فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمراد من الآية أنه عليه السلام شاهد شيئًا لولا علمه بأنه لا حقيقة له لظن فيها أنها تسعى فيكون تمثيلًا وهو خلاف الظاهر جدًا، وقرأ الحسن وعيسى {عصيهم} بضم العين وإسكان الصاد وتخفيف الياء مع الرفع وهو جمع كما في القراءة المشهور وقرأ الزهري والحسن وعيسى وأبو حيوة وقتادة والجحدري وروح وابن ذكوان وغيرهم {تخيل} بالتاء الفوقانية مبنيًا للمفعول وفيه ضمير الحبال والعصي.
و{سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} بدل اشتمال من ذلك الضمير ولا يضر الإبدال منه في كونه رابطًا لكونه ليس ساقطًا من كل الوجوه.
وقرأ أبو السمال {تخيل} بفتح التاء أي تتخيل وفيه أيضًا ضمير ما ذكر و{سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} بدل منه أيضًا، وقال ابن عطية: هو مفعول من أجله، وقال أبو القاسم بن حبارة الهذلي الأندلسي في كتاب الكامل: عن أبي السمال أنه قرئ {تخيل} بالتاء من فوق المضمومة وكسر الياء والضمير فيه فاعل و{سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} نصب على المفعول به.
ونسب ابن عطية هذه القراءة إلى الحسن، وعيسى الثقفي ومن بني {تخيل} للمفعول فالمخيل لهم ذلك هو الله تعالى للمحنة والابتلاء. وروي الحسن بن يمن عن أبي حيوة {مّن نَّخِيلٍ} بالنون وكسر الياء فالفاعل ضميره تعالى و{أَنَّهَا تسعى} مفعول به.
{فَأَوْجَسَ في نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} الإيجاس الإخفاء.
والخيفة الخوف وأصله خوفة قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون خوفة بفتح الخاء قلبت الواو ياء ثم كسرت الخاء للتناسب والأول أولى.
والتنوين للتحقير أي أخفى فيها بعض خوف من مفاجأة ذلك بمقتضى طبع الجبلة البشرية عند رؤية الأمر المهول وهو قول الحسن، وقال مقاتل: خاف عليه السلام من أن يعرض للناس ويختلج في خواطرهم شك وشبهة في معجزة العصا لما رأوا من عصيهم.
وإضمار خوفه عليه السلام من ذلك لئلا تقوى نفوسهم إذا ظهر لهم فيؤدي إلى عدم اتباعهم، وقيل: التنوين للتعظيم أي أخفى فيها خوفًا عظيمًا، وقال بعضهم: إن الصيغة لكونها فعلة وهي دالة على الهيئة والحالة اللازمة تشعر بذلك ولذا اختيرت على الخوف في قوله تعالى: {وَيُسَبّحُ الرعد بِحَمْدِهِ والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ} [الرغد: 13] ولا يأباه الإيجاس، وقيل: يأباه والأول هو الأنسب بحال موسى عليه السلام إن كان خوفه مما قاله الحسن والثاني هو الأنسب بحاله عليه السلام إن كان خوفه مما قاله مقاتل، وقيل: إنه أنسب أيضًا بوصف السحر بالعظم في قوله تعالى: {وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116] وأيد بعضهم كون التنوين لذلك بإظهار موسى وعدم إضماره فتأمل، وقيل: إنه عليه السلام سمع لما قالوا {إما أن تلقى} [طه: 65].. إلخ. القوا يا أولياء الله تعالى فخاف لذلك حيث يعلم أن أولياء الله تعالى لا يغلبون ولا يكاد يصح والنظم الكريم يأباه وتأخير الفاعل لمراعاة الفواصل.
{قُلْنَا لاَ تَخَفْ} أي لا تستمر على خوفك مما توهمت وادفع عن نفسك ما اعتراك فالنهي على حقيقته، وقيل: حرج عن ذلك للتشجيع وتقوية القلب {إِنَّكَ أَنتَ الاعلى} تعليل لما يوجبه النهي من الانتهاء عن الخوف وتقرير لغلبته على أبلغ وجه وآكده كما يعرب عن ذلك الاستئناف البياني وحرف التحقيق وتكرير الضمير وتعريف الخبر ولفظ العلو المنبىء عن الغلبة الظاهرة وصيغة التفضيل كما قاله غير واحد.
والذي أميل إليه أن الصيغة المذكورة لمجرد الزيادة فإن كونها للمشاركة والزيادة يقتضي أن يكون للسحرة علو وغلبة ظاهرة أيضًا مع أنه ليس كذلك وإثبات ذلك لهم بالنسبة إلى العامة كما قيل ليس بشيء إذ لا مغالبة بينهم وبينهم.
{وَأَلْقِ مَا في يَمِينِكَ} أي عصاك كما وقع في سورة الأعراف.
وكأن التعبير عنها بذلك لتذكيره ما وقع وشاهده عليه السلام منها يوم قال سبحانه له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا موسى} [طه: 17]، وقال بعض المحققين: إنما أوثر الإبهام تهويلًا لأمرها وتفخيمًا لشأنها وإيذانًا بأنها ليست من جنس العصي المعهودة المستتبعة للآثار المعتادة بل خارجة عن حدود سائر أفراد الجنس مبهمة لكنها مستتبعة لآثار غريبة.
وعدم مراعاة هذه النكتة عند حكاية الأمر في مواضع أخر لا يستدعي عدم مراعاتها عند وقوع المحكي انتهى.
وحاصله أن الإبهام للتفخيم كأن العصا لفخامة شأنها لا يحيط بها نطاق العلم نحو {فَغَشِيَهُمْ مّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] ووقع حكاية الأمر في مواضع أخر بالمعنى والواقع نفسه ما تضمن هذه النكتة وإن لم يكن بلفظ عربي وإنما لم يعتبر العكس لأن المتضمن أوفق بمقام النهي عن الخوف وتشجيعه عليه السلام.
وقال أبو حيان: عبر بذلك دون عصاك لما في اليمين من معنى اليمن والبركة، وفيه أن الخطاب لم يكن بلفظ عربي، وقيل: الإبهام للتحقير بأن يراد لا تبالي بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويد الذي في يدك فإنه بقدرة الله تعالى يلقفها مع وحدته وكثرتها وصغره وعظمها.
وتعقب بأنه يأباه ظهور حالها فيما مر مرتين على أن ذلك المعنى إنما يليق بما لو فعلت العصا ما فعلت وهي على الهيئة الأصلية وقد كان منها ما كان، وما يحتمل أن أن تكون موصوفة ويحتمل أن تكون موصولة على كل من الوجهين، وقيل: الأنسب على الأول الأول وعلى الثاني الثاني، وقوله تعالى: {تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ} بالجزم جواب الأمر من لقفه ناله بالحذق باليد أو بالفم، والمراد هنا الثاني والتأنيث بكون ما عبارة عن العصا أي تبتلع ما صنعوه من الحبال والعصي التي خيل إليك سعيها، والتعبير عنها بما صنعوا للتحقير والإيذان بالتمويه والتزوير.
وقرأ الأكثرون {تَلْقَفْ} بفتح اللام وتشديد القاف وإسقاط إحدى التاءين من {تتلقف}.
وقرأ ابن عامر كذلك إلا أنه رفع الفعل على أن الجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا أو حال مقدرة من فاعل ألق بناءً على تسببه أو من مفعوله أي متلقفًا أو متلقفة؛ وجملة الأمر معطوفة على النهي متممة بما في حيزها لتعليل موجبه ببيان كيفية علوه وغلبه عليه السلام فإن ابتلاع عصاه عليه السلام لأباطيلهم التي منها أوجس في نفسه خيفة يقلع مادة الخوف بالكلية.
وزعم بعضهم إن هذا صريح في أن خوفه عليه السلام لم يكن من مخالجة الشك للناس في معجزة العصا وإلا لعلل بما يزيله من الوعد بما يوجب إيمانهم وفيه تأمل.
وقوله تعالى: {صَنَعُواْ إِنَّمَا صَنَعُواْ}.. إلخ. تعليل لقوله تعالى: {تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ} وما إما موصولة أو موصوفة أو مصدرية أي إن الذي صنعوه أو إن شيئًا صنعوه أو إن صنعهم {كَيْدُ سَاحِرٍ} بالرفع على أنه خبر إن أي كيد جنس الساحر، وتنكيره للتوسل به إلى ما يقتضيه المقام من تنكير المضاف ولو عرف لكان المضاف إليه معرفة وليس مرادًا.
واعترض بأنه يجوز أن يكون تعريفه الإضافي حينئذٍ للجنس وهو كالنكرة معنى وإنما الفرق بينهما حضوره في الذهن.
وأجيب بأنه لا حاجة إلى تعيين جنسه فإنه مما علم من قوله تعالى: {يُخَيَّلُ} [طه: 66].. إلخ. وإنما الغرض بعد تعيينه أن يذكر أنه أمر مموه لا حقيقة له وهذا مما يعرف بالذوق، وقيل: نكر ليتوسل به إلى تحقير المضاف.
وتعقب بأنه بعد تسليم إفادة ذلك تحقير المضاف لا يناسب المقام ولأنه يفيد انقسام السحر إلى حقير وعظيم وليس بمقصود.
وأيضًا ينافي ذلك قوله تعالى في آية أخرى: {وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116] إلا أن يقال عظمه من وجه لا ينافي حقارته في نفسه وهو المراد من تحقيره.
وقيل: إنما نكر لئلا يذهب الذهن إلى أن المراد ساحر معروف فتدبر.
وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن علي عليهم الرحمة {كَيْدَ} بالنصب على أنه مفعول {صَنَعُواْ} وما كافة.
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف في اختياره وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي وابن جرير {ساحر} بكسر السين وإسكان الحاء على معنى ذي سحر أو على تسمية الساحر سحرًا مبالغة كأنه لتوغله في السحر صار نفس السحر.
وقيل: على أن الإضافة لبيان أن الكيد من جنس السحر وهذه الإضافة من إضافة العام إلى الخاص وهي على معنى اللام عند شارح الهادي وعلى معنى من على ما يفهم من ظاهر كلام الشريف في أول شرح المفتاح وتسمى إضافة بيانية ويحمل فيما وجدت فيه المضاف إليه على المضاف.
ولا يشترط أن يكون بين المتضايفين عموم وخصوص من وجه وبعضهم شرط ذلك.
وقوله تعالى شأنه: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحر} أي هذا الجنس {حَيْثُ أتى} حيث كان وأين أقبل فحيث ظرف مكان أريد به التعميم من تمام التعليل ولم يتعرض لشأن العصا وكونه معجزة إلهية مع ما في ذلك من تقوية التعليل للإيذان بظهور أمرها.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا «أخذتم الساحر فاقتلوه ثم قرأ: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى} قال: لا يؤمن حيث وجد» وقرأت فرقة {أَيْنَ أتى}. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن السحرة لما جمعهم فرعون واجتمعوا مع موسى للمغالبة قالوا له متأدبين معه: {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى} وقد بين تعالى مقالتهم هذه في غير هذا الموضع. كقوله في الأعراف: {قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين} [الأعراف: 115]. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يحذف مفعول {نُلْقِيَ}، ومفعول أول من {ألقى} وقد بين تعالى في مواضع أخر أن مفعول إلقاء موسى هو عصاه وذلك في قوله في الأعراف: {أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف: 117]، وقوله في الشعراء: {فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء: 45]، وقوله هنا: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صنعوا} [طه: 69] الآية. وما في يمينه هو عصاه. كما قال تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى قَالَ هِيَ عَصَايَ} [طه: 17-18] الآية.
وقد بين تعالى أيضًا في موضع آخر: أن مفعول إلقائهم هو حبالهم وعصيهم، وذلك في قوله في الشعراء: {فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} [الشعراء: 44]. وقد أشار تعالى إلى ذلك أيضًا بقوله هنا {قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66]، لأن في الكلام حذفًا دل المقام عليه، والتقدير: قال بل ألقوا فألقوا حبالهم وعصيهم فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى. والمصدر المنسبك من {أن} وصلتها في قوله: {أَن تُلْقِيَ} وفي قوله: {أَن نَّكُونَ} فيه وجهان من الإعراب: الأول أنه في محل نصب بفعل محذوف دل المقام عليه، والتقدير: إما أن تختار أن تلقي أي تختار إلقاءك أولًا، أو تختار إلقاءنا أولًا. وتقدير المصدر الثاني: وإما أن تختار أن نكون أي كوننا أول من ألقى، والثاني أنه في محل رفع، وعليه فقيل هو مبتدأ والتقدير إما إلقاؤك أول، أو إلقاؤنا أول. وقيل خبر مبتدأ محذوف، أي إما الأمر إلقاؤنا أو إلقاؤك.
قوله تعالى: {قَالَ بَلْ أَلْقُواْ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما خيره سحرة فرعون أن يلقي قبلهم أو يلقوا قبله قال لهم: {أَلْقُواْ} يعني ألقوا ما أنتم ملقون كما صرح به في الشعراء في قوله تعالى: {قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} [الشعراء: 43] وذلك هو المراد أيضًا بقوله في الأعراف {قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس} [الأعراف: 116] الآية.
تنبيه:
قول موسى للسحرة: {ألقوا} المذكور في الأعراف، وطه، والشعراء، فيه سؤال معروف، وهو أن يقال: كيف قال هذا النَّبي الكريم للسحرة ألقوا. أي ألقوا حبالكم وعصيكم، يعني اعملوا السحر وعارضوا به معجزة الله التي أيد بها رسوله، وهذا أمر بمنكر؟ والجواب هو أن قصد موسى بذلك قصد حسن يستوجبه المقام، لأن إلقاءهم قبله يستلزم إبراز ما معهم من مكائد السحر، واستنفاد أقصى طرقهم ومجهودهم. فإذا فعلوا ذلك كان في إلقائه عصاه بعد ذلك وابتلاعها لجميع ما ألقوا من إظهار الحق وإبطال الباطل ما لا جدال بعده في الحق لأدنى عاقل. ولأجل هذا قال لهم: ألقوا، فلو ألقى قبلهم وألقوا بعده لم يحصل ما ذكرنا، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى}.
قرأ هذا الحرف ابن ذكوان عن ابن عامر: {تخيَّل} بالتاء، أي تخيل هي أي الحبال والعصي أنها تسعى. والمصدر في {أنها تسعى} بدل من ضمير الحبال والعصي الذي هو نائب فاعل {تخيل} بدل اشتمال. وقرأ الباقون بالياء التحتية. والمصدر في {أَنَّهَا تسعى} نائب فاعل {يُخَيَّلُ}.
وفي هذه الآية الكريمة حذف دل المقام عليه، والتقدير: قال بل ألقوا فألقوا حبالهم وعصيهم، فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى. وبه تعلم أن الفاء في قوله: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ} عاطفة على محذوف كما أشار لنحو ذلك ابن مالك في الخلاصة بقوله:
وحذف متبوع بدا هنا استبح

وإذا هي الفجائية، وقد قدمنا كلام العلماء فيها فأغنى ذلك عن إعادته هنا. والحبال: جمع حبل، وهو معروف. والعصي جمع عصا، وألف العصا منقلبة عن واو، ولذا ترد إلى أصلها في التثنية: ومنه قول غيلان ذي الرمة:
فجاءت بنسج العنكبوت كأنه ** على عصويها سابري مشبرق

وأصل العصي عصوو على وزن فعول جمع عصا. فأعل بإبدال الواو التي في موضع اللام ياء فصار عصوبًا، فأبدلت الواو باء وأدغمت في الياء، فالياءان أصلهما واوان. وإلى جواز هذا النوع من الإعلال في واوي اللام مما جاء على فعول أشار في الخلاصة بقوله:
كذاك ذا وجهين جا الفعول من ** ذي الواو لام جمع أو فرد يعن

وضمه الصاد في {وَعِصِيُّهُمْ} أبدلت كسرة لمجانسة الياء، وضمة عين {عِصِيِّهِمْ} أبدلت كسرة لإتباع كسرة الصاد. والتخيل في قوله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} هو إبداء أمر لا حقيقة له، ومنه الخيال. وهو الطيف الطارق في النوم. قال الشاعر:
ألا يا لقومي للخيال المشوق ** وللدار تنأى بالحبيب ونلتقي

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} يدل على أن السحر الذي جاء به سحرة فرعون تخييل لا حقيقة له في نفس الأمر. وهذا الذي دلت عليه آية طه هذه دلت عليه آية الأعراف وهي قوله تعالى: {فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس} [الأعراف: 116] الآية، لأن قوله: {سحروا أَعْيُنَ الناس} يدل على أنهم خيلوا لأعين الناظرين أمرًا لا حقيقة له. وبهاتين الآيتين احتج المعتزلة ومن قال بقولهم على أن السحر خيال لا حقيقة له.
والتحقيق الذي عليه عليه جماهير العلماء من المسلمين: أن السحر منه ما هو أمر له حقيقة لا مطلق تخييل لا حقيقة له، ومما يدل على أن منه ما له حقيقة قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] فهذه الآية تدل على أنه شيء موجود له حقيقة تكون سببًا للتفريق بين الرجل وامرأته وقد عبر الله عنه بما الموصولة وهي تدل على أنه شيء له وجود حقيقي. ومما يدل على ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد} [الفلق: 4] يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن في عقدهن. فلولا أن السحر حقيقة لم يأمر الله بالاستعاذة منه. وسيأتي إن شاء الله أن السحر أنواع: منها ما هو أمر له حقيقة، ومنها ما هو تخييل لا حقيقة له. وبذلك يتضح عدم التعارض بين الآيات الدالة على أن له حقيقة، والآيات الدالة على أنه خيال.