فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)}.
أظهر القولين أن الإضافة في قوله: {آيَاتِنا} مضمنة معنى العهد كالألف واللام. والمراد بآياتنا المعهودة لموسى كلها وهي التسع المذكورة في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] الآية، وقوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سواء فِي تِسْعِ آيَاتٍ إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل: 12] الآية. وقال بعضهم: الآيات التسع المذكورة هي: العصا، واليد البيضاء، وفلق البحر، والحجر الذي انفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظلة. وقد قدمنا كلام أهل العلم في الآيات التسع في سورة الإسراء. وقال بعض أهل العلم: العموم على ظاهره، وإن الله أرى فرعون جميع الآيات التي جاء بها موسى، والتي جاء بها غيره من الأنبياء، وذلك بأن عرفه موسى جميع معجزاته ومعجزات سائر الأنبياء. والأول هو الظاهر.
وقد بين جل وعلا في غير هذا الموضع: أن الآيات التي أراها فرعون وقومه بعضها أعظم من بعض، كما قال تعالى في سورة الزخرف: {وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} [الزخرف: 48]، وقوله: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى} [النازعات: 20] لأن الكبرى في الموضعين تأنيث الأكبر، وهي صيغة تفضيل تدل على أنها أكبر من غيرها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَكَذَّبَ وأبى} يعني أنه مع ما أراه الله من الآيات المعجزات الدالة على صدق نبيه موسى، كذب رسول ربه موسى، وأبى عن قبول الحق. وقد أوضح جل وعلا في غير هذا الموضع شدة إبائه وعناده وتكبره على موسى في مواضع كثيرة من كتابه. كقوله: {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 132]، وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ} [الزخرف: 47] وقوله: {قَالَ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} [الشعراء: 29]، وقوله تعالى: {ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ ياقوم أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتيا أَفَلاَ تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف: 51-53].
ومقصوده بذلك كله تعظيم أمر نفسه وتحقير أمر موسى، وأنه لا يمكن أن يتبع الفاضل المفضول.
وقد بين جل وعلا: أن فرعون كذب وأبى، وهو عالم بأن ما جاء به موسى حق. وأن الآيات التي كذب بها وأبى عن قبولها ما أنزلها إلا الله، وذلك في قوله تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]. وقوله: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُورًا} [الإسراء: 102] إلى غير ذلك من الآيات. وقوله: {أَرَيْنَاهُ} أصله من رأى البصرية على الصحيح.
{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لما رأى فرعون آياته على يد نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال: إن الآيات التي جاء بها موسى سحر، وأنه يريد بها إخراج فرعون وقومه من أرضهم.
أما دعواه هو وقومه أن موسى ساحر فقد ذكره الله جل وعلا في مواضع كثيرة من كتابه. كقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قالوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} [يونس: 76]، وقوله: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} [طه: 71]، وقوله: {وَقَالُواْ يا أيها الساحر ادع لَنَا رَبَّكَ} [الزخرف: 49] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما ادعاؤهم أنه يريد إخراجهم من أرضهم بالسحر فقد ذكره الله جل وعلا أيضًا في مواضع من كتابه. كقوله تعالى في هذه السورة: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ياموسى} [طه: 57]، وقوله في الأعراف: {قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف: 109-110]، وقوله في الشعراء: {قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء: 34-35]، وقوله في يونس: {قالوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء فِي الأرض} [يونس: 78] الآية، وقال سحرة فرعون: {قالوا إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى} [طه: 63].
قوله تعالى: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن فرعون لعنه الله، لما رأى آيات الله ومعجزاته الباهرة، وادعى أنها سحر أقسم ليأتين موسى بسحر مثل آيات الله التي يزعم هو أنها سحر. وقد بين في غير هذا الموضع: أن إتيانهم بالسحر وجمعهم السحرة كان عن اتفاق ملئهم على ذلك. كقوله في الأعراف: {قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف: 109-112]. وقوله في الشعراء: {قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [الشعراء: 34-37]، لأن قوله: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} في الموضعين يدل على أن قول فرعون {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ} وقع بعد مشاورة واتفاق الملأ منهم على ذلك.
قوله تعالى: {فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَانًا سُوًى قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن فرعون لما وعد موسى بأنه يأتي بسحر مثل ما جاء به موسى في زعمه قال لموسى {فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ} والإخلاف: عدم إنجاز الوعد. وقرر أن يكون مكان الاجتماع للمناظرة وللمغالبة في السحر في زعمه مكانًا سُوىً. وأصح الأقوال في قوله: {سُوًى} أصله من الاستواء. لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين لا تفاوت فيها بل هي مستوية. وقوله: {سُوًى} فيه ثلاث لغات: الضم، والكسر مع القصر، وفتح السين مع المد. والقراءة بالأُولَيين دون الثالثة هنا ومن القراءة بالثالثة {تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] ومن إطلاق العرب {مَكَانًا سُوًى} على المكان المتوسط بين الفريقين قول موسى بن جابر الحنفي، وقد أنشده أبو عبيدة شاهدًا لذلك:
وإن أبانا كان حل ببلدة ** سوى بين قيس قيس عيلان والفزر

والفزر: سعد بن زيد مناة بن تميم. يعني حل ببلدة مستوية مسافتها بين قيس عيلان والفزر. وأن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أجاب فرعون إلى ما طلب منه من الموعد، وقرر أن يكون وقت ذلك يوم الزينة. وأقوال أهل العلم في يوم الزينة راجعة إلى أنه يوم معروف لهم، يجتمعون فيه ويتنزينون. سواء قلنا: إنه يوم عيد لهم، أو يوم عاشوراء، أو يوم النيروز، أو يوم كانوا يتخذون فيه سوقًا ويتزينون فيه بأنواع الزينة.
قال الزمخشري: وإنما واعدهم موسى ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وظهر دينه، وكبت الكافر وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد في المجمع الغاص لتوي رغبة من رغب في اتباع الحق، ويَكل حد المبطلين وأشياعهم، ويكثر المحدث بذلك الأمر.
ليُعلم في كل بَدْو وحَضَر، ويشيع في جميع أهل الوبر والحضر. اهـ منه. والمصدر المنسبك من {أَنْ} وصلتها في قوله: {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} في محل جر عطفًا على {الزينة} أي موعدكم يوم الزينة وحشر الناس، أو في محل رفع عطفًا على قوله: {يَوْمُ الزينة} على قراءة الجمهور بالرفع. والحشر: الجمع والضحى: من أول النهار حين تشرق الشمس. والضحى يذكّر ويؤنث. فمن أنثه ذهب إلى أنه جمع ضحوة. ومن ذكّره ذهب إلى أنه اسم مفرد جاء على فعل بضم ففتح كصرد وزفر. وهو منصرف إذا لم ترد ضحى يوم معين بلا خلاف. وإن أردت ضحى يومك المعين فقيل يمنع من الصرف كسحر. وقيل لا.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من كون المناظرة بين موسى والسحرة عين لوقتها يوم معلوم يجتمع الناس فيه. ليعرفوا الغالب من المغلوب أشير له في غير هذا الموضع. كقوله تعالى في الشعراء: {فَجُمِعَ السحرة لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين} [الشعراء: 38-40].
فقوله تعالى: {لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ}.
اليوم المعلوم: هو يوم الزينة المذكور هنا. وميقاته وقت الضحى منه المذكور في قوله: {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى}.
تنبيه:
اعلم أن في تفسير هذه الآية الكريمة أنواعًا من الإشكال معروفة عند العلماء، وسنذكر إن شاء الله تعالى أوجه الإشكال فيها، ونبين إزالة الإشكال عنها.
اعلم أولًا أن الفعل الثلاثي إن كان مثالًا أعني واوي الفاء كوعد ووصل، فالقياس في مصدره الميمي واسم مكانه وزمانه كلها المفعل بفتح الميم وكسر العين ما لم يكن معتل اللام. فإن كان معتلها فالقياس فيه المفعل بفتح الميم والعين كما هو معروف في فن الصرف.
فإذا علمت ذلك، فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} صالح بمقتضى القياس الصرفي لأن يكون مصدرًا ميميًا بمعنى الوعد، وأن يكون اسم زمان يُراد به وقت الوعد، وأن يكون اسم مكان يراد به مكان الوعد. ومن إطلاق الموعد في القرآن اسم زمان قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 43] أي مكان وعدهم بالعذاب.
وأوجه الإشكال في هذا أن قوله: {لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ} يدل على أن الموعد مصدر. لأن الذي يقع عليه الإخلاف هو الوعد لا زمانه ولا مكانه.
وقوله تعالى: {مَكَانًا سُوًى}.
يدل على أن الموعد في الآية اسم مكان.
وقوله: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} يدل على أن الموعد في الآية اسم زمان. فإن قلنا إن الموعد في الآية مصدر أشكل على ذلك ذكر المكان في قوله: {لاَّ نُخْلِفُهُ} لأن نفس المكان لا يخلف وإنما يخلف الوعد، وأشكل عليه أيضًا قوله: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة}.
وإن قلنا: إن الموعد اسم زمان أشكل عليه أيضًا قوله: {لاَّ نُخْلِفُهُ}، وقوله: {مَكَانًا سُوًى} هذه هي أوجه الإشكال في هذه الآية الكريمة. وللعلماء عن هذا أجوبة منها ما ذكره الزمخشري في الكشاف قال: لا يخلو الموعد في قوله: {فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} من أن يجعل زمانًا أو مكانًا أو مصدرًا. فإن جعلته زمانًا نظرًا في أن قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} إلى أن قال: فبقي أن يُجعل مصدرًا بمعنى الوعد ويُقدر مضاف محذوف، أي مكان الوعد، ويجعل الضمير في {نُخْلِفُهُ} للموعد و{مَكَانًا} بدل من المكان المحذوف.
فإن قلت: كيف طابقه قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} ولابد من أن تجعله زمانًا والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان؟
قلت: هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظًا. لأنهم لابد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه مشتهر باجتماعهم فيه في ذلك اليوم. فبذكر الزمان عُلم المكان. انتهى محل الغرض منه. ولا يخفى ما في جوابه هذا من التعسف والحذف والإبدال من المحذوف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر ما أُجيب به عما ذكرنا من الإشكال عندي في هذه الآية الكريمة أن فرعون طلب من موسى تعيين مكان الموعد، وأنه يكون مكانًا سُوًى. أي وسطًا بين أطراف البلد كما بينا. وأن موسى وافق على ذلك وعين زمان الوعد وأنه يوم الزنية ضُحى. لأن الوعد لابد له من مكان وزمان. فإذا علمت ذلك فاعلم أن الذي يترجح عندي المصير إليه هو قول من قال في قوله: {فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} إنه اسم مكان أي مكان الوعد، وقوله: {مَكَانًا} بدل من قوله موعدًا. لأن الموعد إذا كان اسم مكان صار هو نفس المكان فاتضح كون {مَكَانًا} بدلًا. ولا إشكال في ضمير {نُخْلِفُهُ} على هذا. ووجه إزالة الإشكال عنه أن المعروف في فن الصرف: أن اسم المكان مشتق من المصدر كاشتقاق الفعل منه، فاسم المكان ينحل عن مصدر ومكان. فالمنزل مثلًا مكان النزول، والمجلس مكان الجلوس، والموعد مكان الوعد. فإذا اتضح لك أن المصدر كامن في مفهوم اسم المكان فالضمير في قوله: {لاَّ نُخْلِفُهُ} راجع للمصدر، و{مَكَانًا} منصوب بفعل دل عليه الموعد. أي عدنا مكانًا سوى. ونصب المكان بأنه مفعول المصدر الذي هو {مَوْعِدًا} أو أحد مفعولي {فاجعل} غير صواب فيما يظهر لي والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {مَكَانًا سُوًى} قرأه ابن عامر وعاصم وحمزة: {سوى} بضم السين والباقون بكسرها. ومعنى القراءتين واحد كما تقدم.
{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)}.
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة {فتولى فِرْعَوْنُ} قال بعض العلماء: معناه فتولى فرعون، انصرف مدبرًا من ذلك المقام ليهيئ ما يحتاج إليه مما تواعد عليه هو وموسى. ويدل لهذا الوجه قوله تعالى في سورة النازعات في القصة بعينها {ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى فَحَشَرَ فنادى} [النازعات: 22-23] وقوله: {فَحَشَرَ} أي جمع السحرة.
وقال بعض العلماء: معنى قوله: {فتولى فِرْعَوْنُ} أي أعرض عن الحق الذي جاء به موسى. ومن معنى هذا الوجه قوله تعالى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى} [طه: 48].
وقوله تعالى: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} هو جمعه للسحرة من أطراف مملكته، ويدل على هذا أمران: أحدهما تسمية السحر في القرآن كيدًا. كقوله: {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه: 69] الآية، وقوله تعالى عن السحرة: {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ} [طه: 64] وكيدهم سحرهم. الثاني أن الذي جمعه فرعون هو السحرة كما دلت عليه آيات من كتاب الله. كقوله تعالى في الأعراف: {وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف: 111-112]. وقوله: {حَاشِرِينَ} أي جامعين يجمعون السحرة من أطراف مملكته، وقوله في الشعراء: {وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السحرة لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: 36-38] وقوله في يونس: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [يونس: 79].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {ثُمَّ أتى} أي جاء فرعون بسحرته للميعاد ليغلب نبي الله موسى بسحره في زعمه. اهـ.