه: 36] ثم إن هذا النور الروحاني أفضل من الشمس الجسمانية لوجوه، الأول أن الشمس يحجبها الغيم وشمس المعرفة لا تحجبها السموات السبح {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10].
الثاني الشمس تغيب ليلًا وشمس المعرفة لا تغيب ليلًا: {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِىَ أَشَدُّ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا} [المزمل: 6] {والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران: 17] {سبحان الذي أسري بعبده ليلًا} [الإسراء: 1].
الليل للعاشقين ستر ** يا ليت أوقاته تدوم

الثالث الشمس تفنى {إِذَا الشمس كُوّرَتْ} [التكوير: 1] والمعرفة لا تفنى.
{أصلها ثابت وفرعها في السماء} [إبراهيم: 24] {سَلاَمٌ قَوْلًا مّن رَّبّ رَّحِيمٍ} [يس: 58]، الرابع الشمس إذا قابلها القمر انكسفت، وشمس المعرفة وهي {أُشْهِدُ أَن لاَّ إله إِلاَّ الله} إذا لم تقرن بقمر النبوة وهي أشهد أن محمدًا رسول الله لم يصل النور إلى عالم الجوارح، الخامس الشمس تسود الوجوه والمعرفة تبيض الوجوه {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]، السادس الشمس تصدع والمعرفة تصعد.
السابع الشمس تحرق والمعرفة تمنع من الاحراف {جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي} الثامن الشمس منفعتها في الدنيا والمعرفة منفتعتها في الدارين {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] التاسع الشمس فوقانية الصورة تحتانية المعنى والمعارف الإلهية بالعكس، العاشر الشمس تقع على الولي والعدو والمعرفة لا تحصل إلا للولي، الحادس عشر الشمس ترعف أحوال الخلق والمعرفة توصل القلب إلى الخالق، ولما كان شرح الصدر الذي هو أول مراتب الروحانيات أشرف من أعلى مراتب الجسمانيات بدأ موسى عليه السلام بطلبه قائلًا {رب اشرح لي صدري} وعلامة شرح الصدر ودخول النور الإلهي فيه التجافي عن دار الغرور والرغبة في دار الخلود وشبهوا الصدر بقلعة وجعلوا الأول كالخندق لها والثاني كالسور فمتى كان الخندق عظيمًا والسور محكمًا عجز عسكر الشيطان من الهوى والكبر والعجب والبخل وسوء الظن بالله تعالى وسائر الخصال الذميمة ومتى لم يكونا كذلك دخل العسكر وحينئذ ينحصر الملك في قصر القلب ويضيق الأمر عليه وفرقوا بين الصدر والقلب والفؤاد واللب بأن الصدر مقر الإسلام {أفمن شرح الله صدره للإسلام} [الزمر: 22] والقلب مقر الإيمان {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] {أُوْلَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمان} [المجادلة: 22] والفؤاد مقر المشاهدة {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} [النجم: 11] واللب مقام التوحيد {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب} [الرعد: 91] أي الذين خرجوا من قشر الوجود المجازي وبقوا بلب الوجود الحقيقي؛ وإنما سأل موسى عليه السلام شرح الصدر دون القلب لأن انشراح الصدر يستلزم انشراح القلب دون العكس وأيضًا شرح الصدر كالمقدمة لشرح القلب والحر تكفيه الإشارة، فإذا علم المولى سبحانه أنه طالب للمقدمة فلا يليق بكرمه أن يمنعه النتيجة.
وأيضًا أنه عليه السلام راعي الأدب في الطلب فاقتصر على طلب الأدنى فلا جرم أعطى المقصود فقيل: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا موسى موسى} [طه: 6] ولما اجترأ في طلب الرؤية، قيل له: {لَن تَرَانِى} [الأعراف: 143]، ولا يخفى ما بين قول موسى عليه السلام لربه عز وجل: {رَبّ اشرح لِى صَدْرِى} [طه: 25] وقول الرب لحبيبه صلى الله عليه وسلم {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] ويعلم منه أن الكليم عليه السلام مريد والحبيب صلى الله عليه وسلم مراد والفرق مثل الصبح ظاهر.
ويزيد الفرق ظهورًا أن موسى عليه السلام في الحضرة الإلهية طلب لنفسه ونبينا صلى الله عليه وسلم حين قيل له هناك السلام عليك أيها النبي قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وقد أطال الإمام الكلام في هذه الآية بما هو من هذا النمط فارجع إليه إن أردته {واحلل عُقْدَةً مّن لّسَانِى يَفْقَهُواْ قَوْلِي} [طه: 27، 28] كأنه عليه السلام طلب قدرة التعبير عن الحقائق الإلهية بعبارة واضحة فإن المطلب وعر لا يكاد توجد له عبارة تسهله حتى يأمن سامعه عن العثار.
ولذا ترى كثيرًا من الناس ضلوا بعبارات بعض الأكابر من الصوفية في شرح الأسرار الألهية وقيل: إنه عليه السلام سأل حل عقدة الحياء فإأنه استحيا أن يخاطب عدو الله تعالى بلسان به خاطب الحق جل وعلا.
ولعله أراد من القول المضاف القول الذي به إرشاد للعباد فإن همة العارفين لا تطلب النطق والمكالمة مع الناس فيما لا يحصل به إرشاد لهم نعم النطق من حيث هو فضيلة عظيمة وموهبة جسيمة ولهذا قال سبحانه: {الرحمن عَلَّمَ القرءان خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} [الرحمن: 1 4] من غير توسيط عاطف.
وعن علي كرم الله تعالى وجهه ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة مصورة أو بهيمة مهملة، وقال رضي الله عنه: المرء مخبوء تحت طي لسانه لا طيلسانه، وقال رضي الله تعالى عنه: المرء باصغريه قلبه ولسانه، وقال زهير:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ** فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

ومن الناس من مدح الصمت لأنه أسلم.
يموت الفتى من عثرة بلسانه ** وليس يموت المرء من عثرة الرجل

وفي نوابغ الكلم ق فاك لا يقرع قفاك، والإنصاف أن الصمت في نفسه ليس بفضيلة لأنه أمر عدمي والمنطق في نفسه فضيلة لكن قد يصير رذيلة لأسباب عرضية، فالحق ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: «رحم الله تعالى امرأ قال خيرًا فغنم أو سكت فسلم».
وذكر في وجه عدم طلبه عليه السلام الفصاحة الكاملة أنها نصيب الحبيب عليه الصلاة والسلام، فقد كان صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق بالضاد فما كان له أن يطلب ما كان له {واجعل لّى وَزِيرًا مّنْ أَهْلِى هارون أَخِى اشدد بِهِ أَزْرِى وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِى} [طه: 29-32] فيه إشارة إلى فضيلة التعاون في الدين فإنه من أخلاق المرسلين عليهم صلوات الله تعالى وسلامه أجمعين، والوزارة المتعارفة بين الناس ممدوحة إن زرع الوزير في أرضها ما لا يندم عليه وقت حصاده بين يدي ملك الملوك، وفيه إشارة أيضًا إلى فضيلة التوسط بالخير للمستحقين لاسيما إذا كانوا من ذوي القرابة:
ومن منع المستوجبين فقد ظلم

وفي تقديم موسى عليه السلام مع أنه أصغر سنًا على هارون عليه السلام مع أنه الأكبر دليل على أن الفضل غير تابع للسن فالله تعالى يختص بفضله من يشاء {إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه: 35] في ختم الأدعية بذلك من حسن الأدب مع الله تعالى ما لا يخفى، وهو من أحسن الوسائل عند الله عز وجل.
ومن آثار ذلك استجابة الدعاء {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى} [طه: 37] تذكير له عليه السلام بما يزيد إيقائه، وفيه إشارة إلى أنه تعالى لا يريد بعد القبول ولا يحرم بعد الإحسان، ومن هنا قيل: إذا دخل الإيمان القلب أمن السلب وما رجع من رجع إلا من الطريق {واصطنعتك لنفسي} [طه: 14] أفردتك لي بالتجريد فلا يشغلك عني شيء فلبثت سنين في أهل مدين أشير بذلك إلى خدمته لشعيب عليه السلام وذلك تربية منه تعالى له بصحبة المرسلين ليكون متخلقًا بأخلاقهم متحليًا بآدابهم صالحًا للحضرة.
ولصحبة الأخيار نفع عظيم عند الصوفية وبعكس ذلك صحبة الأشرار {ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ يا موسى موسى} [طه: 40] وذلك زمان كمال الاستعداد ووقت بعثة الأنبياء عليهم السلام وهو زمن بلوغهم أربعين سنة، ومن بلغ الأربعين ولم يغلب خيره على شره فلينح على نفسه وليتجهز إلى النار.
{اذهبا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} [طه: 43] جاوز الحد في المعصية حتى ادعى الربوبية وذلك أثر سكر القهر الذي هو وصف النفس الأمارة ويقابله سكر اللطف وهو وصف الروح ومنه ينشأ الشطح ودعوى الأنانية قالوا: وصاحبه معذور وإلا لم يكن فرق بين الحلاج مثلا وفرعون.
وأهل الغيره بالله تعالى يقولون: لا فرق {فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] فيه إشارة إلى تعليم كيفية الإرشاد، وقال النهر جوري: إن الأمر بذلك لأنه أحسن إلى موسى عليه السلام في ابتداء الأمر ولم يكافئه {مِنْهَا خلقناكم وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} [طه: 55] إشارة إلى الهياكل وأقفاص بلابل الأرواح وإلا فالأرواح أنفسها من عالم الملكوت، وقد أشرقت على هذه الأشباح {وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبّهَا} [الزمر: 96] والله تعالى أعلم.
وقد تأول بعض أهل التأويل هذه القصة والآيات على ما في الأنفس وهو مشرب قد تركناه إلا قليلًا.
والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. اهـ.

.تفسير الآيات (56- 60):

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان ما ذكر مما علق بالأرض من المرافق وغيره على غاية من الوضوح، ليس وراءها مطمح، فكان المعنى: أرينا فرعون هذا الذي ذكرنا لكم من آياتنا وغيره، وكان المقام لتعظيم القدرة، عطف عليه قوله: {ولقد أريناه} أي بالعصا واليد وغيرهما مما تقدم من مقتضى عظمتنا {آياتنا} أي التي عظمتها من عظمتنا {كلها} بالعين والقلب لأن من قدر على مثل ذلك فهو قادر على غيره من أمثاله من خوارق العادات، لأن الممكنات بالنسبة إلى قدرته على حد سواء، لاسيما والذي ذكر أمهات الآيات كما سيومأ إليه إن شاء الله تعالى في سورة الأنبياء {فكذب} أي بها {وأبى} أي أن يرسل بني إسرائيل؛ وهذا أبلغ من تعديد ما ذكر في الأعراف، فكأنه قيل: كيف صنع في تكذيبه وإبائه؟ فقيل: {قال} حين لم يجد مطعنًا مخيلًا للقبط بما يثيرهم حمية لأنفسهم لأنه علم حقية ما جاء به موسى وظهوره، وتقبل العقول له، فخاف أن يتبعه الناس ويتركوه، ووهن في نفسه وهنًا عظيمًا بتأمل كلماته مفردة ومركبة يعرف مقداره: {أجئتنا لتخرجنا من أرضنا} هذه التي نحن مالكوها {بسحرك يا موسى} فخيل إلى أتباعه أن ذلك سحر، فكان ذلك- مع ما ألفوه من عادتهم في الضلال- صارفًا لهم عن اتباع ما رأوا من البيان، ثم وصل بالفاء السببية قوله مؤكدًا إيذانًا بعلمه أن ما أتى به موسى ينكر كل من يراه أن يقدر غيره على معارضته: {فلنأتينك} أي والإله الأعظم! بوعد لا خلف فيه {بسحر مثله} تأكيدًا لما خيل به؛ ثم أظهر النصفة والعدل إيثاقًا لربط قومه فقال: {فاجعل بيننا وبينك موعدًا} أي من الزمان والمكان {لا نخلفه} أي لا نجعله خلفنا {نحن ولا أنت} بأن نقعد عن إتيانه.
ولما كان من الزمان والمكان لا ينفك عن الآخر قال: {مكانًا} وآثر ذكر المكان لأجل وصفه بقوله: {سوى} أي عدلًا بيننا، لا حرج على واحد منا في قصده أزيد من حرج الآخر، فانظر هذا الكلام الذي زوقه وصنعه ونمقه فأوقف به قومه عن السعادة واستمر يقودهم بأمثاله حتى أوردهم البحر فأغرقهم، ثم في غمرات النار أحرقهم، فعلى الكيس الفطن أن ينقد الأقوال والأفعال، والخواطر والأحول، ويعرضها على محك الشرع: الكتاب والسنة، فما وافق لزمه وما لا تركه.
ولما كان مجتمع سرورهم الذي اعتادوه حاويًا لهذه الأغراض زمانًا ومكانًا وغيرهما، اختاره عليه السلام لذلك، فاستؤنف الخبر عنه في قوله تعالى: {قال موعدكم} أي الموصوف {يوم الزينة} أي عيدكم الذي اعدتم الاجتماع فيه في المكان الذي اعتدتموه، فآثر هنا ذكر الزمان وإن كان يتضمن المكان لما فيه من عادة الجمع كما آثر فيما تقدم المكان لوصفه بالعدل {وأن يحشر} بناه للمفعول لأن القصد الجمع، لا كونه من معين {الناس} أي إغراء ولو بكره {ضحى} ليستقبل النهار من أوله، فيكون أظهر لما يعمل وأجلى، ولا يأتي الليل إلا وقد قضي الأمر، وعرف المحق من المبطل، وأنتم أجمع ما تكونون وأفرغ، فيكل حد المبطلين وأشياعهم، والمتكبرين على الحق وأتباعهم، ويكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر {فتولى فرعون} عن موسى إلى تهيئة ما يريد من الكيد بعد توليه عن الانقياد لأمر الله {فجمع كيده} أي مكره وحيلته وخداعه، الذي دبره على موسى بجمع من يحصل بهم الكيد، وهم السحرة، حشرهم من كل أوب، وكان أهل مصر أسحر أهل الأرض وأكثرهم ساحرًا، وكانوا في ذلك الزمان أشد اعتناء بالسحر وأمهر ما كانوا وأكثر {ثم أتى} للميعاد الذي وقع القرار عليه بمن حشره من السحرة والجنود ومن تبعهم من الناس، مع توفر الدواعي على الإتيان للعيد، والنظر إلى تلك المغالبة التي لم يكن مثلها. اهـ.