فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم إن العلم بأنه معجز لا يتوقف على علم السحر أصلًا.
ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم كانوا يعلمون المعجز، ويفرقون بينه وبين غيره، ولم يكونوا يعلمون السحر ولا تعلموه ولا علموه والله أعلم. انتهى.
ولا يخفى أن كلام ابن كثير هذا صواب، وأن رده على الرازي واقع موقعه، وأن تعلم السحر لا ينبغي أن يختلف في منعه. لقوله جل وعلا: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} [البقرة: 102]. وقول ابن كثير في كلامه المذكور: وفي الصحيح: «من أتى عرافًا أو كاهنًا....» إلخ. إن كان يعني أن الحديث بذلك صحيح فلا مانع، وإن كان يعني أنه في الصحيحين أو أحدهما فليس كذلك. وبذلك كله تعلم أن قول ابن حجر في فتح الباري. وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لأمرين: إما لتمييز ما فيه كفر من غيره. وإما لإزالته عمن وقع فيه. فأما الأول: فلا محذور فيه إلا من جهة الاعتقاد، فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة الشيء بمجرده لا تستلزم منعًا. كمن يعرف كيفية عبادة أهل الأوثان للأوثان. لأن كيفية ما يعلمه الساحر إنما هي حكاية قول أو فعل، بخلاف تعاطيه والعمل به.
وأما الثاني فإن كان لا يتم كما زعم بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحل أصلًا، وإلا جاز للمعنى المذكور. اهـ. خلاف التحقيق، إذ ليس لأحد أن يبيح ما صرح الله بأنه يضر ولا ينفع، مع أن تعلمه قد يكون ذريعة للعمل به، والذريعة إلى الحرام يجب سدها كما قدمناه. قال في المراقي:
سد الذرائع إلى المحرم ** حتم كفتحها إلى المنحتم

هذا هو الظاهر لنا. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثامنة:
اعلم أن العلماء اختلفوا في حل السحر عن المسحور. فأجازه بعضهم، ومنعه بعضهم. وممن أجازه سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى. قال البخاري في صحيحه باب هل يستخرج السحر: وقال قتادة: قلت لسعيد بن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه، أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح. فأما ما ينفع فلم ينه عنه. اهـ. ومال إلى هذا المزني. وقال الشافعي: لا بأس بالنشرة. قاله القرطبي. وقال أيضًا: قال ابن بطال: وفي كتاب وهب بن منبه: أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل. فإنه يذهب عنه كل ما به إن شاء الله تعالى، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله انتهى منه.
وممن أجاز النشرة وهي حل السحر عن المسحور: أبو جعفر الطبري، وعامر الشعبي وغيرهما. وممن كره ذلك: الحسن. وفي الصحيح عن عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما سحره لبيد بن الأعصم: هل تنشرت؟ فقال: «أما الله فقد شفاني وكرهت أن أثير على الناس شرًا».
قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه في هذه المسألة: أن استخراج السحر إن كان بالقرآن كالمعوذتين، وآية الكرسي ونحو ذلك مما تجوز الرقيا به فلا مانع من ذلك. وإن كان بسحر أو بألفاظ عجمية، أو بما لا يفهم معناه، أو بنوع آخر مما لا يجوز فإنه ممنوع. وهذا واضح وهو الصواب إن شاء الله تعالى كما ترى.
وقال ابن حجر في فتح الباري ما نصه: تكميل قال ابن القيم رحمه الله: من أنفع الأدوية، وأقوى ما يوجد من النشرة مقاومة السحر الذي هو من تأثيرات الأرواح الخبيثة بالأدوية الإلهية: من الذكر، والدعاء، والقراءة، فالقلب إذا كان ممتلئًا من الله، معمورًا بذكره، وله ورد من الذكر والدعاء والتوجه، لا يخل به كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له. وسلطان تأثير السحر هو في القلوب الضعيفة. ولهذا غالب ما يؤثر فيه النساء والصبيان والجهال. لأن الأرواح الخبيثة إنما تنشط على الأرواح، تلقاها مستعدة لما يناسبها انتهى ملخصًا. ويعكر عليه حديث الباب، وجواز السحر على النَّبي صلى الله عليه وسلم، مع عظيم مقامه، وصدق توجهه، وملازمة ورده ولكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن الذي ذكره محمول على الغالب، وإنما وقع به صلى الله عليه وسلم لبيان تجويز ذلك، والله أعلم انتهى من فتح الباري.
المسألة التاسعة:
اعلم أن العلماء اختلفوا في تحقيق القدر الذي يمكن أن يبلغه تأثير السحر في المسحور، واعلم أن لهذه المسألة واسطة وطرفين: طرف لا خلاف في أن تأثير السحر يبلغه كالتفريق بين الرجل وامرأته، وكالمرض الذي يصيب المسحور من السحر ونحو ذلك، ودليل ذلك القرآن والسنة الصحيحة. أما القرآن فقوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِه} [البقرة: 102] فصرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة بأن من تأثير السحر التفريق بين المرء وزوجه. وأما السنة فما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها بألفاظ متعددة متقاربة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن. فقال: «يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم رجل من بني زريق حليف اليهود كان منافقًا، قال: وفيم؟ قال: في مشط ومشاطة؟ قال: وأين؟ قال: في جف طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذروان» قالت: فأتى النَّبي صلى الله عليه وسلم البئر حتى استخرجه، فقال: «هذه البئر التي رأيتها، وكأن ماءها نقاعة الحناء، وكأنه نخلها رؤوس الشياطين، فاستخرج» قالت فقلت: أفلا أي تنشرت؟ فقال: «أما الله فقد شفاني وأكره أن أثير على أحد من الناس شرًا». اهـ. هذا لفظ البخاري في بعض رواياته لهذا الحديث. والقصة مشهورة صحيحة. ففي هذا الحديث الصحيح: أن تأثير السحر فيه صلى الله عليه وسلم سبب له المرض. بدليل قوله: «أما الله فقد شفاني» وفي بعض الروايات الثابتة في صحيح البخاري وغيره بلفظ: فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال مطبوب. أي مسحور. وهو تصريح بأن السحر سبب له وجعًا. ونفي بعض الناس لهذه القصة مستدلًا بأنها لا تجوز في حقه صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى عن الكفار منكرًا عليهم. {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا} [الإسراء: 47] ساقط. لأن الروايات الصحيحة الثابتة لا يمكن ردها بمثل هذه الدعاوى. وسترى في آخر بحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى إيضاح وجه ذلك. وطرف لا خلاف في أن تأثير السحر لا يمكن أن يبلغه. كإحياء الموتى. وفلق البحر ونحو ذلك.
قال القرطبي في تفسيره: أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد والقمل والضفادع، وفلق البحر، وقلب العصا، وإحياء الموتى، وإنطاق العجماء، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام. فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون لا يفعله الله عند إرادة الساحر. قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وإنما منعنا ذلك بالإجماع ولولاه لأجزناه انتهى كلام القرطبي.
وأما الواسطة فهي محل خلاف بين العلماء، وهي هل يجوز أن ينقلب بالسحر الإنسان حمارًا مثلًا، والحمار إنسانًا؟ وهل يصح أن يطير الساحر في الهواء، وأن يستدق جسمه حتى يدخل من كوة ضيقة. وينتصب على رأس قصبة، ويجري على خيط مستدق، ويمشي على الماء، ويركب الكلب ونحو ذلك. فبعض الناس يجيز هذا. وجزم بجوازه الفخر الرازي في تفسيره، وكذلك صاحب رشد الغافل وغيرهما. وبعضهم يمنع مثل هذا.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما بالنسبة إلى أن الله قادر على أن يفعل جميع ذلك، وأنه يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب وإن لم تكن هناك مناسبة عقلية بين السبب والمسبب كما قدمناه مستوفى في سورة مريم فلا مانع من ذلك، والله جل وعلا يقول {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [البقرة: 102]. وأما بالنسبة إلى ثبوت وقوع مثل ذلك بالفعل فلم يقم عليه دليل مقنع. لأن غالب ما يستدل عليه به قائله حكايات لم تثبت عن عدول، ويجوز أن يكون ما وقع منها من جنس الشعوذة والأخذ بالعيون، لا قلب الحقيقة مثلًا إلى حقيقة أخرى.
وهذا هو الأظهر عندي، والله تعالى أعلم.
تنبيه:
اعلم أن ما وقع من تأثير السحر في رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستلزم نقصًا ولا محالًا شرعيًا حتى ترد بذلك الروايات الصحيحة. لأنه من نوع الأعراض البشرية، كالأمراض المؤثرة في الأجسام، ولم يؤثر البتة فيما يتعلق بالتبليغ. واستدلال من منع ذلك زاعمًا أنه محال في حقه صلى الله عليه وسلم بآية {إِذْ يَقُولُ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا} [الإسراء: 47] مردود كما سنوضحه إن شاء الله في آخر هذا البحث.
قال ابن حجر في الفتح: قال المازري: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها. قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل. وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع، إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم، وأنه يوحى إليه بشيء ولم يوح إليه شيء. قال المازري: هذا كله مردود. لأن الدليل قد قام على صدق النَّبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى، وعلى عصمته في التبليغ. والمعجزات شاهدات بتصديقه. فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل. وأما ما يتعلق ببعض أ/ور الدنيا التي لم يبعث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها، فهو في ذلك عرضة لما يعتري البشر كالأمراض. فغير بعيد أن يخيل الله في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين. قال: وقد قال بعض الناس: إن المراد بالحديث: أنه كان صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطئهن وهذا كثيرًا ما يقع تخيله للإنسان في المنام. فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة.
قلت: وهذا قد ورد صريحًا في رواية ابن عيينة في الباب الذي يلي هذا، ولفظه: «حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن» وفي رواية الحميدي «أنه يأتي أهله ولا يأتيهم» قال الداودي: «يرى» بضم أوله أي يظن. وقال ابن التين: ضبطت «يرى» بفتح أوله. قلت: وهو من الرأي لا من الرؤية فيرجع إلى معنى الظن.
وفي مرسل يحيى بن يعمر عند عبد الرزاق: سحر النَّبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة، حتى أنكر بصره. وعنده في مرسل سعيد بن المسيب: حتى كاد ينكر بصره. قال عياض فظهر بهذا أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه، لا على تمييزه ومعتقده. قلت: ووقع في مرسل عبد الرحمن بم كعب عند ابن سعد: فقالت أخت لبيد بن الأعصم: إن يكن نبيًّا فسيخبر، وإلا فسيذهله هذا السحر حتى يذهب عقله: قلت: فوقع الشق الأول كما في هذا الحديث الصحيح.
وقد قال بعض العلماء: لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت. فلا يبقى على هذا للملحد حجة.
وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد بالتخيل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته من الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فتر من ذلك كما هو شأن المعقود: ويكون قوله في الرواية الأخرى «حتى كاد ينكر بصره» أي صار كالذي أنكر بصره بحيث إنه إذا رأى الشيء يخيل إليه أنه على غير صفته. فإذا تأمله عرف حقيقته. ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم في خبر من الأخبار أنه قال قولًا فكان بخلاف ما أخبر به. وقال المهلب: صون النَّبي صلى الله عليه وسلم من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده، فقد مضى في الصحيح: أن شيطانًا أراد أن يفسد عليه صلاته، فأمكنه الله منه. فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يدخل نقصًا على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض: من ضعف عن الكلام، أو عجز عن بعض الفعل، أو حدوث تخيل لا يستمر بل يزول. ويبطل الله كيد الشياطين.
واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث: «أما أنا فقد شفاني الله» وفي الاستدلال به نظر. لكن يؤيد المدعي أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في الدلائل: فكان يدور ولا يدري ما وجعه. وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد: مرض النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ عن النساء والطعام والشراب. فهبط عليه ملكان. الحديث انتهى من فتح الباري.
وعلى كل حال فهو صلى الله عليه وسلم معصوم بالإجماع من كل ما يؤثر خللًا في التبليغ والتشريع. وأما بالنسبة إلى الأعراض البشرية: كأنواع الأمراض والآلام، ونحو ذلك فالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يعتريهم من ذلك ما يعتري البشر. لأنهم بشر كما قال تعالى عنهم: {إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11] ونحو ذلك من الآيات.
وأما قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا} [الإسراء: 47] فمعناه أنهم يزعمون أنه صلى الله عليه وسلم مسحور أو مطبوب، قد خبله السحر فاختلط عقله فالتبس عليه أمره. يقولون ذلك لينفروا الناس عنه. وقال مجاهد: «مسحورًا» أي مخدوعًا. مثل قوله: {فأنى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89] أي من أين تخدعون. ومعنى هذا راجع إلى ما قبله. لأن المخدوع مغلوب في عقله. وقال أبو عبيدة {مَّسْحُورًا} معناه أن له سحرًا أي رئة فهو لا يستغني عن الطعام والشراب، فهو مثلكم وليس بملك.
كقولهم {مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} [الفرقان: 7]، وقوله عن الكفار {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 33-34] ونحو ذلك من الآيات. ويقال لكل من أكل أو شرب من آدمي أو غيره: مسحور ومسحر. ومنه قول لبيد:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا ** عصافير من هذا الأنام المسحر

وقال امرؤ القيس:
أرانا موضعين لأمر غيب ** ونسحر بالطعام وبالشراب

أي نغذى ونعلل.
وإذا علمت أن أقوال العلماء في قوله: «مَّسْحُورًا» راجعة إلى دعواهم اختلال عقله بالسحر أو الخديعة، أو كونه بشرًا علمت أنه لا دليل في الآية على منع بعض التأثيرات العرضية التي لا تعلق لها بالتبليغ والتشريع كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
وقد أشرنا فيما تقدم لحكم ساحر أهل الذمة، واختلاف العلماء في قتله، واستدلال من قال بأنه لا يقتل بعدم قتله صلى الله عليه وسلم لبيد بن الأعصم الذي سحره. والقول بأنه قتله ضعيف، ولم يثبت أنه قتله. وأظهر الأقوال عندنا أنه لا يكون أشد حرمة من ساحر المسلمين، بل يقتل كما يقتل ساحر المسلمين. وأما عدم قتله صلى الله عليه وسلم لابن الأعصم فقد بينت الروايات الصحيحة أنه ترك قلته اتقاء إثارة فتنة، فدل على أنه لولا ذلك لقتله. وقد ترك المنافقين لئلا يقول الناس محمد يقتل أصحابه. فيكون في ذلك تنفير عن دين الإسلام مع اتفاق العلماء على قتل الزنديق وهو عبارة عن المنافق والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65)}.
تقدمت هذه القصة ومعانيها في سورة الأعراف سوى أن الأوليّة هنا مصرّح بها في أحد الشقّين.
فكانت صريحة في أن التخيير يتسلط على الأولية في الإلقاء، وسوى أنه صرّح هنا بأن السحر الذي ألقوْهُ كان بتخييل أن حبالهم وعصيّهم ثعابين تسعى لأنها لا يشبهها في شكلها من أنواع الحيوان سوى الحيات والثعابين.
والمفاجأة المستفادة من إذا دلّت على أنهم أعدّوها للإلقاء وكانوا يخشون أن يمرّ زمان تزول به خاصياتها فلذلك أسرعوا بإلقائها.
وقرأ الجمهور: {يُخيّل} بتحتيّة في أول الفعل على أن فاعله المصدر من قوله: {أنَّها تسعى}.
وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر، ورَوحٌ عن يعقوب {تُخيّل} بفوقية في أوله على أنّ الفعل رافع لضمير {حِبَالُهُم وعِصِيُّهُم}، أي هي تخيل إليه.