فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{قَالُواْ} استئنافٌ مبنيٌ على سؤال ناشىءٍ من حكاية ما جرى بين السحرة من المقارنة، كأنه قيل: فماذا فعلوا بعد ما قالوا فيما بينهم ما قالوا؟ فقيل: قالوا: {يا موسى} وإنما لم يتعرض لإجماعهم وإتيانِهم بطريق الاصطفافِ إشعارًا بظهور أمرِهما وغناهما عن البيان {إِمَّا أَن تُلْقِىَ} أي ما تُلقيه أولًا على أن المفعولَ محذوفٌ لظهوره أو تفعل الإلقاءَ أولًا على أن الفعلَ منزّلٌ منزلةَ اللازم {وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى} ما يُلقيه أو أولَ من يفعل الإلقاءَ، خيّروه عليه الصلاة والسلام بما ذُكر مراعاةً للأدب لِما رأَوا منه عليه الصلاة والسلام ما رأَوا من مخايل الخيرِ ورزانةِ الرأْي وإظهارًا للجلادة بإراءة أنه لا يختلف حالُهم بالتقديم والتأخير، وأنْ مع ما في حيزها منصوبٌ بفعل مضمر أو مرفوعٌ بخبرية مبتدأ محذوفٍ أي اخترْ إلقاءَك أولًا أو إلقاءَنا، أو الأمرُ إما إلقاؤُك أو إلقاؤنا.
{قَالَ} استئنافٌ كما سلف ناشىءٌ من حكاية تخييرِ السحرةِ إياه عليه الصلاة والسلام، كأنه قيل: فماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ فقيل: قال: {بَلْ أَلْقُواْ} أنتم أولًا مقابلةً للأدب بأحسنَ مِنْ أدبهم حيث بتّ القولَ بإلقائهم أولًا، وإظهارًا لعدم المبالاةِ بسحرهم ومساعدةً لما أوهموا من الميل إلى البدء وليبُرِزوا ما معهم ويستفرغوا أقصى جُهدِهم ويستنفدوا قُصارى وُسعِهم، ثم يظهر الله عز وجل سلطانَه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه لمّا علم أن ما سيظهر بيده سيلقَف ما يصنعون من مكايد السحر.
{فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} الفاءُ فصيحة معربة عن مسارعتهم إلى الإلقاء كما في قوله تعالى: {أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق} أي فألقَوا فإذا حبالُهم وهي للمفاجأة والتحقيقُ أنها أيضًا ظرفيةٌ تستدعي متعلَّقًا ينصِبها وجملةً تضاف إليها، ولكنها خُصت بكون متعلَّقِها فعلَ المفاجأة والجملةُ ابتدائيةٌ، والمعنى فألقَوا ففاجأ موسى عليه الصلاة والسلام وقت أن يُخيَّل إليه سعيُ حبالِهم وعِصِيِّهم من سحرهم وذلك أنهم كانوا لطّخوها بالزئبق فلما ضربت عليها الشمسُ اضطربت واهتزت فخُيل إليه أنها تتحرك، وقرئ تُخيِّل بالتاء على إسناده إلى ضمير الحبال والعِصِيّ وإبدالِ {أنها تسعى} منه بدلَ اشتمالٍ، وقرئ يُخيِّل بإسناده إليه تعالى، وقرئ تَخَيَّل بحذف إحدى التاءين من تتخيل {فَأَوْجَسَ في نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} أي أضمر فيها بعضَ خوفٍ من مفاجأته بمقتضى البشريةِ المجبولةِ على النفْرة من الحيّات والاحترازِ من ضررها المعتاد من اللسْع ونحوِه، وقيل: من أن يخالج الناسَ شكٌّ فلا يتبعوه وليس بذاك كما ستعرفه، وتأخيرُ الفاعل لمراعاة الفواصل.
{قُلْنَا لاَ تَخَفْ} أي ما توهمتَ {إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} تعليلٌ لما يوجبه النهيُ من الانتهاء عن الخوف وتقريرٌ لغلبته على أبلغ وجهٍ وآكَدِه كما يُعرب عنه الاستئنافُ، وحرفُ التحقيق وتكريرُ الضمير وتعريفُ الخبر ولفظُ العلوّ المنبىءِ على الغلَبة الظاهرة وصيغةُ التفضيل.
{وَأَلْقِ مَا في يَمِينِكَ} أي عصاك كما وقع في سورة الأعراف، وإنما أُوثر الإبهامُ تهويلًا لأمرها وتفخيمًا لشأنها وإيذانًا بأنها ليست من جنس العِصِيِّ المعهودة المستتبعةِ للآثار المعتادة، بل خارجةٌ عن حدود سائرِ أفراد الجنسِ مبهمةُ الكُنْهِ مستتبِعةٌ لآثار غريبةٍ. وعدمُ مراعاة هذه النُّكتةِ عند حكايةِ الأمرِ في موضع آخرَ لا يستدعي عدمَ مراعاتها عند وقوع المحكيّ. هذا وحملُ الإبهامِ على التحقير بأن يراد لا تُبالِ بكثرة حبالِهم وعصيِّهم وألقِ العُوَيدَ الذي في يدك فإنه بقدرة الله تعالى يلقَفها مع وَحدته وكثرتها وصِغره وعِظَمها يأباه ظهورُ حالها فيما مر مرتين، على أن ذلك المعنى إنما يليق بما لو فعلتْ العصا ما فعلتْ وهي على هيئتها الأصليةِ وقد كان منها ما كان وقوله تعالى: {تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ} بالجزم جوابًا للأمر من لقِفه إذا ابتلعه والتقمه بسرعة، والتأنيثُ لكون {ما} عبارةً عن العصا أي تبتلع ما صنعوه من الحبال والعِصِيّ التي خُيّل إليك سعيُها وخِفّتُها، والتعبيرُ عنها بما صنعوا للتحقير والإيذانِ بالتمويه والتزوير، وقرئ تَلَقّف بتشديد القاف وإسقاطِ إحدى التاءين من تتلقف، وقرئ بالرفع على الحال أو الاستئنافِ والجملةُ الأمرية معطوفةٌ على النهي متمّمةٌ بما في حيزها لتعليل موجبِه ببيان كيفيةِ غلبتِه عليه الصلاة والسلام وعلوِّه، فإن ابتلاعَ عصاه لأباطيلهم التي منها أوجسَ في نفسه ما أوجس مما يقلَع مادّته بالكلية، وهذا كما ترى صريحٌ في أن خوفَه عليه الصلاة والسلام لم يكن مما ذكر من مخالجة الشكِّ للناس وعدمِ اتّباعِهم له عليه الصلاة السلام وإلا لعُلّل بما يُزيله من الوعد بما يوجب إيمانَهم واتباعَهم له عليه الصلاة والسلام، وقوله تعالى: {إِنَّ مَا صَنَعُواْ}.. إلخ، تعليلٌ لقوله تعالى: {تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ} وما إما موصولةٌ أو موصوفةٌ أي إن الذي صنعوه أو إن شيئًا صنعوه {كَيْدُ سَاحِرٍ} بالرفع على أنه خبرٌ لأن أن كيدُ جنسِ الساحر، وتنكيرُه للتوسل به إلى تنكير ما أضيف إليه للتحقير، وقرئ بالنصب على أنه مفعولُ صنعوا و{ما} كافةٌ، وقرئ كيدُ سحرٍ على أن الإضافةَ للبيان كما في علمُ فقةٍ أو على معنى ذي سحر أو على تسمية الساحر سحرًا مبالغةً وقوله تعالى: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحر} أي هذا الجنسُ {حَيْثُ أتى} أي حيث كان وأين أقبل، من تمام التعليل، وعدمُ التعرض لشأن العصا وكونِها معجزةً إلهية مع ما في ذلك من تقوية التعليلِ للإيذان بظهور أمرِها. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65)}.
{قَالُواْ} استئناف بياني كأنه قيل: فماذا فعلوا بعد ما قالوا ذلك؟ فقيل قالوا: {حَدِيثُ موسى} وإنما لم يتعرض لإجماعهم وإتيانهم مصطفين إشعارًا بظهور أمرهما وغنائهما عن البيان {إِمَّا أَن تُلْقِىَ} أي ما تلقيه أولًا على أن المفعول محذوف لظهوره أو تفعل الإلقاء أولًا على أن الفعل منزل منزلة اللازم {وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى} ما يلقيه أو أول من يفعل الإلقاء خيروه عليه السلام وقدموه على أنفسهم إظهارًا للثقة بأمرهم، وقيل: مراعاة للأدب معه عليه السلام.
وأن مع ما في حيزها منصوب بفعل مضمر أي إما تختار القاءك أو تختار كوننا أول من ألقى أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر إما القاؤك أو كوننا أول من ألقى.
واختار أبو حيان كونه مبتدأ محذوف الخبر أي القاؤك أول بقرينة {أَوْ نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى} وبه تتم المقابلة لكنها معنوية.
{قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)}.
{قَالَ} استئناف كما مر كأنه قيل: فماذا قال عليه السلام؟ فقيل قال: {بَلْ أَلْقُواْ} أنتم أولًا إظهارًا لعدم المبالاة بسحرهم وإسعافًا لما أوهموا من الميل إلى البدء في شقهم حيث غيروا النظم إلى وجه أبلغ إذ كان الظاهر أن يقولوا: وإما أن نلقى وليبرزوا ما معهم ويستفرغوا جهدهم ويستنفذوا قصارى وسعهم ثم يظهر الله تعالى شأنه سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه.
قيل وفي ذلك أيضًا مقابلة أدب بأدب، واستشكل بعضهم هذا الأمر ظنًا منه أنه يستلزم تجويز السحر فحمله دفعًا لذلك على الوعيد على السحر كما يقال للعبد العاصي: إفعل ما أردت، وقال أبو حيان: هو مقرون بشرط مقدر أي ألقوا إن كنتم محقين.
وفيه أنه عليه السلام يعلم عدم إحقاقهم فلا يجدي التقدير يريدون ملاحظة غيره.
وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى ذلك ولا إشكال فإن هذا كالأمر بذكر الشبهة لتنكشف.
والقول بأن تقديم سماع الشبهة على الحجة غير جائز لجواز أن لا يتفرغ لإدراك الحجة بعد ذلك فتبقى مما لا يلتفت إليه.
{فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} الفاء فصيحة معربة عن مسارعتهم إلى الإلقاء كما في قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر فانفلق} [البقرة: 60] أي فألقوا فإذا حبالهم إلخ.
وهي في الحقيقة عاطفة لجملة المفاجأة على الجملة المحذوفة وإذا فجائية وهي عند الكوفيين حرف وهو مذهب مرجوح عند أبي حيان وظرف زمان عند الرياشي وهو كذلك عنده أيضًا وظرف مكان عند المبرد وهو ظاهر كلام سيبويه ومختار أبي حيان والعامل فيها هنا {أَلْقَوْاْ} عند أبي البقاء.
ورد بأن الفاء تمنع من العمل، وفي البحر إنما هي معمولة لخبر المبتدأ الذي هو {حبالهم وَعِصِيَّهُمْ} إن لم يجعلها هي في موضع الخبر بل جعلنا الخبر جملة {يُخَيَّلُ} وإذا جعلناها في موضع الخبر وجعلنا الجملة في موضع الحال فالأمر واضح وهذا نظير خرجت فإذا الأسد رابض ورابضًا ولصحة وقوعها خبرًا يكتفي بها وبالمرفوع بعدها كلامًا فيقال: خرجت فإذا الأسد.
ونص الأخفش في الأوسط على أنها قد يليها جملة فعلية مصحوبة بقد فيقال: خرجت فإذا قد ضرب زيد عمرًا، وفي الكشاف التحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبًا لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلًا مخصوصًا وهو فعل المفاجأة، والجملة ابتدائية لا غير فتقدير الآية ففاجأ موسى وقت تخيل سعى حبالهم وعصيهم وهذا تمثيل، والمعنى على مفاجأة حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي انتهى، وفيه من المخالفة لما قدمنا ما فيه لكن أمر العطف عليه أوفق كما لا يخفى، وعنى بقوله: هذا تمثيل أنه تصوير للإعراب وأن إذا وقتية أوقع عليها فعل المفاجأة توسعًا لأنها سدت مسد الفعل والمفعول ولأن مفاجأة الوقت يتضمن مفاجأة ما فيه بوجه أبلغ، وما قيل: إنه أراد الاستعارة التمثيلية فيحتاج إلى تكلف لتحصيلها.
وضمير {إِلَيْهِ} الظاهر أنه لموسى عليه السلام بل هو كالمتعين، وقيل: لفرعون وليس بشيء، وأن وما في حيزها نائب فاعل {يُخَيَّلُ} أي يخيل إليه بسبب سحرهم سعيها وكأن ذلك من باب السيمياء وهي علم يقتدر به على إراء الصورة الذهنية لكن يشترط غالبًا أن يكون لها مادة في الخارج في الجملة ويكون ذلك على ما ذكره الشيخ محمد عمر البغدادي في حاشيته على رسالة الشيخ عبد الغني النابلسي في وحدة الوجود بواسطة أسماء وغيرها.
وذكر العلامة البيضاوي في بعض رسائله أن علم السيمياء حاصله إحداث مثالات خيالية لا وجود لها في الحس ويطلق على إيجاد تلك المثالات بصورها في الحس وتكون صورًا في جوهر الهواء وهي سريعة الزوال بسبب سرعة تغير جوهره ولفظ سيمياء معرب شيم يه ومعناه اسم الله تعالى انتهى.
وما ذكره من سرعة الزوال لا يسلم كليًا وهو عندي بعض من علم السحر. وعرفه البيضاوي بأنه علم يستفاد منه حصول ملكة نفسانية يقتدر بها على أفعال غريبة بأسباب خفية ثم قال: والسحر منه حقيقي ومنه غير حقيقي؛ ويقال له: الأخذ بالعيون وسحرة فرعون أتوا بمجموع الأمرين انتهى، والمشهور أن هؤلاء السحرة جعلوا في الحبال والعصي زئبقًا فلما أصابتها حرارة الشمس اضطربت واهتزت فخيل إليه عليه السلام أنها تتحرك وتمشي كشيء فيه حياة.
ويروى أنه عليه السلام رآها كأنها حيات وقد أخذت ميلًا في ميل؛ وقيل: حفروا الأرض وجعلوا فيها نارًا ووضعوا فوقها تلك الحبال والعصي فلما أصابتها حرارة النار تحركت ومشت وفي القلب من صحة كلا القولين شيء والظاهر أن التخيل من موسى عليه السلام قد حصل حقيقة بواسطة سحرهم، وروي ذلك عن وهب وقيل: لم يحصل.