فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الرابع: أن إن ملغاة وإن كانت مشددة حملا لها على المخففة وذلك كما أعملت المخففة حملا لها عليها في قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلًا لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ} [هود: 111] أو حطًا لرتبتها عن الفعل لأن عملها ليس بالأصالة بل بالشبه له وما بعدها مبتدأ وخبر وإلى ذلك ذهب علي بن عيسى.
وفيه أن هذا الإلغاء لم ير في غير هذا الموضع وهو محل النزاع وبحث اللام فيه بحالة.
الخامس: وهو أجود الوجوه وأوجهها.
واختاره أبو حيان وابن مالك والأخفش وأبو علي الفارسي وجماعة أنها الناصبة.
واسم الإشارة اسمها: واللام لام الابتداء و{ساحران} خبرها؛ ومجىء اسم الإشارة بالألف مع أنه منصوب جار على لغة بعض العرب من إجراء المثنى بالألف دائمًا قال شاعرهم:
واها لريا ثم واها واها ** يا ليت عيناها لنا وفاها

وموضع الخلخال من رجلاها ** بثمن نرضى به أباها

وقال الآخر:
وأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ** مساغًا لنا باه الشجاع لصمما

وقالوا: ضربته بين أذناه ومن يشتري الخفان وهي لغة الكنانة حكى ذلك أبو الخطاب ولبني الحرث بن كعب. وخثعم، وزبيد، وأهل تلك الناحية حكى ذلك الكسائي، ولبني العنبر، وبني الهيجم، ومراد وعذرة.
وقال أبو زيد: سمعت من العرب من يقلب كل ياء ينفتح ما قبلها ألفًا، وابن الحاجب يقول: إن {يَشَاء هذان} مبني لدلالته على معنى الإشارة.
وإن قول الأكثرين هذين جرًا ونصبًا ليس إعرابًا أيضًا.
قال ابن هشام: وعلى هذا فقراءة هذان أقيس إذ الأصل في المبنى أن لا تختلف صيغته مع أن فيها مناسبة لألف {ساحران} اهـ.
وأما الخبر السابق عن عائشة فقد أجاب عنه ابن أشته وتبعه ابن جبارة في شرح الرائية بأن قولها: اخطؤا على معنى أخطؤا في اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه لا أن الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز فإن ما لا يجوز من كل شيء مردود بالإجماع وإن طالت مدة وقوعه وبنحو هذا يجاب عن أخبار رويت عنها أيضًا.
وعن ابن عباس في هذا الباب تشكل ظواهرها. ثم أخرج عن إبراهيم النخعي أنه قال: إن هذان لساحران وإن هذين لساحران سواء لعلهم كتبوا الألف مكان الياء يعني أنه من إبدال حرف في الكتابة بحرف كما وقع في صلاة وزكاة وحياة.
ويرد على هذا أنه إنما يحسن لو كانت القراءة بالياء في ذلك. ثم أنت تعلم أن الجواب المذكور لا يحسم مادة الإشكال لبقاء تسمية عروة ذلك في السؤال لحنًا اللهم إلا أن يقال: أراد باللحن اللغة كما قال ذلك ابن اشته في قول ابن جبير المروي عنه بطرق في {والمقيمين الصلاة} [النساء: 162] هو لحن من الكاتب أو يقال: أراد به اللحن بحسب بادىء الرأي: وابن الأنباري جنح إلى تضعيف الروايات في هذا الباب ومعارضتها بروايات أخر عن ابن عباس وغيره تدل على ثبوت الأحرف التي قيل فيها ما قيل في القراءة.
ولعل الخبر السابق الذي ذكر أنه صحيح الإسناد على شرط الشيخين داخل في ذلك لكن قال الجلال السيوطي: إن الجواب الأول الذي ذكره ابن اشته أولى وأقعد.
وقال العلاء فيما أخرجه ابن الأنباري وغيره عن عكرمة قال: لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان فوجد فيها حروفًا من اللحن فقال: لا تغيروها فإن العرب ستغيرها أو قال: ستقرؤها بألسنتها لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف إن ذلك لا يصح عن عثمان فإن إسناده ضعيف مضطرب منقطع.
والذي أجنح أنا إليه والعاصم هو الله تعالى تضعيف جميع ما ورد مما فيه طعن بالمتواتر ولم يقبل تأويلًا ينشرح له الصدر ويقبله الذوق وإن صححه من صححه.
والطعن في الرواة أهون بكثير من الطعن بالأئمة الذين تلقوا القرآن العظيم الذي وصل إلينا بالتواتر من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يألوا جهدًا في إتقانه وحفظه.
وقد ذكر أهل المصطلح أن مما يدرك به وضع الخبر ما يؤخذ من حال المروى كان يكون مناقضًا لنص القرآن أو السنة المتواترة أو الإجماع القطعي أو صريح العقل حيث لا يقبل شيء من ذلك التأويل أو لم يحتمل سقوط شيء منه يزول به المحذور فلو قال قائل بوضع بعض هاتيك الأخبار لم يبعد والله تعالى أعلم.
وقرأ أبو عمرو {إن} بتشديد نون {إن} وبالياء في {هذين}.
وروي ذلك عن عائشة والحسن والأعمش والنخعي والجحدري وابن جبير وابن عبيد وإعراب ذلك واضح إذ جاء على المهيع المعروف في مثله لكن في الدر المصون قد استشكلت هذه القراءة بأنها مخالفة لرسم الإمام فإن اسم الإشارة فيه بدون ألف وياء فإثبات الياء زيادة عليه.
ولذا قال الزجاج: أنا لا أجيزها وليس بشيء لأنه مشترك الإلزام ولو سلم فكم في القراءات ما خالف رسمه القياس مع أن حذف الألف ليس على القياس أيضًا.
{لساحران يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ} أي أرض مصر بالاستيلاء عليها {بِسِحْرِهِمَا} الذي أظهراه من قبل، ونسبة ذلك لهارون لما أنهم رأوه مع موسى عليهما السلام سالكًا طريقته وهذه الجملة صفة أو خبر بعد خبر.
{وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى} أي بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب وأمثلها بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما يريدون به ما كان عليه قوم فرعون لا طريقة السحر فإنهم ما كانوا يعتقدونه دينًا.
وقيل: أرادوا أهل طريقتكم فالكلام على تقدير مضاف والمراد بهم بنو إسرائيل لقول موسى عليه السلام: {أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسرائيل} [طه: 47] وكانوا أرباب علم فيما بينهم.
وأخرج ذلك ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس وتعقب بأن إخراجهم من أرضهم إنما يكون بالاستيلاء عليها تمكنًا وتصرفًا فكيف يتصور حينئذٍ نقل بني إسرائيل إلى الشام.
وحمل الإخراج على إخراج بني إسرائيل منها مع بقاء قوم فرعون على حالهم مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله، على أن هذه المقالة منهم للإغراء بالمبالغة في المغالبة والاهتمام بالمناصبة فلابد أن يكون الإنذار والتحذير بأشد المكاره وأشقها عليهم، ولا ريب في أن إخراج بني إسرائيل من بينهم والذهاب بهم إلى الشام وهم آمنون في ديارهم ليس فيه كثير محذور وهو كلام يلوح عليه مخايل القبول فلعل الخبر عن الحبر لا يصح.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم أيضًا عن مجاهد أن الطريقة اسم لوجوه القوم وأشرافهم.
وحكى فلان طريقة قومه أي سيدهم، وكأن إطلاق ذلك على الوجوه مجاز لاتباعهم كما يتبع الطريق.
وأخرجا عن علي كرم الله تعالى وجهه أن إطلاق ذلك عليهم بالسريانية، وكأنهم أرادوا بهؤلاء الوجوه الوجوه من قوم فرعون أرباب المناصب وأصحاب التصرف والمراتب فيكونوا قد حذروهم بالإخراج من أوطانهم وفصل ذوي المناصب منهم عن مناصبهم وفي ذلك غاية الذل والهوان ونهاية حوادث الزمان، فما قيل: إن تخصيص الإذهاب بهم مما لا مزية فيه ليس بشيء، وقيل: إنهم أرادوا بهم بني إسرائيل أيضًا لأنهم كانوا أكثر منهم نشبًا وأشرف نسبًا وفيه ما مر آنفًا، واعترض أيضًا بأنه ينافيه استعبادهم واستخدامهم وقتل أولادهم وسومهم العذاب.
وأجيب بالمنع فكم من متبوع مقهور وشريف بأيدي الأنذال مأسور وهو كما ترى.
{فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ} تصريح بالمطلوب إثر تمهيد المقدمات والفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين يريدان بكم ما يريدان فأزمعوا كيدكم واجعلوه مجمعًا عليه بحيث لا يتخلف عنه منكم أحد وارموا عن قوس واحدة.
وقرأ الزهري وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب في رواية وأبو حاتم {فَأَجْمِعُواْ} بوصل الهمزة وفتح الميم من الجمع.
ويعضده قوله تعالى: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} [طه: 60] وفي الفرق بين جمع وأجمع كلام للعلماء.
قال ابن هشام: إن أجمع يتعلق بالمعاني فقط وجمع مشترك بين المعاني والذوات.
وفي عمدة الحفاظ حكاية القول بأن أجمع أكثر ما يقال في المعاني وجمع في الأعيان فيقال: أجمعت أمري وجمعت قومي وقد يقال بالعكس.
وفي المحكم أنه يقال: جمع الشيء عن تفرقة يجمعه جمعًا وأجمعه فلم يفرق بينهما، وقال الفراء: إذا أردت جمع المتفرق قلت: جمعت القوم فهم مجموعون وإذا أردت جمع المال قلت جمعت بالتشديد ويجوز تخفيفه والإجماع الأحكام والعزيمة على الشيء ويتعدى بنفسه وبعلى تقول: أجمعت الخروج وأجمعت على الخروج، وقال الأصمعي: يقال جمعت الشيء إذا جئت به من هنا ومن هنا وأجمعته إذا صيرته جميعًا، وقال أبو الهيثم: أجمع أمره أي جعله جميعًا وعزم عليه بعد ما كان متفرقًا وتفرقته أن يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا والجمع أن يجمع شيئًا إلى شيء، وقال الفراء: في هذه الآية على القراءة الأولى أي لا تدعوا شيئًا من كيدكم إلا جئتم به {ثُمَّ ائتوا صَفًّا} أي مصطفين أمروا بذلك لأن أهيب في صدور الرائين وأدخل في استجلاب الرهبة من المشاهدين.
قيل: كانوا سبعين ألفًا مع كل منهم حبل وعصا وأقبلوا عليه عليه السلام إقبالة واحدة، وقيل: كانوا اثنين وسبعين ساحرًا اثنان من القبط والباقي من بني إسرائيل، وقيل: تسعمائة ثلاثمائة من الفرس وثلاثمائة من الروم وثلاثمائة من الإسكندرية، وقيل: خمسة عشر ألفًا، وقيل بضعة وثلاثين ألفًا، ولا يخفى حال الإخبار في ذلك والقلب لا يميل إلى المبالغة والله تعالى أعلم، ولعل الموعد كان مكانًا متسعًا خاطبهم موسى عليه السلام بما ذكر في قطر من أقطاره وتنازعوا أمرهم في قطر آخر منه ثم أمروا أن يأتوا وسطه على الحال المذكورة، وقد فسر أبو عبيدة الصف بالمكان الذي يجتمعون فيه لعيدهم وصلواتهم وفيه بعد، وكأنه علم لموضع معين من مكان يوم الزينة، وعلى هذا التفسير يكون {صَفَّا} مفعولًا به.
وقرأ شبل بن عباد وابن كثير في رواية شبل عنه {ثُمَّ} بكسر الميم وإبدال الهمزة ياء.
قال أبو علي: وهذا غلط ولا وجه لكسر الميم من ثم، وقال صاحب اللوامح: إن ذلك لالتقاء الساكنين كما كانت الفتحة في قراءة العامة كذلك {صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى} اعتراض تذييلي من قبلهم مؤكد لما قبله من الأمرين أي قد فاز بالمطلوب من غلب.
فاستفعل بمعنى فعل كما في الصحاح أو من طلب العلو والغلب وسعى سعيه على ما في البحر فاستفعل على بابه، ولعله أبلغ في التحريض حيث جعلوا الفوز لمن طلب الغلب فضلًا عمن غلب بالفعل وأرادوا بالمطلوب ما وعدهم فرعون من الأجر والتقريب حسبما نطق به قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين} [الأعراف: 114] وبمن استعلى أنفسهم جميعًا على طريقة قولهم {بعزة فرعون إنا لَنَحْنُ الغالبون} [الشعراء: 44] أو من استعلى منهم حثًا على بذل المجهود في المغالبة.
وقال الراغب: الاستعلاء قد يكون لطلب العلو المذوم وقد يكون لغيره وهو هاهنا يحتملهما فلهذا جاز أن يكون هذا الكلام محكيًا عن هؤلاء القائلين للتحريض على إجماعهم واهتمامهم وأن يكون من كلام الله عز وجل فالمستعلى موسى وهارون عليهما السلام ولا تحريض فيه وأنت تعلم أن الظاهر هو الأول. اهـ.

.قال القاسمي:

{قَالَ لَهُمْ مُوسَى}.
أي: مقدمًا لهم النصح والإنذار، لينقطع عذرهم: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي: لا تخيلوا للناس بأعمالكم، إيجاد أشياء لا حقائق لها، وأنها مخلوقة وليست مخلوقة. فتكونوا قد كذبتم على الله تعالى: {فَيُسْحِتَكُمْ} أي: يستأصلكم: {بِعَذَابٍ} أي: هائل لغضبه عليكم: {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قَالُوا} أي: بطريق التناجي والإسرار: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} أي: بمذهبكم الأفضل. وهو ما كانوا عليه. يعنون أن قصد موسى وهارون هو عزل فرعون عن ملكه، يجعله عبدًا لغيره، واستقرارهما في مكانه، وجعل قومهما مكانكم. وإلجائكم إلى مبارحة أرضكم، وإبطال طريقتكم بسحرهما الذي يريدان إعجازكم به. و: {الْمُثْلَى} تأنيث الأمثل، بمعنى الأفضل. ودعواهم ذلك، لأن كل حزب بما لديهم فرحون.
لطيفة في قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} قراءات:
الأولى: {إِنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ} بتشديد النون من إِنَّ وهَذَيْنِ بالياء وهي قراءة أبي عَمْرو، وهي جارية على السَّنَنِِ المشهور في عمل إِنَّ.
الثانية: {إنِْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} بتحفيف إِنَّ وإهمالها عن العمل، كما هو الأكثر فيها إذا خففت. وما بعدها مرفوع بالابتداء والخبر. واللام لام الابتداء فرقًا بينها وبين النافية. ويرى الكوفيون أن اللام هذه بمعنى إِلاّ وإِنْ قبلها نافية، واستدلوا على مجيء اللام للاستثناء بقوله:
أمس أبانُ ذليلًا بعد عِزَّتِهِ ** وما أبانُ لَمِنْ أعلاج سُودَانِ

والثالثة: {إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} بتشديد إِنَّ وهذان بالألف. وخرّجت على أوجه:
أحدها: موافقة لغة من يأتي في المثنى بالألف في أحواله الثلاث. وهم بنو الحارث بن كعب وخثعم وَزُبَيْد وكنانة وآخرون. قال قائلهم:
تَزَوَّدَ مِنَّا بين أُذْنَاهُ طَعْنَةً

وقال آخر:
إنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا ** قد بلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَا

وثانيها: إِنَّ إِنَّ بمعنى نعم حكاه المبرد. واستدل بقول الراجز:
يا عمر الخيرِ جُزِيتَ الجَنَّهْ ** اكسُ بُنَيَّانِي وَأُمَّهُنَّهْ

وَقُلْ لَهُنَّ إِنَّ أَنَّ إِنَّهْ ** أُقْسِمُ باللهِ لَتَفْعَلَنَّهْ

وقول عبد الله بن قيس الرُّقَيَّات:
ويَقُلْنَ شيب قد علا ** ك وقد كَبرْتَ فقلتُ إِنَّهُ

وردَّ على المبرد أبو علي الفارسي، بأنه لم يتقدم ما يجاب بنعم وأجاب الشمنّي، بأن التنازع فيما بينهم، وإسرار النجوى، يتضمن استخبار بعضهم من بعض. فهو جواب للاستخبار الضمنيّ. ولا يخفى بعده. فإن إسرار النجوى فيما بينهم ليس في الاستخبار عن كونهما ساحرين، بل هم جزموا بالسحر فقالوا: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ} (57)، ثم أسروا النجوى فيما يغلبان به موسى. إلا أن يقال: محطّ الجواب قوله: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ}.. إلخ، وما قبله توطئة. وقد رد في المغني هذا التخريج؛ بأن مجيء نعم شاذ حتى نفاه بعضهم. ومنعه الدمامينيّ؛ بأن سيبويه والحذّاق حكوه عن الفصحاء. وعليه، فاللام في: {لَسَاحِرانِ} لام الابتداء، زحلقت للخبر. وأبى البصريون دخولها على الخبر. وزعموا أنها في مثله داخلة على مبتدأ محذوف، أو زائدة، أو دخلت مع إن التي بمعنى نعم لشبهها بالمؤكدة لفظًا.
وأقول: فيه تكلف. والشواهد على اقتران الخبر باللام كثيرة.
وثالثها: أنه لما كان الإعراب لا يظهر في الواحد، وهو هذا جعل كذلك في التثنية، ليكون المثنى كالمفرد. لأنه فرع عليه. واختار هذا القول الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى، وزعم أن بناء المثنى، إذا كان مفرده مبنيًّا، أفصح من إعرابه. قال: وقد تفطن لذلك غير واحد من حذاق النحاة. ثم اعترض بأمرين:
أحدهما: أن السبعة أجمعوا عل الياء في قوله تعالى: {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص: 27]، مع أن هاتين تثنية هاتا وهو مبني.
والثاني: أن الذي مبني وقد قالوا في تثنيته اللَّذَيْنِ في الجر والنصب. وهي لغة القرآن، كقوله تعالى: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا} [فصلت: 29]، وأجاب الأول؛ بأنه إنما جاء هاتين بالياء على لغة الإعراب لمناسبة ابنتيّ قال: فالإعراب هنا أفصح من البناء، لأجل المناسبة. كما أن البناء في: {إِنّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} أفصح من الإعراب لمناسبة الألف في هذان للألف في ساحران. وأجاب عن الثاني بالفرق بين اللذان وهذان بأن اللَّذان تثنية اسم ثلاثي، فهو شبيه بالزيدان وهذان تثنية اسم على حرفين. فهو عريق في البناء لشبهه بالحروف. قال رحمه الله: وقد زعم قوم أن قراءة من قرأ إنّ هذان لحن وإن عثمان رضي الله عنه قال: إن في المصحف لحنًا وستقيمه العرب بألسنتها. وهذا خبر باطل لا يصح من وجوه:
أحدها: إن الصحابة كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات، فكيف يقرّون اللحن في القرآن، مع أنهم لا كلفة عليهم في إزالته؟.
والثاني: أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام، فكيف لا يستقبحون بقاءه في المصحف؟.
والثالث: أن الاحتجاج بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم. لأن المصحف الكريم يقف عليه العربي والعجمي.
والرابع: أنه قد ثبت في الصحيح أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب التابوت بالهاء على لغة الأنصار، فمنعوه من ذلك ورفعوه إلى عثمان رضي الله عنهم. فأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لغة قريش. ولما بلغ عمر رضي الله عنه أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ: عَتَّى حين، على لغة هذيل، أنكر ذلك عليه وقال: أقرئ الناس بلغة قريش. فإن الله تعالى إنما أنزله بلغتهم، ولم ينزله بلغة هذيل. انتهى كلام تقي الدين مخلصًا.
هذا حاصل ما في المغني والشذور وحواشيهما وفي الآية وجوه أخرى استقصتها المطولات. وما ذكرناه أرقها. وقوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} تصريح بالمطلوب، إثر تمهيد المقدمات. والفاء فصيحة. أي إذا كان الأمر كما ذكر، من كونهما ساحرين، يريدان بكم ما ذكر من الإخراج، والإذهاب، فأزمعوا كيدكم واجعلوه مجمعًا عليه، بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم. أفاده أبو السعود. وقوله تعالى: {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} أي: مصطفين، ليكون أهيب في صدور الرائين: {وَقَدْ أَفْلَحَ} أي: فاز بالإنعامات العظيمة من فرعون وملئه: {الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} أي: علا وغلب. اهـ.